القاهرة – (رياليست عربي): للتاريخ وجهان؛ وجه مزيف جميل الملامح تعلمه كثرةُ القُطعان ويحظى بإعجابهم ويثير انبهارهم، ووجه حقيقي دميم الملامح تعلمه قلةُ مصطفاة تتقبله حينًا وتنفر منه حينًا آخر إلا أنها تفضل التعايش معه بدلًا من السقوط في غياهب الأوهام والأكاذيب. والتاريخ ترويه الأفواه والأقلام، وتتناقله الصدور والكتب من عصر إلى عصر ومن دهر إلى دهر حتى يصل إلينا في صورته الأخيرة مجتزأً منه أو مضافًا إليه وفقًا لأهواء أرباب الزمان والمكان ومقتضيات المراحل والأطوار.
وقديمًا كان الرواة والمؤرخون مصدر التاريخ المنطوق والمكتوب، وفيما بعد أصبحت الصحف والكتب، والآن تعددت مصادر التاريخ مع التطور التكنولوجي المتسارع في عالمنا المعاصر، وغدا قطاع كبير من الناس تستقي التاريخ أو المعلومات عمومًا غثّها وسَّمينها من الإعلام القديم المتمثل في الصُحف والإذاعة والتليفزيون أو الإعلام الجديد المتمثل في المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي. وبين هذا وذاك كانت ولا تزال (الدراما) بمختلف أنواعها وأشكالها الوسيلة الأكثر نفوذًا ونفاذًا وجذبًا وانتشارًا في العالم أجمع؛ يستطيع صُناعها عن طريق فيلم أو مسلسل أو مسرحية أن يرووا التاريخ كيفما يشاؤون، حيث يقدمون حدثًا تاريخيًا تحت مسمى “رؤية جديدة” قد تتماشى مع الأصل أو تنحرف عنه، فيصدقها المشاهدون ويُسلِّمون بها حقيقةً واقعيةً. وهنا تكمن معضلةٌ جدليةٌ لأن قطاعًا كبيرًا من الجماهير لا تكترث بالتنقيب عما هو حقيقي وعما هو خيالي وعما هو مزيج بين الاثنين، أو التفكر فيما هو منطقي وما هو غير منطقي، لأنها ببساطة شديدة لا يعنيها ما حدث، ولمَ حدث، وكيف حدث، وما العواقب المترتبة عليه؟
وقد استطاعت الإدارة الأمريكية على مدار سنوات عديدة أن توظف آليتها السينمائية “الدعائية” واسعة الانتشار في سبيل خدمة أهدافها السياسية والترويج لها، وتبرير تحركاتها الدبلوماسية والعسكرية في أنحاء المعمورة والمهجورة بشكل يستدر تعاطف الشعب الأمريكي أولًا وشعوب العالم ثانيًا، ويحظى بتأييدهم ومساندتهم، لذا لم تتخذ مضامين الأفلام الأمريكية مناحي سياسية بحتة بل طغت عليها أبعادٌ إنسانيةٌ تُهيّج مشاعر الشعوب وتدغدغها، فيفرحون لها ويحزنون من أجلها، أو تجسد هذه الأفلام أعمالًا بطوليةً يقوم بها الجندي الأمريكي تبعث على الفخر والتباهي.
نحن لم نر على شاشة السينما الأمريكية سوى أفلام قليلة تتناول الأسباب الحقيقية وراء الغزو الأمريكي لفيتنام وأفغانستان وعراق، أو الوجود العسكري للولايات المتحدة في دول شمال آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، لكننا شاهدنا مرارًا وتكرارًا جنودًا أمريكيين لقوا مصرعهم في الحرب أو فقدوا أو بُترت أوصالهم، وشاهدنا نساءً أمريكيات أرامل وثكالى، وشاهدنا أطفالًا أمريكيين يتامى. لقد شاهدنا قصصًا إنسانيةً يتعاطف معها أي شخص على وجه البسيطة في صدره قلب يخفق. لكننا لم نر جنودًا أمريكيين وهم يعتدون على شعب أعزل، أو يستبيحون قتل الشيوخ والنساء والأطفال، أو يمثَّلون بالجثث، أو يُذِيقون المعتقلين أشد ألون العذاب في معتقلات تُنتهك فيها كل القيم الأخلاقية والإنسانية كمعتقل “جوانتانامو”Guantanamo Bay detention camp بجنوب شرقي كوبا.. كل هذا تحت مسمى حماية الأمن القومي الأمريكي من حكومات لا تطمر ضغائن أو نوايا استعمارية، وشعوب يستشري بينها الفقر والجهل والمرض، ودول تبعد آلاف الأميال عن الولايات المتحدة.
