القاهرة – (رياليست عربي): انتهت الجولة الأولى من المفاوضات الإيرانية الأمريكية غير المباشرة حول البرنامج النووي الإيراني، بوساطة سلطنة عُمان واستضافتها يوم السبت 12 أبريل 2025 وسط أجواء إيجابية، وفقًا لتصريحات الطرفين.
يتولى رئاسة الوفد الأمريكي في المفاوضات، مبعوث الرئيس الخاص إلى الشرق الأوسط “ستيف ويتكوف” Steve Witkoff، ويتولى رئاسة الوفد الإيراني وزير الخارجية “عباس عراقتشي (عراقچي)” Abbas Araghchi، بينما يقوم وزير الخارجية العُماني “بدر البوسعيدي” بدور الرسول بين الجانبين.
تهدف هذه المفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي المبرم بين طهران وواشنطن بشروط جديدة من قبل الولايات المتحدة، أو صياغة اتفاق جديد يتواءم مع مصالح الطرفين المتأرجحة بين التفاهم والتخاصم، وكذلك المتغيرات الجيوسياسية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط.
كانت إيران قد عقدت الاتفاق النووي المعروف باسم (برجام) مع الدول الست الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، روسيا، فرنسا، الصين، ألمانيا (مجموعة 5+1) عام 2015 بعد مفاوضات ماراثونية استغرقت سنوات، لكن مع تصاعد الخلافات بين طهران واشنطن بسبب تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة ودعم الميليشيات الشيعية المتناحرة مع الولايات المتحدة في مناطق نفوذها، ورفض إيران إدراج برنامجها الصاروخي ضمن بنود الاتفاق النووي أو خضوعه إلى المراقبة الدولية، قرر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” Donald Trump الانسحاب من الاتفاق النووي وعودة العقوبات الأمريكية على طهران مرة أخرى عام 2018، معتبره أسوأ اتفاقًا في تاريخ الولايات المتحدة، وفي مقابل ذلك، جمدت إيران جميع تعهداتها في هذا الاتفاق.
تخشى الدول الأوروبية بزعامة الولايات المتحدة توصل إيران إلى تصنيع القنبلة الذرية مع زيادة معدلات تخصيب اليورانيوم إلى الحد المطلوب، وامتلاكها صواريخ باليستية لديها القدرة على حمل رءوس نووية. في حين أن طهران قد صرحت مرارًا وتكرارًا أن برنامجها النووي ذو أغراض سلمية يستخدم في إنتاج الطاقة.
عقب الانتهاء من المفاوضات بين طهران وواشنطن في مسقط، صرح وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقتشي” بأن المحادثات كانت بناءةً وواعدةً، يسودها الاحترام المتبادل، وأنه أوضح للجانب الأمريكي وجهة النظر الإيرانية بشكل قاطع ورؤيتهم المستقبلية. وقال الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”: إن المحادثات مع إيران تسير على نحو جيد. وعلق وزير الخارجية العُماني “بدر البوسعيدي” في رسالة له عبر منصة (إكس)؛ أن المحادثات جرت في جواءٍ وديةٍ مواتيةٍ لتقريب وجهات النظر وتحقيق السلام والأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والعالمي.
وكان “عليّ شمخاني”، مستشار المرشد الأعلى الإيراني “عليّ خامنئي”، قد صرح يوم الجمعة 11 أبريل قبل انطلاق المفاوضات بأن وزير الخارجية الإيراني لديه صلاحيات كاملة في التفاوض مع الجانب الأمريكي، وذلك في إشارة غير مباشرة إلى أن المرشد الأعلى منح “عراقتشي” صلاحيات غير مشروطة أو محدودة في عملية التفاوض.
يُذكر أن “خامنئي” قد منع تواصل فريق التفاوض الإيراني مع نظيره الأمريكي وجهًا لوجه سابقًا، كما أكد “عراقتشي” قبل عدة أيام من بدء المفاوضات وبعد انتهائها أن إيران ملتزمة بإجراء محادثات غير مباشرة.

