القاهرة – (رياليست عربي): رحلت عن عالمنا منذ بضعة أسابيع الفنانة الكبيرة “سودابة تاجبخش” Soudabeh Tajbakhsh إحدى أشهر مغنيات الأوبرا الإيرانية في عصرها الذهبي. لعبت سودابة دور البطولة في العديد من العروض الموسيقية المهمة عقب تأسيس دار الأوبرا الإيرانية وتشكيل فرقة أوبرا طهران، لكن بعد اندلاع الثورة الإيرانية توقف نشاطها الفني، ولم يصدح صوتها ثانيةً.
تجاهل الإعلام الرسمي خبر وفاة صاحبة الصوت “السوبرانو الدرامي” كأنها لم تُلقب يومًا بـ “كنز أوبرا طهران”، ولم تكن إحدى رائدات الأوبرا الإيرانية في زمن جسدت فيه فرقة أوبرا طهران روائع الأعمال المحلية والعالمية.
البداية
ولدت سودابة تاجبخش بطهران عام 1929 في عائلة تعشق الموسيقى والغناء من ناحية الأم، حيث كان خالها “غُلام حُسين بَنان” Gholam-Hossein Banan من كبار مطربي الموسيقى التراثية ومؤسس جمعية الموسيقى الإيرانية. على الرغم من أن سودابة وجدت تشجيعًا كبيرًا من جانب أسرة أمها حتى تتعلم الموسيقى التراثية وتحترفها، إلا أنها فضلت الموسيقى الكلاسيكية.
في عام 1947، عُرضت في طهران أول أوبرا كاملة بإمكانيات محدودة، قدمتها مغنية نمساوية تُدعى “ليلى بارا” Leila Bara، كانت قد لجأت إلى إيران إبان الحرب العالمية الثانية (1939: 1945). عملت ليلى فترة من الوقت كأستاذة في “المعهد العالي للموسيقى” –معهد الموسيقى حاليًا– ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة، وحلت محلها المغنية الأرمنية الإيرانية “تمارا بيلوسيان” Tamara Pelosian. في تلك الأثناء، كانت سودابة تبلغ من العمر 18 سنة، فالتحقت بقسم الموسيقى الكلاسيكية، لكن بعد أقل من عام واحد، هاجرت مدام بيلوسيان إلى أوروبا.
تتلمذت سودابة بعد ذلك على يد مغنية الأوبرا التركية المشهورة “إيفلين باغ تشيبان” Evelyn Baghtcheban، زوجة الشاعر والملحن الإيراني “ثمين باغ تشيبان” Samin Baghtcheban، ثم سافرت في حِقبة الخمسينيات إلى ألمانيا كي تستكمل دراسة الموسيقى، حيث التحقت بأكاديمية كولونيا للموسيقى –أكاديمية كولونيا للموسيقى والرقص حاليًا Hochschule für Musik und Tanz Köln– ونهلت من معارف كبار الأساتذة هناك مثل “جوزيف مترنيخ”Joseph Meternich و”كليمنس جليتينبرج” Clemens Glettenberg.
العودة إلى إيران
عقب انتهاء دراستها في ألمانيا، شاركت سودابة في عدد من عروض دار أوبرا “ساربروكن” Theater Saarbrücken كمغنية زائرة، لكن نشاطها الفني في إيران بدأ فعليًا عام 1967 على نحو الصدفة. بعد حوالي 10 سنوات من الاغتراب عن الوطن، عادت سودابة إلى إيران في ربيع العام المذكور لزيارة عائلتها. وقد تزامنت هذه العودة مع زيارة ملك تايلاند “بوميبول أدولياديج” Bhumibol Adulyadej وقرينته الملكة “سيريكيت” Sirikit لطهران، فدُعيت سودابة كي تقدم عرضًا في قصر “جولستان” Golestan. وفقًا لما ذكرته المجلة الإيرانية الناطقة بالإنجليزية “إيران تريبون” Iran Tribune، حظي العرض باستحسان كبير من قبل الحكومة الإيرانية، واقترحت وزارة الثقافة والفنون –وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي حاليًا– على سودابة البقاء في إيران والتعاون مع فرقة أوبرا طهران.