وفى 11 سبتمبر 2001 قام تنظيم القاعدة الإرهابي بزعامة “أسامة بن لادن” بأعنف عملياته الانتحارية في الولايات المتحدة وأكثرها تأثيرًا على دول العالم، حيث اصطدمت طائرتان ببرجي مركز التجارة العالي في مانهاتن، وطائرة ثالثة بوزارة الدفاع “البنتاجون” بمدينة أرلينجتون بولاية فيرجينيا، وطائرة رابعة كانت تستهدف مبنى الكابيتول (الكونجرس) في العاصمة واشنطن، لكنها تحطمت في بنسلفانيا. وقد أسفرت هذه التفجيرات عن مصرع ما يقرب من 3000 شخص وإصابة حوالي 25 ألف شخص آخر. وكانت الطائرات قد اُختطفت من مطارات في شمال شرقي الولايات المتحدة.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/برج-التجارة-العالمي.jpg)
وقد مثلت هجمات 11 سبتمبر نقطةً فاصلةً في تاريخ الولايات المتحدة، حيث شرعت الإدارة الأمريكية برئاسة “جورج دبليو بوش” George W. Bush في تحركاتها العسكرية خارج البلاد تحت مسمى “الحرب على الإرهاب”، وكانت بداية هذه التحركات الإطاحة بنظام “حركة طالبان” في أفغانستان؛ وهو النظام الذي كان يستضيف زعيم تنظيم القاعدة “بن لادن” وعدد من قيادات التنظيم آنذاك. على هذا النحو اجتاحت القوات الأمريكية بالتعاون مع قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في 7 أكتوبر 2001 الأراضي الأفغانية، وأسقطت نظام طالبان في 17 من ديسمبر، ثم شرعت في إقامة قواعد عسكرية لها بالقرب من المدن الرئيسة في أفغانستان كان أكبرها قاعدة “بجرام الجوية” Bagram Airfield. وتعد هذه الحرب هي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، فقد امتدت 20 عامًا، وانتهت بانسحاب القوات الأمريكية وحلف الناتو في 31 أغسطس 2021 وعودة طالبان مرة أخرى إلى سدة الحكم كأن شيئًا لم يكن.
والسينما الهوليوودية لم تكن بعيدة عن هجمات 11 سبتمبر والحرب الأمريكية في أفغانستان، فقد قدمت العديد من الأفلام عن هذه الأحداث وملابساتها ومجرياتها وما خلفته من نتائج أثرت بنحو كبير على سياسات الولايات المتحدة تجاه العالم. كان من أبرز هذه الأعمال: “أسود في مواجهة حملان” Lions for Lambs، و”ناج وحيد” Lone Survivor عام 2007، “الشقيقان” Brothers عام 2009، “ويسكي، تانجو، فوكستورت” Whiskey, Tango, Foxtrot عام 2017، “آلة الحرب” War Machine عام 2017، “المخفر” The Outpost عام 2020. ولعل من بين الأعمال السابقة التي اتخذت بُعدًا سياسيًا وليس إنسانيًا أو بطوليًا –كما أسلفتُ القول– هما “آلة الحرب” من تأليف وإخراج “ديفيد ميشود” David Michôd، وبطولة “براد بيت” Brad Pitt و”توفر جريس” Topher Grace. و”أسود في مواجهة حملان” من تأليف “ماثيو مايكل كارنهان” Matthew Michael Carnahan، وإخراج “روبرت ريدفورد” Robert Redford، وبطولته بالاشتراك مع “توم كروز” Tom Cruise و”ميريل ستريب” Meryl Streep. الفيلم الأول ينتقد بأسلوب ساخر إدارة الحرب الأمريكية في أفغانستان من قبل الحكومة والجيش، والفيلم الثاني يلقي الضوء على إستراتيجية سيناتور جمهوري للقضاء على طالبان.
عهد جاي ريتشي
يعد فيلم “العهد لجاي ريتشي” Guy Ritchie’s The Covenant، أو كما يُعرف اختصارًا “العهد”، واحدًا من أحدث الأفلام الأمريكية التي تتناول موضوع الحرب في أفغانستان، وعلى الرغم من أنه يناقش موضوعًا إنسانيًا شأنه شأن أغلب الأفلام الأمريكية الأخرى، لكنه يطرح موضوعًا جديدًا على شاشة السينما الهوليوودية، ألا وهو أزمة المترجمين الأفغانيين المتعاونين مع الجيش الأمريكي طوال فترة تواجده في أفغانستان، وما واجهوه من مصير محفوف بالخطر والبؤس بعد خروج القوات الأمريكية من بلادهم وعودة طالبان إلى السلطة.
الفيلم من إنتاج 2023 وعُرض بالولايات المتحدة في إبريل الماضي، وهو من تأليف وإخراج وإنتاج البريطاني “جاي ريتشي”، وشارك في تأليفه وإنتاجه الجنوب أفريقي “إيفان أتكنسون” Ivan Atkinson، ولعب دوري البطولة فيه الأمريكي “جيك جيلنهال” Jake Gyllenhaal، والدنماركي عراقي الأصل “دار سليم” Dar Salim، إلى جانب كل من: ألكسندر لودفيج Alexander Ludwig، وأنتوني ستار Antony Starr، وجوني لي ميلر Jonny Lee Miller، وإميلي بيتشام Emily Beecham.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/بوستر-الفيلم.jpg)
كان من المقرر أن يحمل الفيلم اسم “المترجم” The Interpreter، ثم أعلن المخرج جاي ريتشي أن الاسم قد تغير إلى “العهد”، ثم أسبق اسمه باسم الفيلم لتمييزه عن فيلم آخر يحمل الاسم نفسه تم إنتاجه عام 2006. وعلى هذا النحو ظهر أفيش الفيلم الرسمي حاملًا عنوان “العهد لجاي ريتشي” في سابقة ليست الأولى من نوعها، بل سبق وشاهدناها في عدد من الأفلام المحلية والعالمية اقترنت أسماؤها بأسماء مخرجيها كأعمال المخرج المصري “يوسف شاهين”.