أجواء المفاوضات
عُقدت المفاوضات غير المباشرة بين إيران وأمريكا في قاعتين منفصلتين، وجرى نقل وجهات نظر الطرفين ومقترحاتهما بشأن خفض حدة التوتر بين طهران وواشنطن وحل الاختلافات القائمة بينهما إلى كل من الجانبين عبر وزير الخارجية العُماني. وقال عراقتشي في تصريحات خاصة بالتلفزيون الإيراني: لقد أجرينا محادثات غير مباشرة، استغرقت حوالي ساعتين ونصف الساعة بفضل جهود وزير الخارجية العُماني البوسعيدي، وتبادلنا الرسائل 4 مرات. أجواء المحادثات كانت إيجابية وهادئةً وبناءةً، واتفقنا على مواصلتها خلال الأسبوع المقبل ربما يوم السبت. إذ إننا نرغب في إبرام اتفاق في أقرب وقت، ولا نريد محادثات من أجل المحادثات.
وجاء في بيان البيت الأبيض أن المحادثات كانت إيجابيةً وبناءةً للغاية، وأن المبعوث الأمريكي “ستيف ويتكوف” التقى وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقتشي” وجهًا لوجه، وفي هذا الصدد قال “عراقتشي”: لقد التقينا ويتكوف أثناء الخروج من مقر المحادثات، ودار حديث قصير بيننا استغرق عِدَّة دقائق، اقتصر على تبادل التحية والسلام، وهذا أمرٌ عاديٌ في اللقاءات الدبلوماسية، ونحن نراعي الأعراف الدبلوماسية.
على الرغم من أن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران في قطاعات مختلفة، وحل أزمة البرنامج النووي الإيراني هما محور المفاوضات الأساسي، لكن لم يعلن أي طرف من المشاركين فيها عن تفاصيل المحادثات أو ما جرى بها.
من المقرر أن تُعقد الجولة الثانية من المفاوضات الإيرانية الأمريكية يوم السبت القادم 19 أبريل في العاصمة الإيطالية “روما”، وفقًا لتصريحات وزير الخارجية الإيطالي “أنطونيو تاجاني” Antonio Tajani، نقلتها عنه وكالة الأنباء الإيطالية “أنسا” ANSA.
تأتي هذه المفاوضات بعد حرب إعلامية بين إيران وأمريكا امتدت عِدَّة أشهر، توعد فيها الطرفان بتوجيه ضربات عسكرية لبعضهما، كان آخرها تهديد الرئيس الأمريكي بتنفيذ عملية عسكرية ضد إيران قد تشمل منشآتها النووية إذا لم تنجح المحادثات في التوصل إلى اتفاق بين الطرفين.

لماذا وافقت إيران على التفاوض؟
السؤال الذي يطرح نفسه الآن بعيدًا عن نجاح المفاوضات أو فشلها؛ لماذا وافقت طهران على التفاوض مع واشنطن والجلوس مع موفد الرجل الذي اِنسحب من الاتفاق النووي واغتال قائد فيلق القدس السابق “قاسم سليماني” على الرغم من رفضها القاطع سابقًا؟!
أثناء حملته الانتخابية وبعد ولوجه مكتب “الباستور”، صرح الرئيس الإيراني “مسعود بزشكيان” أكثر من مرة أنه على استعداد للدخول في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة من أجل حل المشكلات العالقة بين الطرفين على الرغم من رفض المرشد الأعلى “عليّ خامنئي” هذه الخطوة والتطلع إليها بحذر وريبة، لكن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط من تغيُرات جيوسياسية متسارعة، جعل أركان النظام الإيراني في حاجة ماسة إلى إعادة تقييم حساباته في المنطقة بشكل يخدم أمنه القومي، ويحافظ على استقراره الداخلي المضطرب.
