هناك عناصر قوة منتشرة في العالم، ويتباين تملكها أو استخدامها بين الوحدات الدولية، نقصد بها العناصر الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية. هذه العناصر تدفع بالدول في الأغلب إلى تبني نهج سياسي محدد في سياساتها الخارجية، استناداً إلى ما تملكه من تلك العناصر. وحتى عام 1989، كان العالم موزعاً بين مجموعتين رئيستين: الغربية والشرقية، تمتلكان أغلب عناصر القوة في النظام الدولي، ومعها شكلان من التحالفات الكبرى الداعمة لتلك العناصر (حلف الناتو وحلف وارسو).
بدأ العالم يشهد مراحل انتقالية، ليس فيها ثبات واضح في مسألة انتشار عناصر القوة، وهو ما تم تسميته «مرحلة ما بعد الحرب الباردة»، وفيها عاشت الولايات المتحدة مرحلة عدم انسجام المكانة بين امتلاكها عناصر قوة عسكرية هائلة، وبين وجود ضعف اقتصادي وثقافي. في حين، عاشت القوى الأخرى مرحلة قريبة منها، متعلقة بعدم انسجام المكانة؛ فالعناصر الاقتصادية والثقافية فيها كانت تتفوق على ما تملكه من عناصر قوة عسكرية أو سياسية، ومثاله اليابان وألمانيا.
في تلك المرحلة التاريخية، تقدَّمت الولايات المتحدة بأسلوب، جعلها تقدِّم الخيار الاقتصادي على العسكري، وذلك في عهد كلينتون بعد عام 1993، إلا أن الداخل الأمريكي كان قد وصل إلى مرحلة نضج فيه تيار يميني محافظ، أراد أن يبتعد من مخرجات عالم ما بعد الحرب الباردة، باتجاه عالم تتسيد فيه الولايات المتحدة، من خلال حدث يمكن أن يؤثر في ماجريات التفاعل ككل، فكان حدث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة. وهو حدث منحها مبرراً لخوض ما عُرف بالحرب العالمية المفتوحة على الإرهاب، تحت غطاء أممي، فبدأ العالم معها يخرج من بوتقة عالم ما بعد الحرب الباردة ليعيش عالم ما بعد أحداث 11 أيلول، حيث الاتجاه الأمريكي الطاغي نحو استغلال الفجوة الهائلة في عناصر القوة بينها وبين أقرب منافسيها، وتحديداً في القوة العسكرية، فصار اتجاهها الغالب هو السحب من عناصر القوة الاقتصادية ومن رصيد قبولها الدولي، لمصلحة دعم الخيار العسكري. وكان أكثر الأقاليم تعرضاً لهذا التحول هو الشرق الأوسط بعامة، والمنطقة العربية بخاصة؛ إذ شهدت إعادة تنظيم لخريطة الشرق الأوسط في إطار ما عرف بـ «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، وقبله كانت النتيجة غزو أفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003.
لكن الاستنزاف الذي تعرضت له الولايات المتحدة من جراء حدثَي احتلال العراق وأفغانستان، والحرب على الإرهاب، والذي يقدر بعدة آلاف من مليارات الدولارات، كتكلفة مباشرة أو غير مباشرة، انتهت بالولايات المتحدة إلى التراجع في مرتبتها على صعيد توزيع عناصر القوة دولياً، ولمصلحة مزيد من بروز كل من روسيا والصين، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى التعامل بعقلية جديدة مع حقائق عالم ما بعد صعود أوباما إلى الحكم، قوامها التوسع بالشراكة والتقليل من التورط العسكري المباشر والتركيز على أداء خيار التوازن. فنتائج الغزو والحرب دفعت الولايات المتحدة إلى زيادة الإنفاق العسكري الذي قارب الـ 700 مليار دولار طوال المدة 2003 – 2010 ، وهو بالضرورة إنفاق يأخذ من رصيد الإنفاق على قطاعات البحث والتطوير والصحة والتعليم، ويكون على حساب التوسع بالضرائب، الأمر الذي يثقل كاهل الشركات الأمريكية، ويضعف قدرتها على التنافس. وهو ما انتهى إلى تعرض الولايات المتحدة لنتائج أزمة الرهن العقاري عامي 2008 و2009 بسرعة، فأصاب اقتصادها بالركود ابتداءً، ثم بالانكماش طوال أعوام 2011 – 2013، قبل أن يعود للنمو المحدود بعد عام 2014. أي أن نتائج الغزو والحرب أصابت الاقتصاد الأمريكي، وأضعفت إمكاناته.