قصة الفيلم
تدور أحداث الفيلم في بدايات عام 2018 أثناء تواجد الجيش الأمريكي في أفغانستان، وتبدأ بمقتل المترجم الفوري الأفغاني المرافق لوحدة الرقيب “جون كينلي (جيك جيلنهال)” في كمينٍ بشاحنة مفخخة نصبته حركة طالبان لتصفية الوحدة، حيث تتولى وحدة الرقيب كينلي مَهمة العثور على مواقع تصنيع العبوات الناسفة والقنابل اليدوية التابعة للحركة في جميع أنحاء البلاد. عقب هذه الواقعة، يُعين “أحمد عبد الله (دار سليم)” كمترجمٍ جديدٍ للوحدة، ويسعى من خلال عمله مع الجيش الأمريكي إلى الحصول على تأشيرة لجوء إلى الولايات المتحدة له ولزوجته الحُبلى هربًا من بطش طالبان. فيما بعد يعلم كينلي من أحد الأفغانيين العاملين في الوحدة أن عائلة أحمد تعمل مع طالبان في تجارة الهيروين، لكن أحمد انشق عنهم بعد مقتل ابنه على أيدي طالبان، وتطوع للعمل في قاعدة بجرام الجوية الأمريكية منذ 5 سنوات. على الرغم من العلاقة المتوترة بين الرقيب كينلي والمترجم أحمد بسبب مخالفة الثاني لأوامر الأول في بعض المهام، لكن يكتسب المترجم ثقة الرقيب بعد أن نجح في كشف أمر فرد أفغاني متعاون مع الوحدة يعمل لصالح حركة طالبان كاد أن يسوق أفراد الوحدة إلى كمين نصبته لهم الحركة.
أثناء مداهمة وحدة الرقيب كينلي لوكر تصنيع متفجرات تابع لحركة طالبان، يلقى جميع أفراد الوحدة مصرعهم في اشتباك عنيف مع مقاتلي طالبان، لكن ينجح كينلي وأحمد في الفرار سيرًا على الأقدام، ويحاولان العودة إلى قاعدة بجرام الواقعة على بعد 100 كيلومتر من موقعهما. أثناء تنقل الثنائي من مكان إلى مكان يواجهان عدة مرات مقاتلي طالبان ويقاتلان جنبًا إلى جنب عدة أيام متتابعة إلى أن يصاب كينلي في أحد الاشتباكات إصابةً خطيرةً، ويسقط في شبه غيبوبة، إلا أن أحمد ينجح في إنقاذه ويحمله عدة أيام عبر التضاريس الأفغانية وسلاسلها الجبلية الوعرة في رحلة شاقة محفوفة بالأخطار كاد يلقى فيها حتفه أكثر من مرة إلى أن يعيده إلى قاعدة بجرام سالمًا.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/الرقيب-كينلي-جيلنهال-والمترجم-أحمد-سليم-في-مشهد-من-الفيلم.jpg)
بعد مرور شهر يستعيد كينلي وعيه، فيجد نفسه في منزله بولاية كاليفورنيا، ويعلم من زميله في قاعدة بجرام الرقيب “ديكلان أوبرادي (ألكسندر لودفيج)” أن قصة إنقاذ الرقيب الأمريكي على يد المترجم الأفغاني صارت أُحدُوثةً يتحاكى بها الجميع في أفغانستان، وعمت أنحاء البلاد، وأن حركة طالبان وضعت أحمد على رأس قائمة المطلوب قتلهم، ورصدت مكافأة مالية كبيرة لمَن يدلي بمعلومات عن مكانه أو يأتي برأسه، مما دفع أحمد وأسرته إلى التخفي عن الأنظار والتنقل من مكان لآخر حتى لا تعثر عليهم طالبان.
يشعر كينلي بذنب شديد لما آل إليه حال أحمد بسببه، ويسعى إلى الحصول على معلومات عن مكان اختبائه لكن شقيق أحمد “عليّ (دامون ذو الفقاري)” يرفض إعطاءه أية معلومات قبل الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لأخيه وأسرته. على مدار ما يقرب من شهرين يُجرِي كينلي اتصالات عديدة من أجل استخراج تأشيرة لأحمد وأسرته لكن دون جدوى.
بعد فشل كينلي في الحصول على تأشيرة لأحمد وأسرته، يذهب إلى رئيسه المقدم “فوكس (وجوني لي ميلر)”، ويطلب منه إصدار التأشيرة بأية وسيلة ممكنة كنوع من سداد دينٍ له، لأن كينلي أنقذ فوكس من الموت منذ 8 سنوات. يقرر كينلي السفر إلى أفغانستان تحت اسم مستعار (رون كاي) للوصول إلى أحمد وإبلاغه بتوفر التأشيرة، ويرتب صديقه الرقيب (ديكلان) مع مقاول عسكري خاص يعمل في الأراضي الأفغانية يُدعى “إيدي باركر (أنتوني ستار)” سُبل تقديم الدعم اللوجيستي لكينلي وأحمد وخطة إخراجهما من أفغانستان في مقابل الحصول على 10 مليون دولار.
