بعد المشاورات التى إستمرت لثلاث أيام بين القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة في الحراك في باماكو العاصمة والتى تعتبر الثانية داخلياً ضمن المشاورات التى إبتدرتها اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب “CNSP” وقد أسفرت هذه المباحثات إلى التوافق على مرحلة انتقالية من 18 شهراً، وكأول رد فعل رسمي من حراك ٥ يوينو الذى تزعم الاحتجاجات رفضها وقال أن الوثيقة التى تم نشرها فيما بعد اجتزئت منها عدد من النصوص، ومنها تأكيد المباحثات إلى قيادة البلاد تحت حكومة مدنية وهو ما لم يأتى في نصوص الوثيقة.
تأتى هذه المشاورات بعد ضغوط داخلية من إمكانية تحول مالي إلي ساحة حرب أهلية بعد سقوط نظام بوبكر كيتا، و في ظل ظروف استثنائية يسودها نمو النزعات الإنفصالية في الشمال من حركة تحرير أزواد، وبنفس الوقت يخوض الجيش الي جانب فرنسا حرباً شرسة مع التنظيمات المتطرفة في الشمال ضد تنظيم القاعدة وحركة نصرة الإسلام والمسلمين التي بايعة داعش وتتبنى عمليات نوعية ضد الجيش والقوات الفرنسية المتمركزة في الشمال منذ دخول فرنسا على خط الأزمة في 2013 عبر عملية سيرفال أولاً ثم لحقت بها عملية تاكوبا في الشهر المنصرم ٢٠٢٠، وجميع قيادة العمليات تأتى تحت إسم عملية برخان.
هذا فضلاً عن الضغوط الخارجية والجهود الإقليمية التى تقودها إكواس، والملاحظ أنه وبعد إستجابة اللجنة لطلباتها من إطلاق سراح المعتقلين وضمنهم الرئيس المعزول كيتا، قللت من لهجتها التصعيدية التى أعلنتها بداية الإنقلاب عندما أخطرت الدول بالإستعداد للتدخل عسكرياً في مالي، غير أنها تراجعت وأعطت مهلة للجنة الوطنية تمثلت في شهر كحد أقصى لتشكيل حكومة برئاسة ونائب أول مدني، هو ما مضت عليه المشاورات الأخيرة و تبقى فقط إختيار الشخصية التى تقود البلاد في الفترة المحددة و هل هي مدنية أم عسكرية.
تأثير الوضع السياسي في مالي على ساحل العاج؟
عطفاً على ما سبق لمشهد الحالة المالية فقد حدث في 13/9 إضطرابات كبيرة في العاصمة الإفوارية أبيدجان، وساحل العاج هي الجارة الجنوبية لمالي، وتمثل الثقل الإستراتيجي الأول لمجموع المستعمرات الفرانكفونية في غرب افريقيا، خاصة صداقة فرنسا مع رئيسها الحسن عبدالرحمن وترا الذى يعد مهندس علاقاتها هناك في الغرب الإفريقي، والحامي الفعلي لمشروعها الاستعماري الهادف لتمزيق مشروع إكواس الاقتصادي الذى تقوده نيجيريا وغانا للتحرر من العملة الفرنسية داخل إكواس والتى تتبناها أغلب دول غرب افريقيا، بينما تسعى ساحل العاج لإمتصاص هذا الإنتفاضة من الدول الأعضاء واستبدال عملة “الفرانك_سيفا” المتداولة في هذه الدول بعملة “الايكو”.
هذا إلى جانب نمو النزعة التحررية الإفريقية الكارهة للوجود الفرنسي في غرب الساحل، و بإمكانها العاجيين الاستلهام بالحالة المالية للتحرر من القبضة الفرنسية، ومن هنا يمكن أن تكون كوت ديفوار هي المرشح الثاني لخلل معادلة المصالح الفرنسية في دول الساحل. أما الرئيس العاجي وترا “٧٨ عاماً” المتزوج من الشقراء الفرنسية دومنيك وترا، هو أول رئيس يرفض الانقلاب على الرئيس المالي المعزول ابراهيم بوبكر كيتا، وأول رئيس يقوم بزيارة للعاصمة باماكو بعد الإنقلاب، والأول في المطالبة بتدخل القوة العسكرية التابعة لإكواس لردع الإنقلابين، وأول رئيس يزور باريس بعد الانقلاب، وذلك بعد أن أودع أوراق ترشحه للجنة الانتخابات الوطنية.
وفي مطلع هذا الأسبوع سمت النائبة الأولى للحزب الحاكم هنرييت دياباتي في مخاطبة واترا الذي وقف إلى جانبها خلال تجمع شارك فيه عشرات الآلاف من المؤيدين أقيم في ملعب هوفويت بوانيي: ” أسمّيك مرشحا لحزب تجمع أنصار هوفويت للديمقراطية والسلام لخوض الانتخابات الرئاسية في 31 أكتوبر 2020″. ثم علق وترا أثناء كلمه له: بأن الدستور يسمح له بالترشح مشيراً إلى الوفاة المفاجئة لرئيس الوزراء أمادو غون كوليبالي هي التى دفعته لتقديم اوراق ترشحه، وكولي بالي كان مرشحاً من الحزب الحاكم الذى يترأسه وترا، والجدير بالذكر هنا أن الحسن وترا قدم أوراق ترشحه للانتخابات الرئاسية إلى جانب 44 شخصية سياسية، وأهم هذه اأسماء: الرئيس السابق لوران غبابو، والرئيس الأسبق هنري كونان، والوزير الأول السابق غيوم سورو.
وبالمقابل وصفت المعارضة الخطوة بأنها غير دستورية، إذ لا يسمح الدستور المالي المعدل في 2016 بالترشح لأكثر من ولايتين، ووصفت المعارضة الوضع بالمتردى وربما يؤدى لإنزلاق الأوضاع باتجاه خيارات غير مرغوبه، في إشارة صريحة لوضع الحالة المالية.
وترا هو حليف وصديق حميم لفرنسا ويعمل معها لإجهاض مشروع المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “ايكواس” وهو من الموثوقين لديها، لكن مطالبة فرنسا له بالترشح للانتخابات المقبلة رغم عدم دستوريتها قد يؤدى إلى مواجهة مفتوحة مع الشارع يصبح مصيرها غير مدروس من فرنسا وهو ما يفقدها حليف استراتيجي قوى آخر في الساحل، فلن تجد فرنسا من يعوض هذا الفقد في دول الساحل حتى محمدو اسوفو رئيس النيجر الذي ترتبطه علاقات سياسية واقتصادية وثقافية مع فرنسا وقع في يلطوليو اتفاقية دفاعية مع تركيا، حاصر عبرها الوجود الفرنسي في شمال البلاد وأكسب تركيا موقع جيواستراتيجية بإعتبارها وافد جديد للمنطقة.
كما أن الرجل خلافاً لجهات داخلية ترفض ترشحه، تعارضه واشنطن في مستقبل العملية السياسية في كوت ديفوار، وهو ما جعل المخابرات الأمريكية تخرج تقرير مهم نهاية يوليو بعد إعلانه و عزمه للترشح، اتهمت فيه إبنه بتجارة المخدرات، ويتفرد بنفوذ قوى داخل مراكز الدولة، وهذا سيجعل واشنطن تعمل مع حلفائها في المنطقة وأهمهم نيجيريا لإستبعاده، وهنا لا نستبعد صعوبة تفاوض المصالح الأمريكية الفرنسية بل هي على الدوام قابل للتفاوض، هذا مع التأكيد على عودة قوى كبرى لمنطقة الساحل وأهمها روسيا وتركيا.
وبقراءة أولويات واشنطن الراهنة فإنها مقبلة أيضاً على انتخابات رئاسية بداية نوفمبر؛ ومع إهمال الإدارة الأمريكية الحالية لإفريقيا عموماً وهي الثغرة التى ظل ينتقد عبرها الديمقراطيين عبر منافسهم جو بايدن إدارة ترامب الذى لم يتدارك خطأ إهمال افريقيا حتى اللحظة؛ فالمتوقع مضى الحسن وترا في الترشح وربما بدعم من فرنسا يحصد الجولة القادمة في الانتخابات، وهذا يمكن حدوثه بتحييد بعض الظروف؛ وبالدرجة الأولى ينبغى إدراك ما يترتب على مستقبل العملية السياسية في مالي، ومدى رؤية الحل بالنسبة لواشنطن في هذا الصدد، مع ضرورة الدفع بقيادة موالية، ودعم المعارضة الإفوارية لإحداث توازن داخلي حتى تمنع أي إنتصار لفرنسا، وإذا لم تتدارك ذلك من الآن فعليها الإستعداد لرفض الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية للأضرار بالمصالح الفرنسية.
خاص “رياليست” الروسية، ابوبكر عبدالرحمن/ باحث في العلاقات الدولية.