في المقابل، كانت القوى الأخرى المنافسة تنمّي عوامل قوتها بشكل متوازن؛ فروسيا استثمرت ارتفاع أسعار النفط، وارتفاع ناتجها القومي من نحو 400 مليار دولار عام 2000 ليصبح نحو 902 مليار دولار عام 2005، ثم إلى نحو 2100 مليار دولار عام 2015، لترفع معه إنفاقها العسكري من نحو 13 مليار دولار عام 2000 إلى نحو 21 مليار دولار عام 2005 وإلى نحو 67 مليار دولار عام 2015. فضلاً عن إعادة تفعيل عمليات البحث والتطوير العسكري، وإعادة نشر قواتها وأنشطتها العسكرية عالمياً. في حين أن الصين التي نما ناتجها القومي من نحو 2.2 تريليون دولار عام 2000 إلى نحو 4.3 تريليون دولار عام 2005، ليصبح 11.2 تريليون دولار عام 2015، ونمت تجارتها العالمية من نحو 400 مليار دولار عام 2000 إلى نحو 907 مليار دولار عام 2005، لتصبح نحو 4.6 تريليون دولار عام 2015، فإنها انفتحت على تطوير قدراتها العسكرية عالمياً بعد مرحلة عدم اهتمام استمرت من عام 1979 إلى عام 2000، وخلالها رفعت معدل الإنفاق العسكري من نحو 16.3 مليار دولار عام 2000، إلى نحو 36 مليار دولار عام 2005، لتصل إلى نحو 97 مليار دولار عام 2015، وتوصلها التقديرات الأمريكية المحسوبة على أساس القدرة الشرائية إلى نحو 215 مليار دولار . ليس هذا فحسب، بل شرعت بإعادة تطوير الصناعات النووية، ووسعت قاعدة الصناعات الدفاعية الفضائية، ودعمت جهود تطوير القدرات الجوية والبحرية، ونشرت جزءاً من قدراتها العسكرية البحرية في بحر الصين، حيث تتحمل الولايات المتحدة جهد الحفاظ على الأمن والتوازن الإقليمي في تلك المنطقة، على نحو ينبئ باحتمالات تصادم المصالح والسياسات مستقبلاً.
ومثال على ذلك مايجري على الساحة السورية بعيدا عما يحدث في منطقة الشرق الأوسط , أي ما أصطلح على تسميته بالربيع العربي . فما يحدث في الشرق الأوسط هو جزء من عملية عالمية من التدمير الخلّاق على مستوى النظام الجيوسياسي بغض النظرعن نوعية الأدوات والآليات المستخدة لإنجازه. أعتقد أن أيّ فعل سياسي على المستويين الرسمي والشعبي ينبغي النظر إليه من خلال النتائج المتمخضة عنه، بعيدا عن المشاعر. القراءة المتأنية للدورات الأكاديمية العالمية توضح النتائج الخطيرة التي ستترتب على الأحداث في منطقة الشرق الأوسط . فحسب تعبير المحلل المتخصص بالشؤون الدولية بريمر أن مفهوم التدمير الخلّاق يتصل أساسا بتطور النظام الراسمالي، حيث تختفي شركات أو ممارسات أو طرق انتاج حين لاتستطيع الصمود أمام ممارسات وفاعلين جدد ينافسونها في السوق، وتلك العملية نادرا ما تحدث في البيئة الجيوسياسية. وآخر تجلياتها التاريخية حسب بريمر، نشأة النظام الدولي بمؤسساته المختلفة – مجلس الامن، البنك الدولي، الصندوق الدولي …الخ تحت القيادة والهيمنة الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فالأزمة المالية العالمية عام 2008 تعد الضربة القاصمة في تشقق النظام، وكأن العالم بلا أقطاب. الأمرالذي يتطلب جهودا دولية لمواجهة حالة عدم الإستقرار والمخاطر الناتجة من هذا التحول.