يسافر كينلي إلى أفغانستان، ويلتقي بباركر الذي يطلب منه الانتظار عدة أيام قبل تنفيذ العملية نظرًا لانشغاله بترتيب تنقلات بعض الدبلوماسيين الأجانب، لكن كينلي يرفض ويقرر التحرك بمفرده على أن يوفر له باركر سيارة رباعية وذخيرة وأسلحة. يذهب كينلي إلى عليّ شقيق أحمد ويبلغه بتوفر التأشيرة ويعلم منه مكان اختباء أخيه. يطلب عليّ من كينلي أن يترك سيارته الحديثة حتى لا ينكشف أمره، ويستقل شاحنة برفقة سائق يعمل لديه يتمتع بحرية المرور في الأراضي التي تسيطر عليها حركة طالبان. أثناء سير الشاحنة توقفها طالبان في نقطة تفتيش، فيضطر كينلي إلى قتل اثنين من مقاتلي طالبان. على مقربة من نقطة التفتيش يرى أحد الأفراد التابعين لطالبان ما حدث ويبلغ القيادة، فتطلب منه تعقب الشاحنة. عندما يصل كينلي إلى أحمد، يبلغه بتوفر تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة له ولأسرته، ويطلب من سرعة التحرك. يستقل أحمد وزوجته وطفله الرضيع الشاحنة بصحبة كينلي والسائق ويبدؤون رحلة الفرار من أفغانستان.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/بطل-الفيلم.jpg)
تكتشف حركة طالبان أمر كينلي وأحمد، وترسل فرقةً من مقاتليها للقضاء عليهما. من ناحية أخرى يستنتج باركر هوية الثنائي المشهورين بمغامراتهما في أفغانستان الرقيب الأمريكي كينلي والمترجم الأفغاني أحمد، ويبلغ قاعدة بجرام بالأمر متوجهًا إليهما بصحبة طائرة حربية من طراز “لوكهيد إيه سي-130” Lockheed AC-130، وهليكوبتر هجومية من طراز “إيه إتش-64 أباتشي” Boeing AH-64 Apache لتوفير الدعم الجوي لهما. في تلك الأثناء يقاتل الثنائي مرة أخرى جنبًا إلى جنب، حيث يدور قتال عنيف بينهما وبين مقاتلي طالبان على سد دارونتا (دَرونته) الواقع على نهر كابول (كابُل). يشعر الثنائي بدنو أجلهما بعد نفاذ الذخيرة وتأخر باركر، لكن يصل باركر بتعزيزاته العسكرية في اللحظة الحاسمة، وتقصف المروحيتان مقاتلي طالبان وتقتلانهم على بكرة أبيهم.
يخبر باركر كينلي أنه لو كان يعمل هويته الحقيقية كان سيلقى منه كل هذا الدعم وأكثر من ذلك. يعود باركر وطاقمه إلى قاعدة بجرام، ويستقل كينلي وأحمد وأسرته طائرةً عسكريةً متوجهين إلى الولايات المتحدة، حيث يجلس الرقيب والمترجم في مواجهة بعضهما، ويُومِئ كل منهما برأسه للآخر احترامًا وتقديرًا، وحينها يغمض كينلي عينيه متنفسًا الصعداء بعد أن سدد دينه إلى أحمد موفيًا بعهدٍ قطعه على نفسه.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/بطل-2.jpg)
آراء النقاد والجمهور
بلغ إجمالي إيرادات فيلم “العهد” خلال 9 أسابيع من عرضه في دور العرض الأمريكية 20 مليون دولار، وهو رقم ضئيل مقارنة بميزانيته الضخمة البالغة 55 مليون دولار، وربما يغطي الفيلم تكاليف إنتاجه من خلال عرضه وبيعه الدوليين فيما بعد. على الرغم من ذلك جاءت أغلب الآراء النقدية والجماهيرية عن الفيلم إيجابية بشكل عام، فيذكر الموقع الإلكتروني الشهير “روتن توميتوز” Rotten Tomatoes المتخصص في تقييم الأفلام والمسلسلات، أن 83٪ من آراء النقاد حول الفيلم كانت إيجابيةً بمتوسط 6.8/ 10، حيث تقول مجمل الآراء: “إن عهد جاي ريتشي فيلم حربي شائق، وجيد التمثيل، وله أعماق درامية مدهشة، فهو يروي قصةً محكمةً ذات أبعاد مذهلة”.
ووفقًا لما ذكرته شركة “سينماسكور” CinemaScore المتخصصة في استطلاع آراء شرائح متعددة من جمهور السينما واستعراض تقارير عن إيرادات شباك التذاكر وتوقعاته المستقبلية، أن مراجعات أغلب الجماهير جاءت إيجابية بشكل عام، ومعظم من شاهدوا الفيلم قد أعطوه درجة A+ ويوصون بمشاهدته.
عهد جاي ريتشي في كفتي النقد والتحليل
جاي ريتشي المنتج والمؤلف والمخرج
على الرغم من أن فيلم “العهد” تم تصويره بالكامل في مقاطعة “أليكانتي” Alicante الإسبانية أو “لقنت” كما كانت تعرف إبان الحكم الإسلامي لها، إلا أن المخرج “جاي ريتشي” استطاع باحترافية شديدة أن يختار مواقع تصوير تشبه إلى حد كبير الطبيعة الأفغانية وتضاريسها الوعرة وسلاسلها الجبلية المنفصلة المتصلة المنفردة بها أفغانستان دون غيرها من بُلدان العالم.