أثناء دراسة سودابة في ألمانيا، تعرَّفت على المغني اليوناني “مايكل روسوس” Michael Rossos، وتزوجته، وأنجبت منه ولدين “آريس” Aris و”آرمان” Arman، لكن هذه الزوجة لم تستمر بسبب عودة سودابة إلى إيران.
افتتاح دار الأوبرا الإيرانية “قاعة رودكي”
في 25 أكتوبر 1967، اُفتتحت دار الأوبرا الإيرانية “قاعة رودكي” –الوحدة حاليًا– بالتزامن مع إقامة مراسم تتويج الشاه “محمد رضا بهلوي” في الذكرى 48 من ميلاده، وكلفت وزارة الثقافة والفنون حينها المؤلف الموسيقي “أحمد بيجمان” Ahmad Pejman بتأليف أول أوبرا إيرانية بمناسبة افتتاح قاعة رودكي، فوضع النوتة الموسيقية لأوبرا “حفل الدهقان (جشن دهگان)”.
تكونت أوبرا “حفل الدهقان” من فصل واحد يضم 3 لوحات غنائية، لعب بطولتها “حُسين سَرشار” Hossein Sarshar في دور (الدهقان العجوز)، و”سودابة تاجبخش” في دور (امرأة ريفية)، وأخرجها “عنايت رضائي” Enayat Rezai، وقاد أوركسترا طهران السيمفوني “حشمت سَنجري” Heshmat Sanjari.
يذكر الفنان الإيراني “عنايت رضائي” مدير دار الأوبرا آنذاك، أن هذا العمل التاريخي لا يوجد له مقطع مصور أو صورة فوتوغرافية للأسف الشديد، فقد انصب مجمل الاهتمام الإعلامي على حفل التتويج الملكي، ولم يلتفت أحد إلى هذا الحدث الفني الفريد من نوعه في ذلك الوقت.
التوهج الفني
في عام 1968 كلفت وزارة الثقافة والفنون “أحمد بيجمان” بتأليف أوبرا “بطل سَهَند (دلاور سهند)”. اُستلهم هذا العمل من حياة القائد العسكري “بابك خُرَّمي” زعيم “الحركة الخُرَّمية” ضد الخلافة العباسية في أذربيجان. لعب دورا البطولة “حسين سرشار” في دور (بابك) و”سودابة تاجبخش” في دور (رُخسارِة).
هناك نسخة مصورة بشكل غير احترافي من أوبرا “بطل سهند”، تعتبر العرض الوحيد المسجل لسودابة في قاعة رودكي، حيث يقول “رضائي” في هذا الصدد: “أغلب عروض الأوبرا كانت تُصور بجودة عالية من قبل إدارة قاعة رودكي، وكنا مطمئنين بأن المواد المسجلة هناك. من ناحية أخرى، لم يُسمح لنا بإجراء أية تسجيلات أو بالاحتفاظ بها وفق القوانين الإدارية. لم يكن أحد يتخيل أن هذه التغييرات المفاجئة ستحدث في إيران –أي الثورة – ويغدو الوصول إلى المواد المسجلة أمرًا مستحيلًا”.
العروض العالمية
تعتبر أوبرا “توسكا” Tosca من أنجح عروض سودابة في مجال الأوبرا العالمية، وهي من أشهر أعمال الموسيقار الإيطالي الشهير “جاكومو بوتشيني” Giacomo Puccini. قدمت فرقة أوبرا طهران “توسكا” لأول مرة عام 1968 من إخراج “عنايت رضائي”. استقبل النقاد هذا العرض استقبالًا حارًا، وأشادوا به في المطبوعات الرسمية، ووصفت الصحيفة الإيرانية الناطقة بالإنجليزية “كيهان إنترناشونال” Kayhan International صوت سودابة بأنه “كنز أوبرا طهران”.
قدمت سودابة على خشبة قاعة رودكي الدور الأول في مجموعة من العروض المتميزة مثل “ابنة توران” Turandot، و”السيدة فراشة Madama Butterfly للموسيقار الإيطالي “بوتشيني”، و”قوة القدر” La forza del destino للموسيقار الإيطالي “جوزيبي فيردي” Giuseppe Verdi، و”خسرو وشیرین” للموسيقار الإيراني “حُسين دِهلوي” Hossein Dehlavi. الناقدة الموسيقية الأرمنية الإيرانية “جانيت لازاریان” Janet Lazarian اعتبرت في مقال لها بمجلة “فردوسي” الصادرة في مايو 1968، أن سودابة أنجح مغنية أوبرا في هذا الموسم.
