دمشق – (رياليست عربي): للوهلة الأولى، هُيئ للكثيرين بأن الحرب في سورية، قد دخلت في ربع الساعة الأخير، وثمة مساعٍ جدّية للتوصل إلى حلول سياسية، تراها القوى الإقليمية والدولية ذات التأثير في الملف السوري، ضرورية لجهة الانتقال إلى إعادة ترتيب المشهد في الإقليم، مع البحث عن موجبات التهدئة والاستقرار. لكن وفي غمرة التمنيات بإنهاء الملف السوري، دخلت الحرب على سورية، نطاق المصالح الإقليمية والدولية، مع محاولات تلك القوى وعلى إختلاف مصالحها، تثبت النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي في سورية؛ وبالتالي، لا تزال هناك تحديات جمَّة تنتظر دمشق؛ هي تحديات تتعلق بطبيعة المرحلة القادمة؛ هذا الامر مرتبط بقدرة القوى الإقليمية والدولية على تسوية خلافاتها، واقتسام المصالح السياسية، خاصة أن المنطقة برمتها تشهد عملية إعادة تشكيل خرائط النفوذ السياسي والعسكري، وعلى اعتبار أن سوريا تُشكل إحدى الساحات التي تلتقي فيها المصالح الإقليمية والدولية، هذا الامر سيدفع بصراعات وتحالفات جديدة قائمة على تثبت مواقع النفوذ وتصفية الملفات العالقة، لا سيما أن مصالح الأطراف الفاعلة في الجغرافيا السورية، تتوزع بشكل قسّم الخارطة السورية إلى مناطق ساكنة ظاهرياً، ولكنها تحمل إمكانات الانفجار في أي وقت، تبعاً لقدرة اللاعبين في كل منطقة على الوصول إلى تفاهمات.
ضمن ما سبق، بات واضحاً أن الأزمة السورية تُعد من أعقدّ الأزمات في التاريخ الحديث والمعاصر، ذلك جراء تعدد الأطراف الإقليمية والدولية وتباين شبكة مصالحهم، وتضاد أهدافهم واختلاف استراتيجياتهم. من هنا، لا يُمكن إغفال تنامي التنسيق الروسي مع القوى المؤثرة في الأزمة السورية، وفي بعض الأحيان يكون تنسيقاً بعيدًا عن دمشق، “وربما ضدها”، لا سيما التنسيق مع تركيا وإسرائيل، فضلاً عن التنسيق الضمني مع الولايات المتحدة، ضمن إطار ما يُعرف بتقاسم مناطق النفوذ، ومنع الإشتباك المباشر، الأمر الذي تشكلت بموجبه ملامح مشهد سوري جديد عنوانه “التباينات حول مناطق النفوذ وترسيخ نظريات الأمر الواقع” بين القوى المتصارعة على سورية وفي سورية.
في ذات الإطار، فإن الدور الروسي في سوريا، مُركب ومُعقد، وليس خافياً على أحد، أن مروحة المصالح الروسية والتركية والأمريكية، لا ينبغي النظر إليها من الزاوية السورية فحسب، خاصة أنّ ما يربط هذه العلاقات، تحكمه مُحددات استراتيجية تتجاوز في ماهيتها الشأن السوري، ولا ضير من تنازل روسي في سوريا، مقابل تنازل تركي أمريكي في ملفات أُخرى وساحات متعددة؛ نتيجة لذلك، فقد هيئت روسيا أسباب التمدد في الجغرافية السورية لـ تركيا، تحت ذرائع متعددة أولها وفي مقدمتها، محاربة داعش، وترجمة هذه الرؤية، جاءت بعد مراكمة البيانات السياسية والعسكرية، والتي تؤكد بأن روسيا لم تُظهر حتّى الآن أيّ حزم أمام أنقرة، بُغية إجبارها على سحب قواتها من الجغرافية السورية، وبصرف النظر عن جدّية توجهات دمشق تُجاه تحرير المناطق المُحتلة في الشمال السوري، لكن هناك ضوابط روسية لهذه التوجهات، تحكمها جملة المصالح مع واشنطن وأنقرة.
الاقتتال بين قوات سورية الديمقراطية والعشائر في شمال سورية، لا يُمكن النظر إليه بتجرد، إذ يبدو أن كل القوى الفاعلة والمؤثرة في الجغرافية السورية، وتحديداً في الشمال الشرقي، لها غايات ومصالح من بقاء حالة الاقتتال بل وتوسعها، بما يخدم مصلحة كل قوة، وهذا يؤكد بشكل مباشر، بأن الجغرافية السورية باتت بيئة خصبة لنمو تحالفات معقدة، فـ تركيا ومثلها روسيا وإيران لديهم هواجس من الكُرد، وبالتوازي تركيا تدعم فصائل مسلحة، تراها روسيا وإيران وسورية تهديدا حقيقياً لـ جهة بقاء المشهد السوري في حالة من التعقيد واللا استقرار، وكل تلك القوى تبحث عن طُرق لإخراج القوات الأمريكية من سورية، ولكن!.
إبان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، برزت تأويلات وتحليلات متعددة، الأمر الذي وضع روسيا وإيران في زاوية التساؤلات المرتبطة بما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وما إذا كانت عدوى الانسحاب، ستنتقل إلى سوريا؛ في هذه الجزئية، يُدرك الجميع بأن عموم المنطقة تؤطرها تطورات بمناحي استراتيجية، ليس آخرها الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وسردية التوجهات الأمريكية الجديدة في عموم المنطقة، مع تبدل الأولويات في هذا الإطار، وفي غمرة ما سبق، عاد الحديث مُجدداً عن إمكانية إجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من شمال سوريا، مع قراءات أقرب ما تكون إلى الأمنيات، البعيدة عن مسار وحقائق ما يحدث في الشمال السوري.
المقاربة الأساسية في هذا السياق، تنطلق من جُملة تحديات معقدة، ولعل ما قاله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أثناء لقاءه الرئيس الأسد في موسكو في وقت سابق، لجهة أن الدولة السورية تسيطر على 90% من الأراضي السورية، يصب مباشرة في عمق التعقيدات المؤثرة في شمال شرق سوريا، إذ يُدرك بوتين ومعه الأسد، بأن جغرافية الشمال السوري، هي خارج سيطرة الدولة السورية، والقوات السورية ليست متواجدة إلا في بؤر جغرافية محددة، أما باقي مناطق الشمال السوري، فهي إما تحت سيطرة تركية، أو أمريكية.
الأمر الآخر، وفي ذات السياق، فقد قال بوتين أن القوات الأجنبية الموجودة من دون قرار من الأمم المتحدة، ومن دون موافقة دمشق، تحول دون عودة سوريا واحدة موحّدة، وهذا أيضاً يطرح جملة من التناقضات والتحديات في شمال شرق سوريا، فالواقع يؤكد بأن الوجود التركي في الجغرافية السورية، يحظى بتأييد روسي واضح، بخلاف الوجود الامريكي، والذي تراه موسكو مُعطلاً لأي حل سياسي في سوريا، لكن رغم ذلك، تُبقي موسكو على تعاونها مع واشنطن حاضراً في الملف السوري، انطلاقاً من رؤية موسكو بضرورة إبقاء موازين القوى بينها وبين واشنطن.
لا يخفى على أحد، بأنه ثمة واقع جديد يلوح في أفق شمال سورية. هو واقع سيكون مغايراً جملةً وتفصيلاً عن كل مراحل وعناوين الأزمة السورية، إذ يبدو واضحاً أنه ثمة إعادة تفكير ومقاربات جديدة لكل اللاعبين في الشمال السوري، وحُكماً هناك تغير في الأجندات، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الصدع الذي ضرب جغرافية الشمال السوري، قد يمتد إلى مناطق جغرافية أُخرى، تحكمها صراع المصالح، وتعارض الأجندات، بين كل القوى الحاكمة في الجغرافية السورية، لا سيما الولايات المتحدة وروسيا، فالجميع يسعى لكسب النقاط، وتعبئة سلته بما طاب من الجغرافية السورية.
وعطفاً على التحديات السابقة، وربطها بالمشهد الجديد في شمال شرق سوريا، ينبغي على دمشق، اعتماد مقاربات جديدة لجهة التعقيدات في شمال شرق سورية، ولا ضير إن قدمت دمشق بعض التنازلات السياسية، للحفاظ على وحدة الجغرافية السورية، وقطع الطريق على جملة المصالح الروسية والأمريكية والتركية وضمناً الإيرانية في مشهد شمال شرق سوريا، مع احتواء الهواجس الكردية، وتبني رؤيتهم، دون المساس بوحدة الأراضي السورية، دون ذلك، سيبقى استنزاف الشمال السوري، هو السمة الغالبة للملف السوري.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.