وفق ريتشي في انتقاء ممثليه خاصة لاعبي الدورين الرئيسين في الفيلم؛ “جيك جيلنهال” في دور الرقيب الأمريكي “جون كينلي”، و”دار سليم” في دور المترجم الأفغاني “أحمد عبد الله”، فكلاهما أدى دوره بحنكة شديدة وتقمص يصل إلى حد التوحد مع الشخصية. يُحسب لريتشي أيضًا اختياره ممثلين ذوي أصول أفغانية في أدوار الشخصيات الأفغانية وأعضاء حركة طالبان، مما منح مصداقيةً كبيرةً لها شكلًا ومضمونًا خاصة أن الأفغانيين يتمتعون بملامح شكلية تختلف عن الملامح الغربية تمامًا لكنها تتشابه أكثر مع ملامحنا الشرقية، لذا لا يشعر المشاهد بفرق كبير بين الشخصيات الأفغانية في الفيلم وشخصية البطل “دار سليم” ذي الأصول العربية، وإن كان لا يزال يراودني سؤالٌ؛ لمَ لم يختر ريتشي ممثلًا أفغانيًا لأداء دور المترجم أحمد؟.. نعم دار سليم أدى الدور بإتقان كبير وأجاد التحدث باللغة الفارسية “الدرية”، لكن إن كان ريتشي قد اهتم بانتقاء ممثلين أفغانيين لأداء الأدوار الثانوية، فلماذا لم يختر ممثلًا أفغانيًا لأداء دور البطولة؟
حرص ريتشي على صياغة حوار الفيلم باللغات الإنجليزية والپشتونیة والفارسية “الدرية” –اللغتين الرسميتين في أفغانستان– فجاء الحوار بين الشخصيات الأمريكية بالإنجليزية وبين الشخصيات الأفغانية بالپشتونیة والفارسية، مما أضفى على الحوار واقعيةً تنقل لنا ثقافةً جديدةً لا يعلمها عموم الناس، فكثيرًا من الأعمال الفنية التي تسرد لنا حكايات من بُلدان أخرى غير بُلدانها، يُصاغ الحوار فيها بلغتها وليس بلغة البُلدان المتحدثة عنها، واهتمام ريتشي بمزج حواره بالإنجليزية والفارسية من النقاط المحمودة في فيلمه والمحسوبة له.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/ريتشي-بصحبة-جيلنهال-وسليم-أثناء-تصوير-الفيلم.jpg)
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/المخرج.jpg)
اختيار زوايا التصوير والألوان وتقطيع الكادرات كان أشبه بلوحات فنية، وهو أمر يُحسب لريتشي، ومنح بُعدًا جماليًا للصورة على الرغم من قسوة مشاهد الفيلم الغاصة بالقتال والموت والمعاناة ومشاعر الحزن والألم والذنب والندم، وفوق كل هذا مظاهر الطبيعة القاسية. من أروع مشاهد الفيلم المصاحبة لموسيقى تصويرية بديعة قام بتأليف “كريستوفر بينستيد” Christopher Benstead، مشاهد تنقل أحمد عبر السلاسل الجبلية وهو حامل كينلي على عربة خشبية يقوم بجرها، ثم تُسترجع هذه المشاهد مرة أخرى بصورة متسارعة ومتلاحقة في أحلام كينلي أثناء تذكره ما حدث له. والحقيقة أن الموسيقى التصويرية التي صاغها بينستيد، لم تكن أخاذة فحسب، بل جاءت متماشية مع السليقة الأفغانية، فاستخدام آلات وترية وإيقاعية بتوزيعات موسيقية تميل إلى الأوزان الشرقية، جعل الموسيقى تشبه الأنماط الموسيقية الأفغانية إلى حد كبير، وهو أمر يوضح اهتمام كل من بينستيد وريتشي بخروج الفيلم في صورة متكاملة سواء من الناحية الشكلية أو من الناحية الحسية، فالموسيقى الأفغانية لها طابع خاص ومتفرد لا يعلمه إلا من اِطلع عليها عن قرب وأدرك سماتها وخصائصها.
جيك جيلنهال: الرقيب جون كينلي
جيك جيلنهال واحد من الممثلين الأمريكيين الوسماء والمحبوبين، ويتمتع بكاريزما وشعبية كبيرة على مستوى العالم، وله رصيد كبير من الأعمال الناجحة جعلته من نجوم الصف الأول في الولايات المتحدة. ولد جيلنهال في 19 ديسمبر 1990 بلوس أنجلوس، وهو ينحدر من عائلة فنية، فأبوه المخرج “ستيفن جيلنهال” Stephen Gyllenhaal، وأمه كاتبة السيناريو “نعومي فونر” Naomi Foner، وشقيقته الكُبرى الممثلة الجميلة “ماجي جيلنهال” Maggie Gyllenhaal.
نستطيع القول إن جيلنهال لعب مختلف الأدوار السينمائية والأنماط الشخصية؛ الفتى المراهق واللاهي والعاشق والضابط والمجرم والمريض النفسي والعميل السري والشخصية النمطية والبطل الخارق، هذا بالإضافة إلى تنوع أدواره بين التاريخية والاجتماعية والخيالية. من أبرز أعماله وأنجحها جماهيريًا: دوني داركو Donnie Darko، البرهان Proof، زودياك” Zodiac، ترحيل Rendition، الشقيقان Brothers، أمير فارس: رمال الزمن Prince of Persia: The Sands of Time، الحب ومخدرات أخرى Love & Other Drugs، شِفرة المصدر Source Code، العدو Enemy، سجناء Prisoners، متسلل ليلي Nightcrawler، حيوانات ليلة Nocturnal Animals، حياة Life، الأقوى Stronger، المذنب The Guilty
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/جيك-جيلنهال.jpg)