ونعود لما يرد في قراءة أخرى للمحلل الأمريكي توم فريدمان بعنوان (عالمان يتصدعان ) تتناول تداعيات الوضع العالمي الجديد على نظامين أقليميين هما أور,با والشرق الأوسط ونستنتج أنَّ مشروع الدولة القومية التي خرجت للوجود بعد الحرب العالمية الثانية في منطقة الشرق الأوسط ، ينهار لفشل النخب المجتمية في بناء دولة قومية واحدة ناجحة ولذلك فان العديد من هذه الدول في خطر التفكك وفق تقسيمات عقائدية أو اثنية محددة ، كما نرى في قراءة لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الذي يركّز فيها على ضعف بنيان الدولة أصلا في الشرق الأوسط حيث يشير إلى أن تركيا ومصر وايران هي فقط الدول ذات القاعدة التاريخية في المنطقة . فقد تم ترسيم حدود دولها في إطار تقاسم الغنائم بين الدول الغربية بعد الحرب العالمية الأولى وتلك التقسيمات لم تراع التوزيع الطائفي أوالإثني. ولذلك فتلك الدول معرضة للإنهيار تحت ضغط الإحتجاجات الشعبية المتواصلة والتي تبلغ حد الحرب الأهلية في سوريا. ويحذر كيسنجر من عواقب ذلك على النظام الإقليمي حيث تتعدد مايسميه بالثقوب السوداء في اليمن والصومال وشمال مالي وليبيا وربما في سوريا اذا انهارت الدولة ولاينشأ لها بديل.
وبخصوص الأزمة السورية وموقف روسيا بالتحديد منها فاختلفت آراء الباحثين والمحللين في الشأن السياسي بهذا الخصوص. والملاحظ أن هناك مواقف وتقييمات لاتخلو من بعد عاطفي ونظرة أحادية الجانب، وهناك أيضا تحليلات قد اتسمت بالرؤية العلمية والموضوعية. من جانبنا نعتقد أن المنهج العلمي الجدلي يقتضي في النظر لموقف روسيا من الأزمة السورية بأبعاده الدولية والإقليمية والمحلية، بتعبيرأوضح يفترض أن لانحلل موقف روسيا بعيدا عن الإرتقاء إلى مصاف الرؤية الإستراتيجية لطبيعة الصراع الحالي والصعود الروسي (والصيني) المنافس لفكرة القطب الواحد والهيمنة الأمريكية، وظاهرة الإستفراد الأطلسي بالقوة. وفي الوقت نفسه عدم عزل كل ذلك عن طبيعة المجريات الراديكالية والدرامية والعنيفة التي لفت وما تزال تلف الحالة العربية العامة وآثار الثورات الشعبية، بوصفها حدثا كونيا. وليس الإشتراك والمسابقة والمنافسة والمغامرة التي تميز مختلف أشكال ومستويات التدخل والتأثير المباشر وغير المباشر من قبل مختلف القوى الإقليمية والعالمية على مجرياتها (عبر ما يسمى بمساعدات ودعم وتأييد الثورة والثوار وما يعارضها أيضا) سوى الصيغة الجلية لذلك، من هنا يمكن النظر إلى تسابق القوى العالمية من أجل التحكم بها أو حرفها عن مسارها التاريخي الطبيعي، فهي الصيغة المعبرة عن إدراك المصالح. وهذه بدورها تعكس الرؤية الإستراتيجية للدول، أيْ لمصالحها الكبرى. ومن ثم لها مصالحها الإستراتيجية. وتلك المصالح ظاهرة معقدة ومتداخلة ومتناقضة ومتبدلة ومتغيرة. فالموقف الروسي يخدم في نهاية المطاف وبالمقام الأول مصلحتها الاستراتيجية، ولا يعد موجها ضد أحد في سوريا، بقدر ما أنه يسعى لتجنيب سوريا الإنزلاق صوب الهاوية وتعاضد القوى الأجنبية للإيقاع بها. وبالتالي فان حقيقة الموقف الروسي تخدم إستراتيجية الفكرة والممارسة الداعمة لديمومة ووحدة الدولة السورية والوطن والقومية العربية. وهذا ما اشارت له تصريحات المحلل السياسي فياتشيسلاف ماتوزوف في لقاء مع قناة “روسيا اليوم” إن انهيار النظام السوري الحالي قد يؤدي إلى انهيار الإستقرار في منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
