دائما ما تسبق قمم الناتو حالة من الصخب الإعلامى العام سواء سياسيا أو عسكريا و يتمحور هذا الصخب حول وهم صناعة القوة الذى نشأ و نما عقب الحرب العالمية الثانية و أفضى إلى دخول كافة الدول الرابحة و الخاسرة بعد الحرب تحت الوصاية الأمريكية خاصة بعد مشروع مارشال لإنقاذ الدول الأوروبية من العوز و الدمار و تبع ذلك سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على كافة المؤسسات الدولية التى أسستها و ضمنت معها الأصوات الغربية الموضوعة تحت الوصاية الأمريكية حتى هذه اللحظة . مع وصول دونالد ترامب للسلطة تغيرت كثير من الأوضاع السياسية و الإقتصادية و العسكرية منذ عقود قبل وصوله و بالتالى كان دعم المؤسسات السيادية الأمريكية لوصول ترامب للسلطة دعما ممنهجا فى محاولة للخروج من فخ للأزمة الأمريكية على محاور متعدده و التخلص من تحمل أعباء القوة العظمى المالية. و هذه المحاور بدأت بالحرب التجارية مع الصين ثم تبع ذلك تهديدات للشركات الأمريكية العالمية بالعودة إلى الداخل الأمريكى و إلا تعرضت لعقوبات ثم قام بتهديد دول الخليج بضرورة أن تدفع علنا مقابل الحماية و إلا فإن أسبوعين بدون حماية أمريكية تسقط عروش الخليج ثم الإنسحاب من المؤسسات و الإتفاقيات الدولية وصولا إلى تهديدات لدول المجموعة الأوروبية بصرورة ثمن الحماية مثلما فعل مع دول الخليج و صرح فى قمة لندن بأن دول الناتو تسهم الآن بما قيمته 170 مليار دولار منذ وصوله للسلطة تشارك بها فى دعم منظومة الناتو. و أتذكر هنا أنه مع إقامة إحتفال فى باريس عام 2018 بمناسبة مرور مائة عام على الحرب العالمية الأولى قال للقادة الأوروبيين لولانا لكنتم تتحدثون الألمانية الآن و هدد الرئيس الفرنسى بأنه لايريد أن يسمع منه مرة أخرى الحديث عن جيش أوروبى موحد فى الوقت الذى يتلاعب فيه الرئيس الأمريكى بقيادة الناتو طبقا للمصالح الأمريكية حتى و لو على حساب المصالح الغربية ثم دعم خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي مع وعد لن يتحقق بعقد إتفاقيات تفضيلية و تعويضية مع أمريكا عند تحقيق البريكسيت الكامل و تبع ذلك الضغط المباشر على فرنسا لتخرج من الإتحاد الأوروبى و هذا ما تجاهلته فرنسا إذن الهدف هو تفكيك الإتحاد الأوروبى حتى لاتواجه أمريكا أى تكتل موحد سياسيا و إقتصاديا و عسكريا حتى و لو كان تحت سيطرة أمريكا نفسها . التحريض المباشر ضد روسيا يبذل الرئيس الأمريكى و مؤسساته جهودا مضية لتحريض الأوروبيين ضد التحركات الروسية فى العالم. و بالطبع هو يريد إشعال صراع روسى أوروبى يهدف به إلى تكسير كافه القوى الدولية و يسوق أسبابه المعلنة حول ملف القرم ثم أوكرانيا على الرغم من أن روسيا لا تريد إحتلال أوكرانيا بل تأمين حدودها و التفاهم حول معاهدة الصواريخ القصيرة و المتوسطة المدى فى نفس الوقت الذى تتحرك فيه مؤسسات مالية أمريكية عالمية يقودها جورج سوروس للضغط على الحكومة الأوكرانية للسماح للأجانب بتملك الأرضى