وإلى جانب هذه الأدوار المتنوعة، أعتقدُ أن دور الرقيب جون كينلي في العهد سيكون واحدًا من أهم أدوار جيلنهال في مشواره الفني. كينلي شخصية مركبة تجتاز مراحل متنوعة وتختبر حالات نفسية متباينة؛ ففي البداية نراه ضابطًا قوي الشخصية رابط الجأش جَلد، ثم يفقد أفراد وحدته العسكرية أمام عينيه، فتعتصر قلبه الحسرة والألم لكن شخصيته القوية تمنعه من إظهار الضعف أمام المترجم أحمد، ويكتفي بصمتٍ مطبقٍ يشوبه حزنٌ عميقٌ. بعد ذلك يصاب إصابةً خطيرة يفقد على إثرها الوعي، ويصبح ضعيفًا جسديًا وروحيًا، فنراه محمولًا على عربة خشبية يجرها أحمد في مشهد يوضح كيف تحول رجل كان ذا قوةٍ وكبرياءٍ إلى رجل ضعیفٍ ومنكسرٍ يتحكم في مصيره شخص آخر. ولما يستعيد وعيه، تبدأ أحاسيس الذنب تتملك كل ذرة في كيانه وتتنامى داخله؛ فهو الآن في أحضان زوجته وابنيه آمنًا مطمئنًا في حين يعيش مَن أنقذ حياته وعرَّض نفسه إلى الخطر هو وزوجته وابنه متوارين عن الأنظار ومتنقلين من مكان إلى آخر هربًا من شبح القتل على أيدي حركة طالبان.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/جيلنهال-في-مشهد-من-الفيلم.jpg)
الأحلام والخيالات التي راودت كينلي بعد عودته إلى الولايات المتحدة، عن تنقله عبر الجبال محمولًا على أكتاف أحمد، وهو ما بين الوعي واللاوعي.. حالة العذاب النفسي وتأنيب الضمير التي سقط في براثنها على مدار أيامٍ طوالٍ، توضح عمق وجعه ومعاناته اللامتناهية.. مشاعر الثورة والغضب التي انتابته، أثناء محاولاته المضنية للحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لأحمد وأسرته.. لحظة الرضا التي سكنته في نهاية الفيلم وهو يفترش أرض الطائرة أمام أحمد وأسرته بعد نجاحه في إخراجهم من أفغانستان.. كل هذه مراحل مرت بها شخصية الرقيب جون كينلي؛ وهي مراحل تنطوي على مشاعر متباينة وتقلبات نفسية معقدة، وتحتاج إلى ممثل يتمتع بقدرات تمثيلية وتعبيرية لامحدودة، مما يجعلني أقول –على اعتبار متابعتي لمسيرة جيلنهال الفنية– إنني أري جيلنهالًا جديدًا لم أره من قبل على شاشة السينما.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/جيك-2.jpg)
دار سليم: المترجم أحمد عبد الله
دار سليم ممثل دنماركي عراقي الأصل، ولد في 18 أغسطس 1977ببغداد، وهاجر إلى الدنمارك بصحبة أسرته وهو في الـ 6 من عمره. عمل سليم في بداية حياته مرشدًا سياحيًا، ثم أدى الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الدنماركي، وخلالها خدم في وحدة الحرس الملكي. درس فن التمثيل في لندن ونيويورك، واشتهر على مستوى السينما الأوروبية من خلال مشاركته في عدد من الأفلام الدنماركية التي اُختيرت للمشاركة في جوائز الأوسكار عن فئة أفضل فيلم أجنبي. يعد فيلم “الجحيم” Underverden أو كما يُعرف تجاريًا باسم “أرض الظلام” Darkland بجزئيه عامي 2017 و2022 من أشهر أعمال سليم السينمائية.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/دار-سليم.jpg)
سليم يشارك جيلنهال بطولة فيلم العهد مناصفةً، فكلاهما بطلٍ في دوره ومكملٍ للآخر، كما أنهما المحور الرئيس الذي تدور في فلكه الأحداث والشخصيات الأخرى. استطاع سليم أن يؤدي دور المترجم الأفغاني أحمد عبد الله بإتقانٍ كبيرٍ، ساعده في ذلك عدة عوامل خارجية؛ وهي نفسها العوامل التي تعد إجابةً منطقيةً لاستفساري السابق عن قيام المخرج جاي ريتشي باختيار سليم لأداء دور المترجم الأفغاني بدلًا من ممثل أفغاني الأصل، فبشرة سليم الخمرية المائلة إلى السُمرة وملامحه الجادة القاسية وبنيته الجسدية الضخمة القوية جعلته قريب الشبه من الأفغانيين خاصة قومية “الپشتون”، وأضفت مصداقيةً كبيرةً على أبعاد الشخصية وخلفيتها الدرامية، هذا فضلًا عن نطقه الصحيح والواضح للفارسية الدرية.
نجح سليم أن ينقل للمشاهد الطبيعة الخاصة للشخصية الأفغانية التي استطاعت على مدار سنوات طويلة، التكيف مع ظروفٍ صعبةٍ، والعيش في خوفٍ وقلقٍ مستمرين سواء من الموت على أيدي أبناء وطنهم أو الموت على أيدي الأجانب. وأعتقدُ أن دور المترجم أحمد هو انطلاقة سليم في السينما الهوليوودية خاصة أنه دور بطولة وليس دورًا ثانويًا.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/سليم.jpg)
من مظاهر الثقة التي جمعت بين الرقيب كينلي والمترجم أحمد، بعد أن أصبحا يواجهان مقاتلي طالبان بمفردهما عبر الجبال إشارة “أصبع الإبهام” بالاستعداد ونظرات العيون المتبادلة بينهما أثناء تأمين تحركهما وبَدء الانقضاض على مهاجميهم. هذا فضلًا عن إيماء كل منهما للآخر برأسه في المشهد الأخير من الفيلم كنوع من إبداء الاحترام والتقدير والعرفان، فمثلما أنقذ أحمد كينلي من الموت معرضًا حياته للخطر، عاد كينلي وأنقذ أحمد من موت مُحدق معرضًا حياته للخطر.
ماستر سين
يضم الفيلم عددًا من المشاهد المهمة ومتقنة التصوير والتنفيذ خاصة مشاهد القتال والمعارك وفرار كينلي وأحمد عبر سلاسل الجبال، لكن يبقى مشهدان في الفيلم أعتبرهما “ماستر سين” Master Scene.
المشهد الأول هو مشهد يجمع الرقيب كينلي والمترجم أحمد عقب مقتل وحدة الرقيب على أيدي مقاتلي طالبان، حيث يظهر كينلي قابعًا على الأرض وشاخصًا في الأفق اللامتناهي أمامه، وخلفه يجلس أحمد يهم بالفتوُّه بكلمةٍ يواسي بها كينلي، لكنه لا يستطيع التلفظ بحرفٍ واحدٍ. على الرغم من أن المشهد صامتٌ إلا أنه يحمل فيضًا من الكلام، فالعيون الحزينة الخاوية من بريق الحياة والمغرورقة بالدموع الجافة، وملامح الوجوه السارحة في أشجان الماضي ومآسي الحاضر وأخطار القادم كانت أبلغ من ألف كلمة مواساة أو صيحة آسف أو دمعة حزن.
