القاهرة – (رياليست عربي): يا صديقي..
تجمعنا مئات المسائل، فلا تفرقنا مسألة!!..
لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات؛
فأحيانًا كسب القلوب أولى من كسب المواقف..
لا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها؛
فربما تحتاجها للعودة يوما ما..
اِكره الخطأ، لكن لا تكره المخطئ،
اِنتقد القول، لكن اِحترم القائل،
اِكره بكل قلبكَ المعصية، لكن سامح واِرحم العاصي،
فمَهمتنا هي القضاء على المرض.. لا على المرضى..
لا تحاول أن تكون مثاليًا في كل شيء؛ لكن..
إذا جاءكَ المهموم.. أنصِت،
وإذا جاءكَ المعتذر.. اِصفح،
وإذا قصدكَ المحتاج اِنفع،
وحتى لو حصدت شوكًا يوما ما.. كُن للورد زارعًا…
(الإمام الشافعي)

يمثل مسلسل (رسالة الإمام محمد بن إدريس الشافعي) عودة الدراما المصرية لإنتاج أعمال دينية – تاريخية ضخمة بعد أن تربعت الدراما السورية على هذا النوع من الأعمال خلال السنوات المنصرمة.
وعلى الرغم من عرض بضع حلقات من المسلسل، لكن منذ مشاهده الأولى أو بالأحرى تتراته المستهلة بصوت الفنان (خالد النبوي) الرخيم وهو يتلو أشعار الإمام الشافعي وكلماته الخالدة في وجداننا، يؤكد صُناعه أنهم يقدمون عملًا مميزًا يغردون به منفردين عن أقرانهم في سباق الدراما الرمضانية 2023.
توفرت في العمل عناصر عديدة تُبشر بنجاحه الكبير؛ يأتي في مقدمتها تصدر اسم (الأزهر الشريف) في تتر البداية كمراجع ديني وتاريخي للسيناريو والأحداث، وهي من المرات القليلة التي يتولى فيها الأزهر بكامل قوامه وقامته الرفيعة مراجعة عمل درامي، وليس شخص بعينه سواء كان يتبع الأزهر أو أية جهة دينية بالدولة، مما أضفى ثقلًا دينيًا للعمل باعتباره معتمدًا من أكبر مؤسسة دينية في العالم الإسلامي.
فريق الكتابة المميز تحت قيادة السيناريست والصحفي محمد هشام عُبَّيَّة، وكذلك المعالجة الدرامية المحبوكة للشخصيات التي قامت بها ورشة سرد (مريم نعوم وأحمد بدوي).. تصميم الملابس لصاحبة الباع الطويل في مجال الأعمال التاريخية سامية عبد العزيز.. كادرات التصوير والإضاءة شديدة الجاذبية والنعومة لتيمور تيمور.. موسيقى المبدع دائمًا تامر كروان التي تحمل في نغماتها جرسًا أندلسيًا أثيريًا.. الإخراج الأقرب إلى الواقعية للسوري الليث حجو.. وأخيرًا الاختيار الأكثر من موفق لخالد النبوي ذي القدرات التمثيلية الفذة لأداء دور الإمام الشافعي.. جميعها عوامل تشير إلى مساعي القائمين على المسلسل لتقديم عمل يصبو إلى نجاح واسع المدى وتأثير عميق الأثر.
يتناول المسلسل السنوات الست الأخيرة في حياة الإمام الشافعي، بعد أن ترك العراق عازفًا عن السياسة وشؤونها وتوجه إلى مصر بناءً على دعوة واليها العباس، حيث عكف على الكتابة وإعادة تحرير مؤلفاته وتنقيحها مرة أخرى؛ ومن أبزرها كتاب (الرسالة) الذي يعد أول مؤلف شامل في أصول الاستنباط من النصوص الدينية، وقد عُرف فيما بعد باسم (علم أصول الفقه). كما يتطرق المسلسل إلى مساعي ابن الوالي الأمير عبد الله للاستحواذ على السُلطة في مصر، وما جرى من أحداث في تلك الفترة.


يبدأ المسلسل بتقنية الاسترجاع أو الاستذكار (الفلاش باك) عندما اُتهم الشافعي بالتشيع بوشاية من قبل والي نجران الفاسد، وكان الشافعي آنذاك يتولى منصب القاضي، وينتقد أفعال الوالي ويعارضها، فسيق مُصفَّدًا مع تسعة من العلويين إلى الخليفة هارون الرشيد في بغداد لتُجز عنقه. وكان العباسيون في ذلك الوقت يعادون العلويين لأنهم يشاطرون بني العباس النسب النبوي، ويدعون أحقيتهم في المُلك. لما ضُربت رقاب العلويين التسعة، وحل الدور على الشافعي ألقى السلام على الرشيد، وأظهر من الفطنة وحسن البيان وطلاوة اللسان، فضلًا عن شهادة القاضي محمد بن الحسن الشيباني في حقه، وكان حاضرًا المحاكمة، ما جعل الرشيد يستميل إلى الشافعي عقلًا وقلبًا، ويقتنع ببراءته، ويصفح عنه، ويقربه إليه. لكن بعد وفاة الرشيد وتولي ابنه المأمون الخلافة مال إلى آراء المعتزلة الفلسفية، وكان منها الرأي القائل بخلق القرآن، فعرض المأمون على الشافعي منصب قاضي القضاة نظير إقراره بخلق القرآن، إلا أن الشافعي رفض وآثر الرحيل عن العراق قاصدًا مصر، حيث أنشد أبياته الشهيرة:
أَصبَحَت نَفسي تَتوقُ إِلى مِصرِ وَمِن دونِها أَرضُ المَهامَةِ وَالقَفرِ
فَوَاللَهِ لا أَدري أَلِلفَوزِ وَالغِنى أُساقُ إِلَيها أَم أُساقُ إِلى القَبرِ

استوقفني كثيرًا مشهد البداية في المسلسل، وأحسبه سيكون واحدًا من أجمل المشاهد في هذا العمل، وربما أجملها على الإطلاق.. الشافعي يؤمّ السجناء التسعة في صلاة الفجر بالزنزانة قبل المحاكمة، ثم يقطعه مشهد آخر يظهر فيه هارون الرشيد بقصره المنيف وهو يصلي الفجر أيضًا، حيث يبدأ المخرج على مدار ثواني معدودات في تقطيع مشهدي الصلاة بين الشافعي والرشيد بالتناوب. كلاهما يصلي وهو يستجدي من الله شيئًا؛ فالأول يطلب الرحمة والنجاة، والثاني ينشد العدل كما يظن. كل منهما له نيته؛ ومن النوايا الطيب والخبيث، والصالح والطالح، والحق الكامن في الباطل، والباطل الكامن في الحق..
من النقاط المحمودة في العمل تضفير أشعار الشافعي ومروياته في ثنايا الحوار وعتبات التترات، وأيضًا ظهور أسماء أبطال العمل وصُناعه مدونة بالخط الكوفي، مما أضفى مصداقية كبيرة على العمل، وصنع نوعًا من المحاكاة الحسية والروحية لأجواء هذا العصر. وكذلك المزج بين لسان أهل مصر العامي ولسان العرب الفصيح في إشارة إلى الهوية المصرية المتباينة عن الهوية العربية منذ قرون بعيدة من الزمان.. (إنه يتحدث بلسان أهل مصر)..
يعتبر الإمام الشافعي من كبار فقهاء الفقه الإسلامي، ويرجع تفرده بين سابقيه ولاحقيه، إلى أنه يمثل جسرًا متينًا بين مدرستي أهل الحديث وأهل الرأي، حيث تتلمذ على أيدي فقهاء المدينة وبغداد، فاجتمعت لديه المدرستان ومزج بينهما، كما أنه أول من وضع ضوابط القياس (الاجتهاد)، ورسم حدوده، ورتب مراتبه، وحدد الشروط الواجب توفرها في فقهائه، حيث يقول: (لقد أمر النبي بالاجتهاد، فالاجتهاد لا يكون إلا على طلب الشيء، وطلب الشيء لا يكون إلا بدلائل، والدلائل هي القياس).

عن الشافعي والمصريين
الإمام الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عُثمان بن شافع بن السّائب بن عُبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المُطلب بن عبد مناف جدّ جدّ النبي (ص)، وأمه يمنية من قبائل الأزد العربية. ولد في غزة سنة ١٥٠ هجريًا، لكن غزة ليست موطن آبائه، فقد خرج أبوه إليها لقضاء حاجة، فولد الشافعي هناك. توفي والده وهو صغير لا يتجاوز العامين، فذهبت به أمه إلى مكة، حيث نشأ وترعرع وتلقى علوم النحو واللغة والأدب والشعر والفقه والتفسير. لما بلغ الشافعي سن ١٥ توجه إلى المدينة مقصد طلاب العلم آنذاك كي يتتلمذوا على يد عالمها الجليل مالك بن أنس. شرع الشافعي فيما بعد في رحلاته ذهابًا وإيابًا طلبًا للعلم والدراسة ما بين مكة وبغداد إلى أن استقر به المقام في مصر سنة ١٩٩ هجريًا. توفي الشافعي سنة ٢٠٤ هجريًا وهو يبلغ من العمر ٥٤ عامًا، حيث خرج مئات الألوف من المصريين يشيعون جثمانه إلى مثواه الأخير في منطقة (القرافة) الواقعة شرقي القاهرة عند سفح جبل المقطم، والمعروفة باسم (القرافة الصُغرى) الممتدة من شارع صلاح سالم حتى مشارف جامع أحمد بن طولون. وهذه المنطقة هي جزء من القاهرة التاريخية المسجلة كأحد مواقع التراث العالمي من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) عام ١٩٧٩.

كان المصريون على مذهب الإمام مالك، لكن بعد قدوم الشافعي، قدّموه على المالكي، واستمعوا إليه، وافتتنوا به، كما قصدته جموع الناس من الشام والعراق واليمن وسائر الأقطار الإسلامية للتفقه على يديه.
وعلى الرغم من إن مصر تتبع رسميًا المذهب الحنفي، إلا أن الهوى العام لغالبية الشعب تميل إلى المذهب الشافعي بوجه خاص، حيث لا ينظر المصريون إلى الإمام الشافعي باعتباره عالمًا وفقيهًا رفيع الشأن فحسب، بل يرفعونه أيضًا إلى مرتبة الأولياء والصالحين والتابعين باعتباره سليل آل البيت النبوي.
والحقيقة إن الإمام الشافعي فينا كبارًا وصغارًا دون أن ندري، فهو في قلوب شيوخنا الذين يلقون برسائلهم في صحن ضريحه أو يتحلقون حوله قاصدين قضاء حوائجهم.. وهو في قلوب جموع المصلِّين وهم يجهرون عقب قراءة الفاتحة بكلمة (آمين).. وهو في قلوب عوامنا وخواصنا عندما يعتبون على سوء الرفقة فينشدون:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا
أو عندما تُذلَّل أمامنا الصعاب، وتتسع في عيوننا الدنيا بعد ضيقها؛ فنقول:
ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ..

خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.