تعاني إيران منذ عقود من أزمة اقتصادية طاحنة نتيجة العقوبات الأمريكية المفروضة على المؤسسات المالية الإيرانية في الداخل والخارج، ليس بسبب البرنامج النووي فحسب، بل بسبب هوية النظام الجديد “الثيوقراطي” بعد الثورة الإيرانية عام 1979، وكان أول هذه العقوبات في عهد الرئيس “جيمي كارتر” Jimmy Carter عقب اقتحام الطلاب الإيرانيين السفارة الأمريكية بطهران واحتجاز 52 أمريكيًا كرهائن إبان الثورة في نوفمبر 1979. استمرت وتيرة العقوبات في التصاعد مع توتر العلاقات بين الطرفين جراء أزمات لاحقة مباشرة وغير مباشرة مثل الحرب الإيرانية العراقية (1980: 1988)، دعم الميليشيات الشيعية في المنطقة، تكثيف نشاط البرنامج النووي، توجيه ضربات عسكرية إلى إسرائيل ردًا على اغتيال رجالات الحرس الثوري وعلماء نوويين إيرانيين، كان أهمهم عالم الفيزياء النووية “محسن فخري زاده” الملقب بالأب الروحي للبرنامج النووي الإيراني.
على هذا النحو بات الاقتصاد الإيراني هشًا جدًا، وارتفعت معدلات التضخم والبطالة إلى درجات غير مسبوقة، مما جعل الشعب الإيراني يدفع ضريبة باهظة نتيجة سياسات النظام، ترتب عليها دوران البلاد في حلقة مفرغة تعج بالاحتجاجات الشعبية المطالبة بتحسين مستوى المعيشة وتحقق العدالة الاجتماعية، كان أبرزها مظاهرات ارتفاع أسعار البنزين ثلاث أضعاف قيمته الأصلية عام 2019.
بعيدًا عن الأزمة الاقتصادية، تشهد إيران منذ سنوات على فترة منفصلة متصلة احتجاجات شعبية من نوع آخر تطالب بسقوط النظام الثيوقراطي بسبب قمع الحريات العامة، وربما كان أضخمها وأوسعها نطاقًا مظاهرات “الحركة الخضراء” عام 2009 على خلفية تزوير نتيجة الانتخابات الرئاسية لصالح الرئيس الأصولي “محمود أحمدي نجاد”، وكذلك مظاهرات “امرأة، حياة، حرية” عام 2022 على خلفية مقتل الفتاة الإيرانية كُردية الأصل “مهسا أميني” على يد “شرطة الأخلاق (دورية التوجيه)” عقب اعتقالها بسبب ارتداء الحجاب بشكل “غير مثالي”.
هذه الاحتجاجات واجهها النظام الإيراني بعنفٍ شديدٍ، واعتقل فيها آلاف المتظاهرين وأذاقوهم ألوانًا من العذاب يندى له الجبين، فضلًا عما لاقاه المتظاهرون من قتل وسحل وتنكيل أثناء إخماد هذه الاحتجاجات.
إذا تركنا الشأن الداخلي الناضح بما فيه من مشكلات، وعرجنا إلى الشأن الخارجي، فسنجد الأمر أكثر سوءًا.
العلاقات الإيرانية مع أغلب دول العالم متوترة دائمًا. الدول الأوروبية لديها شكوك عديدة حول أهداف البرنامج النووي الإيراني، والولايات المتحدة وإسرائيل تعدانه خطرًا داهمًا عليهما خاصة بعد اندلاع الثورة الإيرانية وزحزحتهما من خانة “الصديق الحميم” إلى خانة “العدو اللدود”.
أما الدول العربية “الخليجية” ذات الأغلبية السُنية، فتعتبر إيران المسؤول الأول عن بث الفتن الطائفية بها بسبب تقديم الدعم المالي والعسكري إلى الجماعات الشيعية في هذه الدول ومساعدتها على قلب أنظمة الحُكم في إطار مبدأ تصدير الثورة “الإسلامية” ومد النفوذ الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما جعل النظام الإيراني يصف الثورات العربية عام 2011 بـ “الصحوة الإسلامية”، ويعدها مخاض الثورة الإيرانية.