المشهد الثاني هو مشهد ذهاب كينلي إلى رئيسه المقدم فوكس مطالبًا إياه العمل على استخراج تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لأحمد وأسرته. في المشهد يلقي كينلي مونولوجًا طويلًا على مسامع رئيسه، يصف فيه حالته النفسية السيئة وما يشعر به من ذنب، حيث يقول: “كلما أفكرُ في مصير أحمد وأسرته، أشعرُ بأن هناك خطافًا عالقًا في صدري. كان من المقرر أن نعطي تأشيرة لجوء لأحمد، والآن ألقينا بحبلٍ حول عُنقه وسحبنا الكرسي من تحت قدميه. هذا الرجل يعيش تحت الأرض بسببي. أنا أعرفُ –مخاطبًا المقدم فوكس– أنكَ ستستخرج تأشيرة اللجوء بأية وسيلة، لأنكَ من نوعية الرجال الذين يسددون ديونهم، وأنت مَدِينٌ ليّ، فقد أنقذتكَ من الموت منذ 8 سنوات”.
هذا المونولوج البديع يفسر اسم الفيلم ومضمونه ومغزاه.. فالعهد هو دَينٌ؛ دين المقدم للرقيب، ودين الرقيب للمترجم، ودين الإدارة الأمريكية للمترجمين الأفغانيين الذين كانوا يأملون في اللجوء إلى الولايات المتحدة قبل خروج القوات الأجنبية من أفغانستان وعودة طالبان إلى السلطة كما وعدهم الأمريكيون.
إن العهد دينٌ في رقاب من يقطعونه.. حملٌ ثقيلٌ يَثني كاهل حامله.. لا يختبر معاناته وعذاباته سوى أصحاب الضمائر اليقظة والسرائر النقية، ولا يستطيعون التملص منه طالما تجري الدماء في عروقهم وتنبض بالحياة قلوبهم.. تلك عهود نتعهد بها وأقوال نتشدق بها.. لا نعلم أنها حبالٌ نرميها في الهواء، فيتعلق بها الحالمون والآمِلون والمتطلعون إلى غدٍ أفضل.. أُناسٌ لا حيلة لهم سوى المقامرة على أرواحهم في سبيل الحصول على عهدٍ قد يهبهم الحياة أو يسلبها منهم!!
مأساة المترجمين الأفغانيين
على الرغم من أن فيلم “العهد” يتناول موضوع الحرب الأمريكية في أفغانستان، وهو موضوع تناولته العديد من الأفلام الأجنبية بأوجه متعددة ومتباينة على مدار السنوات المنصرمة، لكن “عهد جاي ريتشي” يناقش قضيةً جديدةً في هذا المضمار لم تُطرح من قبل على شاشة السينما ألا وهي أزمة المترجمين الأفغانيين. وهذه القضية واحدةٌ من قضايا كثيرة ناجمة عن الوجود الأمريكي في أفغانستان طوال 20 عامًا.
والمترجمون الأفغانيون “الفوريون” يأتون في صدارة الأفراد الذين تعاونوا مع القوات الأجنبية بشكل عام إبان تواجدها في بلادهم، إلى جانب العسكريين والدبلوماسيين والمسؤولين الأفغانيين، حيث كان هؤلاء المترجمين معاوني الجنود الأمريكيين ومرشديهم خلال تنفيذ مهامهم العسكرية والمدنية، وعرَّابي التفاوض بينهم وبين السكان المحليين وزعماء القبائل والعشائر الأفغانية. كما أوضحوا للجنود الأمريكيين مجمل عادات الشعب الأفغاني وتقاليده واحتفالاته القومية نظرًا لاطلاعهم على الثقافة الشعبية واللهجات المحلية، مما يسر التواصل والتعامل بين الجانبين. بالإضافة إلى ذلك قدم المترجمون الأفغانيون مساعدات جليلة للأمريكيين من خلال ترجمة العديد من الوثائق السرية والاستخباراتية الخاصة بحركة طالبان وعلاقتها بالتنظيمات والجماعات الإرهابية في المنطقة، فلولاهم لما استطاعت القوات الأمريكية إنجاز مهامها في أفغانستان، وكشف خبايا طالبان وعلاقاتها المشبوهة، والتعرف إلى سمات الشخصية الأفغانية، وبناء جسور التفاهم والثقة مع عموم الأفغانيين.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/مشهد-من-الفيلم.jpg)
وقد شكل خروج القوات الأمريكية من أفغانستان خطرًا كبيرًا على حياة المترجمين الأفغانيين لأنهم في نظر حركة طالبان ومؤيديها خونة تعاونوا مع قوات الاحتلال “الكافرة”، وبالتالي اُستبيح قتلهم. على الجانب الآخر يرى المترجمون الأفغانيون أن تعاونهم مع الأمريكيين مَثَّل لهم ولغيرهم آمالًا عريضةً في سبيل التخلص من حركة طالبان ذات الأيديولوجيات المتطرفة.
وقد يرى الكثيرون أن استقواء بعض الدول بالغرب أو مطالبتها بالتدخل الأجنبي –مثلما فعلت أفغانستان– شكلًا من أشكال الاحتلال المقنع وخطوةً لا تُحمد عُقباها، والأمثلة كثيرة عبر التاريخ، لكن ما حيلة شعب لم يلق من حكوماته المتعاقبة سوى التناحر والاقتتال على السلطة أو التطرف والتكفير والترهيب!!