و لمن لا يعلم فإن أوكرانيا هى أحد أكبر مزارع العالم إذن هى معركة السيطرة على الغذاء و هى ليست مصادفة نهائيا بل عمل ممنهج . تعمل واشنطن على خلق حالة خلاف تمنع وصول الغاز الروسى إلى أوروبا عبر أوكرانيا و كما أعلنت روسيا أنه يوجد خلاف لكن لاتوجد نيه لتوقف تصدير الغاز عبر الأراضى الأوكرانية و الهدف من ذلك هو حصار البلطيق و لهذا خرجت روسيا بمشروعات متعدده لإمدادات الغاز عبر دول آسيا الوسطى إلى تركيا وصولا إلى أوروبا و كذلك خط إمداد يتجاوز طوله ثلاثة آلاف كلم مع الصين. سايكس – بيكو – سازنوف كانت إتفاقية دولية بين روسيا و فرنسا و إنجلترا للتفاهم على تقاسم مناطق النفوذ حول العالم و مع قيام الثورة البلشفية عام 1917 تراجعت روسيا و تقاسمت بريطانيا و فرنسا حصة روسيا فيما بينهما. مع صعود الرئيس الروسى بوتين للسلطة و تمكنه من إعاده الحياة إلى بلاده مرة أخرى و تمكينها على المستوى الإقليمى و الدولى لم يغب عن ذهنه نهائيا الخريطة و الإتفاق القديم الذى كانت روسيا تتمتع فيه بنفوذ فى إيران و العراق و بلاد الشام وصولا إلى تركيا و مناطق أخرى تطل على المياه الدافئة. و هنا ظهر الصراع مجددا فى مناطق الشرق الأوسط بين القوى الغربية بقيادة أمريكا و روسيا الإتحادية و الدليل موجود فى سوريا و ليبيا و العراق و مناطق الخليج التى تريد إحداث توازن فى علاقاتها الخارجية بتواجد يرفع عنها عبء الضغط الأمريكى. الصراع الروسى الأمريكى فى أمريكا اللاتينية حيث أمريكا التى لم تتوقف منذ الخمسينات عن إحداث ما يشبه الدمار الشامل داخل المجتمعات اللاتينية حتى تفصل بين هذه الدول و روسيا الإتحادية أو الإتحاد السوفيتي السابق و هنا النموذج موجود فى كوبا و فنزويلا و بوليفيا. الصراع الأمريكى الصينى لا يجب أن يغيب عن أذهاننا النمو الإقتصادى و العسكرى الصينى و الذى أصبح يشكل عبئا و ضغطا نفسيا على الإدارات الأمريكية المتعاقبة حيث تمتلك الصين سندات دين أمريكى و أرصدة دولارية أمريكية بترليونات من الممكن أن تعاقب بها أمريكا حال إحتدام الصراع كما أنها دخلت فى تحالف مالى مع روسيا للتبادل بالعملات المحلية و إنشاء سويفت خاص بهما كما قيام روسيا بالتوجه لتقييم صادرات نفطيه باليورو و شراء كميات كبيرة من الذهب من الأسواق العالمية و كل هذا يضعف الدولار دوليا و هذا نفسه أحد أسباب تدمير العراق و ليبيا عندما قرر قادتهما تسعير النفط بغير الدولار . من هنا، يتضح أننا أمام أزمة نفوذ و إقتصاد طاحنة حول العالم هذا هو باطنها أما ظاهرها ضوضاء للتشويش بتفاصيل ممنهجة للتعتيم و التجهيل و لمن لايعلم لماذا تنحى أمريكا هذا المنحى فالمثال العملى و الحاضر كانت أمريكا تنتج إبان الحرب العالمية الثانية ما يتجاوز على 40% من الإنتاج العالمى فى كافة القطاعات بما وفر لها سيطرة إقتصادية و عسكرية أما الآن فهى لا تستطيع أن تتجاوز 20% على أفضل تقدير و بالتالى الدين الأمريكى المعلن بحدود تزيد على 22 تريليون دولار ليس حقيقيا بل واقع الحال يتجاوز 40 تريليون دولار إذن العملة الأمريكية لا تقيم سوى بقيمة ورق البنكنوت و أحبار الطباعة أى أن الدولار الذى يتحكم فى إقتصاديات العالم لا يساوى على أفضل تقدير 8 سنت. و هنا تكمن كارثة الإقتصاد العالمى المرتبط بالعملة الأمريكية و التى تقترب من السقوط و إسقاط العالم فى أزمة طاحنة تقوده إلى مواجهات عسكرية للسيطرة على مصادر الثروات بالكامل و فى مقدمتها الطاقة و هنا أسوق تصريحا للرئيس ترامب بأنه منذ عقود كان ينصح القادة الأمريكيين بالحفاظ على نفط العراق لكنهم لم يستمعوا له و أنه الآن فى السلطة و على الجميع أن ينصت له و كذلك السلوك الأمريكى فى سوريا بالإبقاء على حوالى 600 جندى أمريكى لحماية النفط و هذا أيضا حسب تصريح ترامب و هذا ما يفعله أيضا بنفط الخليج حيث يتم إرسال مجموعات أمريكية للتمركز و إعادة التمركز لنفس الغرض و لإغلاق الأبواب أمام روسيا من التواجد بقوة فى الخليج و بالتالى هو يدفع روسيا للبقاء فى إيران و التمركز هناك لتحويلها إلى عدو للخليج مع إيران و الروس يعلمون هذا جيدا كل ما سبق أسباب لابد أن ندعمها بالقول الواضح بأن حجم الناتج العالمى فى حدود 80 تريليون دولار فيما حجم الدين العالمى بحدود 240 تريليون دولار. مما سبق يتضح لنا حجم الأزمة العالمية التى تحياها شعوب العالم و أن القوى الدولية تعيش أوضاعا إقتصادية و أمنية و عسكرية صعبة جدا و رغم ذلك لاتريد التراجع أو التنازل مؤقتا لصالح قوى أخرى بل تؤمن بأن أى إنتقاص من نفوذها ينتقص من مواردها و بالطبع لايفكرون فى حلول أخرى سوى المواجهات المسلحة المباشرة و لكن هذه المرة لن تكون بداية المواجهات فى أوروبا كما فى الحربين العالميتين الأولى و الثانية لكن حسب تصورى ستكون فى منطقة الشرق الأوسط و التى تعيش منذ ما يقرب من عقدين من حروب مدمرة و تدخلات دولية و حروب بالوكالة تمهيدا و تجهيزا لأرض المعركة الكبرى و التى ستعرف إجتياح عسكرى غربى متواجد فعليا فى الشرق الأوسط و لكن التحرك سيكون بموجه فوضى جديدة بنهاية ديسمبر الحالى و الموجه الثانية ستكون بحلول منتصف العام القادم لتتحرك على إثر ذلك قوات التدخل السريع فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا و المتمركزة فى إسبانيا و يتزامن معها قوات أفريكوم مع إشعال ممنهج للوضع الداخلى فى دول الشمال الإفريقى و العراق و الشام بالكامل و إيران و الخليج و محاولات مستميته لإحداث فوضى فى مصر و إشعال حدودها الأربع و هذا أيضا يستهدف التواجد الروسى و الصينى فى المنطقة و لا نستبعد الصراع على ثروات الغاز فى شرق المتوسط من المعادلة نهائيا . المتغيرات الدولية المتلاحقة و التى تشبه تصادم الأمواج المتلاطمة تؤكد حالة الأزمة و الفوضى التى تقود إلى صدام شامل لا يعرف و لا يفهم إلى أى مدى سيصل و من سيحيا على وجه البسيطة و من سيكون قد إستقر فى باطنها .
محمد الألفي- خبير في العلاقات الدولية، خاص لوكالة أنباء “رياليست”