وحول الموقف الروسي إزاء ما يجري في سورية، نرى ما أكد عليه ماتوزوف حول إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “ سياسي ماهر ولا يلعب دور محام لأية دولة عربية أو زعيم عربي”. ولفت الى أن روسيا تملك مصالح ليست إقليمية فقط بل ودولية وأولويات في السياسة الخارجية ومنها العلاقات مع الولايات المتحدة، وأضاف أنه “عندما تقول روسيا لا لمجلس الأمن فهذا يعني أن مصالح الأمن القومي تتأثر بهذا القرار. وأخطاء القرارات الصادرة بخصوص ليبيا أصبحت واضحة الآن للجميع”.
إن تتبع السياسة الروسية في المنطقة على مدي العقد الماضي يكشف عن تغير ملحوظ ليس فقط مقارنة بما كانت عليه خلال فترة الإتحاد السوفيتي السابق، وإنما مقارنة أيضا بحقبة التسعينيات في ظل قيادة الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين. فقد عادت روسيا لتلعب دورا فاعلا، وتتخذ مواقف واضحة في العديد من القضايا الدولية والإقليمية, ساعدها في ذلك وجود قيادة واعية ذات رؤية للأولويات الوطنية، ولديها القدرة على تنفيذها وإدارة تبعاتها بكفاءة وانتعاشة إقتصادية مكنتها من تحقيق درجات متزايدة من الإستقلالية في سياستها الخارجية. ولكن ما أن استطاعت روسيا ترتيب أوضاعها في المنطقة بجهد كبير وزيارات متتالية ومكثفة قامت بها القيادة الروسية على مدى السنوات الست الماضية، حتى هبت رياح التغيير لتعصف بكل الأوراق وتطرح ضرورة إعادة ترتيبها من جديد. فثورات الربيع العربي التي بدأت بتونس في ديسمبر 2010، ولا تزال تتطور في العديد من الدول العربية، توفر فرصا وتفرض تحديات على روسيا. فالثورات نجحت في فك الإرتباط التقليدي بين بعض ادارت الحكومات العربية والولايات المتحدة في بعض البلدان، إلا أنها قد تنجح أيضا في إنهاء العداء التقليدي بين بعض الدول والولايات المتحدة، وفي مقدمتها ليبيا وسوريا.
الواقع يشير بأن تطلعات روسيا وتوجهاتِها أصبحت تسير وفق خطٍ وهيكلٍ استراتيجي جديد يعتمد على المبررات السياسية والإقتصادية لتحقيق مصالحها وإعادة تعزيز وجودها في الساحة الدولية؛ مما يتيح لها فرص التوغل وبسط النفوذ لاسيما في منطقة الشرق الأوسط ، ولعل الدور الروسي الذي برز مؤخراً في أروقة الأمم المتحدة تجاه الدولة السورية كان بمثابة نقطة التحول في جوهر سياسة موسكو الخارجية وتعاطيها مع الأزمات الدولية الراهنة. هذا إلى جانب الحضورالبارز والقوي للصين وصعودها كقوة عالمية منافسة بعد أن كانت منكفِئة ضمن حدودٍ محدودة.
خاص وكالة “رياليست” – الأستاذ مجد إبراهيم كاسوحة – باحث سوري.