وكان الرئيس الأمريكي “جو بايدن” Joe Biden قد وعد بإجلاء جماعي للمترجمين الأفغانيين الفوريين قبل انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في 31 أغسطس 2021، حيث بلغ عدد هؤلاء المترجمين نحو 50 ألف شخص. ومنذ عام 2008، انتقل ما يقرب من 70 ألف أفغاني (يشكلون مترجمين بصحبة أسرهم) إلى الولايات المتحدة بموجب تأشيرة هجرة خاصة مُنحت لهم مقابل ما قدموه من مساعدات وخدمات، لكن لايزال هناك حوالي 20 ألف مترجم وأسرهم يبحثون عن مفر، حيث يواجه هؤلاء الأفراد إجراءات معقدة وطويلة المدى تتعلق باستخراج تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة، مما يعرض حياتهم للخطر مع استمرار وجودهم في البلاد تحت حكم حركة طالبان. وفي عام 2009 قُتل ما يقرب من 300 مترجم أفغاني أثناء سعيهم إلى الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة. كما جاء في تتر نهاية فيلم “العهد”، أن حركة طالبان عقب استعادة السلطة في أفغانستان، قتلت أكثر من 300 مترجم أفغاني بسبب تعاونهم مع الجيش الأمريكي، ولا يزال الآلاف منهم مختبئين حتى الآن خوفًا من الفتك بهم.
وفي هذا الصدد ينتقد فيلم “العهد” أزمة المترجمين الأفغانيين من زاويتين؛ الزاوية الأولى (حنث العهد)، والزاوية الثانية (تعقيد إجراءات استخراج تأشيرة اللجوء)، فبعدما أنقذ المترجم أحمد الرقيب كينلي من محاولة القتل على أيدي طالبان، وخاطر بحياته عائدًا بكينلي إلى قاعدة بجرام الجوية عبر سلاسل الجبال الوعرة ووسط مطاردة مقاتلي طالبان لهما، تجاهلته الحكومة الأمريكية، وتركته يواجه مصيرًا محفوفًا بالخطر ويعيش متخفيًا ومتنقلًا بصحبة زوجته وطفله الرضيع هربًا من طالبان التي وضعته على رأس قائمة المطلوبين ورصدت مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عن مكانه أو يقتله. هذا بالإضافة إلى رفض الحكومة الأمريكية إصدار تأشيرة دخول لأحمد وأسرته بسبب اختفائه، وهي تعلم أن ظهورهم قد يودي بحياتهم، ولولا تدخل كينلي شخصيًا ومطالبة رئيسه بأن يستخرج تأشيرة دخول لأحمد وأسرته بأية وسيلة، وكذلك عودته إلى أفغانستان متخفيًا ليُهرِب أحمد وأسرته من البلاد، لما كُتب عمرٌ جديدٌ لأحمد وأسرته، ولما بقوا على قيد الحياة.
![](https://arabic.realtribune.ru/img/uploads/2023/07/من-كواليس-الفيلم.jpg)
خيال يروي الواقع
تستند قصة “العهد” على بعض الحقائق والآراء المؤكدة مما يجعله فيلمًا واقعيًا أو بالأحرى خيالًا يروي الواقع، فكما ذكرتُ آنفًا يرد في تتر النهاية أن أكثر من 300 مترجم أفغاني لقوا حتفهم على أيدي طالبان بسبب تعاونهم مع الولايات المتحدة، ولا يزال هناك آلاف المترجمين مختبئين خوفًا من الفتك بهم. وفي هذا الصدد تذكر الدبلوماسية الأمريكية السابقة “آني بفورزهايمر” Annie Pforzheimer التي شغلت منصبي نائب رئيس البعثة الأمريكية في العاصمة الأفغانية كابول خلال عامي 2017 و2018، والقائم بأعمال نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفغانية عام 2019، أن الرقم المذكور يبدو صحيحًا، وتقول: “مما لا شك فيه أن هذه الإحصائية أصبحت قديمةً نسبيًا، فهناك العديد من الحالات الموثقة قد أوردتها تقارير منظمة الأمم المتحدة ومراقبو حقوق الإنسان المستقلون”.
وتوضح علاقة كينلي وأحمد صلات وطيدة جمعت بين الجنود الأمريكيين والمترجمين الأفغانيين قد لمستها السيدة آني عن قرب، حيث تتحدث عنها قائلة: “إن الجنود والدبلوماسيين الأمريكيين الذين خدموا في أفغانستان طيلة 20 سنة مع المترجمين والقوات العسكرية والشرطية والمسؤولين الأفغانيين، لديهم شعور عميق بالوفاء لهؤلاء الأفراد”، وتؤكد آني أن أفلامًا مثل “العهد” تعكس مشاعر الجنود والدبلوماسيين الأمريكيين الحقيقية تجاه أقرانهم الأفغانيين، وتحقق بعضًا من آمالهم.
ما ذكرته الدبلوماسية الأمريكية يوثقه الفيلم من خلال مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية تظهر متلاحقة في تتر النهاية، حيث يظهر في هذه الصور جنود أمريكيون برفقة مترجمين أفغانيين، وهم يضحكون ويلهون ويتسامرون ويتصافحون ويحتضنون بعضهم بعضًا كأنهم أصدقاءٌ حميمون جمعتهم سنوات طويلة من العِشرة الطيبة. والحقيقة أنها سنوات طويلة بالفعل.. أنها 20 سنة من الأوقات العسيرة واليسيرة واللحظات التعيسة والسعيدة، تضاربت فيها المقاصد والغايات لكن توحدت فيها المشاعر والأمنيات.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.