ي عام 1972 انفصلت سودابة عن فرقة أوبرا طهران، وبعد فترة وجيزة، عادت إلى ألمانيا لاستكمال حياتها هناك. في السنوات التالية، دُعيت عدة مرات للمشاركة في عروض قاعة رودكي كمغنية زائرة. من أبرز أعمال سودابة في تلك المرحلة دور (سينتا) Senta في أوبرا “الهولندي الطائر” the Flying Dutchman للموسيقار الألماني “ریتشارد فاجنر”Richard Wagner من إخراج “جميس كونراد” James Conrad في ديسمبر 1975، بالإضافة إلى أوبرات “الشهامة الريفية” Cavalleria rusticana للموسيقار الإيطالي “بيترو ماسکاني” Pietro Mascagni، و”الحفل المقنع” Un ballo in Maschera، و”ريجوليتو” Rigoletto للموسيقار الإيطالي “فيردي”.
حل فرقة أوبرا طهران
مع اندلاع المظاهرات في جميع أنحاء إيران في أواخر عام 1978، توقفت عروض قاعة رودكي، وحُلت فرقة أوبرا طهران رسميًا. كانت سودابة تتلقى راتبًا شهريًا من “مؤسسة بهلوي”، لكنه توقف بعد الثورة الإيرانية عام 1979. في الأعوام التالية عملت سودابة في مكتبة بمدينة ميونخ، ولم تشارك في أي عرض مسرحي مرة أخرى، ولم تعد إلى إيران مطلقًا.
يقول أحد الأشخاص المقربين من سودابة، قام في السنوات الأخيرة بترتيب التذكارات المتبقية في بيت هذه الفنانة: “مع كامل الأسف، لم نجد في مقتنيات سودابة الشخصية أية مادة صوتية مسجلة لها من الماضي. منذ عدة سنوات أقنعناها بإلحاح شديد أن نتوجه إلى الكنيسة في ميونخ حتى تسجل بصوتها مقطوعة موسيقية كتذكار”.
في عام 2023، وهنت قوى سودابة الجسدية والذهنية جراء سقوطها على الأرض، وفي 15 أغسطس 2024 توفيت بميونخ عن عمر يناهز 95 عامًا.
كانت “سودابة تتمتع بصوت قوي، صدَّاح، شجي من نوعية “السوبرانو الدرامي” يصل مداه إلى نهاية صالة العرض دون ميكروفون، ويظل صداه رنَّان في آذان الجمهور عقب سماعه، ومع ذلك لا يخلو من العذوبة والرقة. صاحبة هذا الصوت الفريد لا توجد لها أية تسجيلات سمعية أو بصرية في إيران سوى بعض الصور الموجودة ضمن مقتنيات مدير دار أوبرا طهران السابق “عنايت رضائي”، وكوبليه لا يتعدى دقيقة واحدة من المقطوعة الموسيقية الإيطالية الشهيرة “أداجيو” adagio، كانت قد سجلتها سودابة في ألمانيا عام 2008، تبرز قوة صوتها وطلاوته ونقاءه رغم بلوغها سن 79 من العمر وقتها.
إن سودابة تاجبخش رمز من رموز الفن الإيراني في أوج ازدهاره ورقيه، استطاعت رغم مشوارها الفني القصير أن تترك بصمة خالدة في تاريخ الموسيقى الإيرانية بموهبتها الكبيرة وريادتها في مجال الغناء الأوبرالي.
من عجائب الأقدار أن وفاة هذه الأيقونة الأوبرالية قد تزامن مع الذكري الثانية لمقتل الفتاة الإيرانية كُردية الأصل “مهسا أميني” على يد شرطة الأخلاق في عام 2022. الأولى مثلت عصرًا تمتعت فيه المرأة الإيرانية بحرية كاملة على الأصعدة كافة، والثانية مثلت عصرًا آخر حُرمت فيه المرأة الإيرانية من أبسط حقوقها. كلاهما ضحية نظام ثيوقراطي، سلب من المواطن الإيراني حرية الحياة مثلما يريدها، وليس مثلما يريدها الآخرون، فإما أن يعيش داخل وطنه مصفد اليد والعقل والروح، وإما أن يعيش خارج وطنه هجير الغربة والاغتراب.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر