إن الانقلاب الكبير في الموقف الخليجي وبالأخص، موقفي قطر والعربية السعودية، ليس لأنهما يريدان حلاً للأزمة السورية، وليس لأن كل المخططات فشلت خلال عقدٍ من الحرب المستعرة إلى الآن على دمشق، لكن هناك خلفيات لهذا الانقلاب من خلال تسويات دولية يبدو أنها كانت تُطبخ على نار هادئة من قبل الدبلوماسية الروسية لفترة طويلة.
الرسالة الأولى – الأزمة اليمنية
على الرغم من أن الأزمة اليمنية تحولت من محاولة كسر العظم للاستيلاء على اليمن عربياً، بتنسيق أمريكي – إسرائيلي، لكن معادلات الردع تغيرت لصالح الحوثيين، بدعم إيراني غير معلن، فشلت معه الإدارة الأمريكية السابقة وعلى ما يبدو الحالية أيضاً، إذ تغير الخطاب الأمريكي بما يتعلق بالملف اليمني، من خلال شطب اسم الحوثيين عن لائحة الإرهاب الدولي، فضلاً عن الدعوات المستمرة لحل الأزمة بالحوار، هنا وقفت السعودية عاجزة وتبين خداع الأمريكيين لها من خلال الضعف الواضح في المنظومة العسكرية السعودية رغم صفقات الأسلحة التي تقدّر بالمليارات.
وجاءت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجيه لافروف إلى العاصمة القطرية – الدوحة، لتحديد معالم حل، لن تعجب بكل تأكيد الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي وبالطبع إسرائيل، لكن الرسالة التي حملتها روسيا بما يتعلق باليمن، أنها قادرة على إيقاف القصف اليمني أو التخفيف منه على أقل تقدير وذلك من خلال مفاوضات مباشرة مع إيران رغم أن العلاقة الروسية مع طهران لا تتمتع بكثير من التفاهمات ويشوبها الكثير من الخلافات لكنها تتقاطع في عددٍ من الملفات أهمها سوريا إلى جانب العلاقة الثلاثية الروسية – التركية – الإيرانية خاصة بموضوع الغاز والمشاريع الحيوية في سوريا مستقبلاً.
الرسالة الثانية – الملف الإيراني
حملت زيارة لافروف أيضاً رسالة مهمة جداً، وهي أنها قادرة على إقناع طهران الذهاب للمفاوضات بما يتعلق بالملف النووي مع واشنطن، وإيجاد حل لمسألة الصواريخ الباليستية بما يطمئن إسرائيل، وهذا أمر مهم جداً نظراً لأن الولايات المتحدة ولا حتى أي دولة خليجية أو إسرائيل نفسها، استطاعت أن توقف المسيّرات اليمنية أو الصواريخ التي استهدفت العمق السعودي وتحديداً المنشآت النفطية والمواقع الحيوية من مطارات، ما وضع القواعد العسكرية سواء السعودية أو الأمريكية عرضة لخطر تلك الهجمات، وهذا الأمر لا يمكن له أن يتحقق إلا بحل جذري للأزمة الخليجية – الإيرانية، ولولا أن هناك بوادر قبول خليجي بضغط أمريكي لما رأينا هذا الانقلاب المفاجئ لكل من قطر والسعودية وتركيا معاً ما يعكس عمق الضغط من جهة، وعمق القوة الروسية التي استطاعت بثبات وعزيمة إنجاح الأمر من جهة اخرى، ولو أنه يحتاج إلى وقت طويل، لكنه ممكن في ضوء ترتيب الفوضى الدولية التي تضرر منها الجميع.
الرسالة الثالثة – الأزمتين السورية واللبنانية
حملت زيارة لافروف أيضاً رسالة غاية في الأهمية وهي مفتاح حل كل الأمور الأخرى، فإن استطاعت موسكو إيجاد مخارج للأزمة اليمنية ومسألة الملف النووي والعلاقات الإيرانية – الخليجية فهذا يمكن فقط عبر إيجاد حل للأزمة السورية والذي يتضمن: إنهاء العقوبات الإقتصادية “قانون قيصر”، أو على أقل تقدير التخفيف منها، وإنهاء ملف شرق الفرات والذي يتحقق بالانسحاب الأمريكي أولاً، ثم الانسحاب التركي والالتزام باتفاقية أضنة، وأن يكون الحل سوري – سوري لا يتدخل فيه أحد من القوى المنخرطة في هذا الملف.
هذا الأمر مقدمة للموضوع الأهم وهو استخراج الغاز من البحر المتوسط، فالجميع يعلم ان روسيا أخذت حق التنقيب للغاز على السواحل السورية، هذا الأمر أيضاً دفع بمفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، إذ لا بد من وضع حل لتقسيم الحصص الدولية في هذا الأمر، خاصة وأن النادي الذي أسسته واشنطن للغاز ويضم اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل وفرنسا لإمداد أوروبا بهذه المادة من شأنه إضعاف خط السيل الروسي – التركي، ورأينا سابقاً كيف هددت الولايات المتحدة بما يتعلق أيضاً بخط “السيل الشمالي – نورد ستريم2” ومعاقبة كل الشركات الأوروبية التعامل مع موسكو ما أوقفه مؤقتاً.
هذا الأمر حتى وإن تم التنقيب عن الغاز السوري واللبناني، وبكميات كبيرة، فلن يكون لهما القدرة على نقله وبيعه وإيصاله إلى أي نقطة ما دامت واشنطن تسيطر على هذا الأمر.
فإن تم حل هذا الملف ليس من المستبعد أن تعود العلاقات التركية – السورية إلى عهدها، وان يكونوا مع روسيا في نادي الغاز مستقبلاً، أما لبنان لا يمكن له تحقيق ذلك خاصة وأن أغلب عقوده هي مع شركات أوروبية، وأي منصات إسرائيلية للتنقيب في البحر بحسب تهديد المقاومة اللبنانية – حزب الله ستكون أهدافاً لهم، فإن توجهت لبنان إلى الشرق هذا يعني ضمناً معاقبة لبنان وبالفعل نتيجة لتصريح الرئيس اللبناني ميشال عون حول التوجه شرقاً، بدأت الاضطرابات تعصف بلبنان وإحداث أزمة دولار كبيرة للضغط عليه، وهذا الأمر من الممكن له أن يجد حلولاً مستقبلية في ضوء ما تم ذكره أعلاه.
من هنا، إن صفقة القرن والتطبيع وكل الصفقات التي حدثت في العقد الأخير برعاية أمريكية من الممكن اعتبارها صفقات فاشلة لم تحقق من أمرها شيء، لا بل زادت الفوضى ونشرت الدمار حول العالم، وأضرتها هي بالمقام الأول، وفي حال فشل كل هذه التوقعات والانجرار نحو حرب شاملة، قد يكون الرابح منها الولايات المتحدة وإسرائيل، لكنها حتماً ستعيد تل أبيب إلى العصر الحجري، ولن تعود كما كانت عليه في المنطقة بوضعها الحالي أبداً.
أخيراً، المسألة معقدة جداً، لكنها مفتاح الخلاص والانفراج الاستراتيجي المرتقب، فمن الغباء الاستراتيجي رفض هكذا معالم حل، خاصة وأن المنطقة لن تسلّم أو تتنازل للأمريكي ولا لأي طرف، الحل يبدأ من سوريا، والموقف الخليجي الأخير يوضح أن روسيا على الطريق الصحيح لتصحيح مسار السياسة الدولية من خلال ضمانات دولية تنهي الأزمة السورية التي على ضوئها ستنتهي الأزمات الأخرى.
خاص – فريق عمل “رياليست”.