مثلما كانت حرب غزة حدثًا فارقًا في تاريخ الشرق الأوسط وامتد أثرها إلى دول الجوار، ألقت كذلك هذه الحرب ظلالها على إيران. مع استمرار الحرب بين حركة حماس الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلية، وتوحش العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اتسع نطاق الحرب، ودخل “محور المقاومة” بزعامة إيران على جبهة القتال يأزر حماس. لكن مع قيام أمريكا وإسرائيل بتصفية قيادات حركة حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني على رأسهم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “إسماعيل هنية”، وخليفته “يحيى السنوار”، والأمين العام لحزب الله اللبناني “حسن نصر الله”، ثم سقوط نظام “بشار الأسد” المفاجئ في سوريا، حليف إيران الاستراتيجي الوحيد بين الدول العربية، أمست طهران تتزعم محورًا لا وجود له على أرض الواقع، أو بعبارة أدق بُترت أذرعها العسكرية في المنطقة.
من ناحية أخرى، أصبحت روسيا أحد أهم حلفاء إيران الاستراتيجيين المعدودين على أصابع اليد الواحدة في الغرب تميل إلى الولايات المتحدة حاليًا، بعد تعهد “دونالد ترامب” بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية وانحيازه الواضح لروسيا على عكس سلفه “جو بايدن” Joe Biden، وبالتالي غدا ركون إيران على روسيا في مجابهة الولايات المتحدة يخالجه بعض الشك، نظرًا لتضارب المصالح الحالية بين الطرفين.

كل هذه الأحداث جعلت إيران في عزلة سياسية حقيقية دون حلفاء، مما دفعها إلى مراجعة سياساتها بشكل يخدم أمنها القومي داخليًا وخارجيًا. هذه المراجعة لا تأتي من منطلق ضعف أو خنوع كما قد يتصور البعض، لكنها تأتي من منطلق عقل وحكمة.
حالة التصعيد الدولي ذات الأطراف المتعددة، ظهور تحالفات بين دول كانت ذات يوم متنافرات، التغيُرات السياسية الجارية على قدم وساق، جميعها أسباب دفعت إيران إلى انتهاج طريق الدبلوماسية والسعي إلى تهدئة الأوضاع بعد فترة طويلة من حرب الوكالة مع أمريكا وإسرائيل.
على الجانب الآخر، تدرك الولايات المتحدة أن توجيه ضربة عسكرية مباشرة إلى إيران في عمق أراضيها أو محاولة قلب نظام الحكم بها ستسفر عن عواقب وخيمة في منطقة الشرق الأوسط، فالنظام الحالي في إيران هو نتاج قيام الولايات المتحدة بالتدخل في الشأن الإيراني وإطاحتها برئيس الوزراء الليبرالي “محمد مصدق” عام 1953 فيما يُعرف بـ “انقلاب 28 مُرداد” من أجل عودة الشاه “محمد رضا بهلوي” إلى العرش مرة أخرى بعد فراره من البلاد. هذا الأمر يعلمه جيدًا الأمريكيون والإيرانيون على حدٍّ سواء.
في النهاية إذا وصلت المفاوضات الحالية بين العِمَّة الإيرانية والنسر الأمريكي إلى برٍ مأمونٍ أو طريقٍ مسدودٍ، لن يتحدد معها مستقبل البرنامج النووي الإيراني والعلاقات الدبلوماسية بين طهران وواشنطن فحسب، بل سيتحدد معها مستقبل الشرق الأوسط كله خلال السنوات القادمة؛ إمَّا يكون ثائرًا وإمَّا يكون مستقرًا.
إن إيران دولة لها ثقلها الإقليمي ودورها الفعال، قد نتفق معها حينًا أو نختلف معها حينًا آخر، لكنها تمتلك مفاتيح حل عدد كبير من الأزمات الراهنة، فأية تطورات تحدث بها ستُلقِي بظلالها على دول المنطقة بشكل أو بآخر.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.