موسكو – (رياليست عربي): كتب ألكسي أريستوفيتش، المستشار السابق في مكتب الرئيس زيلينسكي، في قناته على التلغرام:
(معضلة مرعبة: السماح للرجال بمغادرة البلاد أم لا؟!
مرعبة، لأن ما يستتبع ذلك هو سؤال مرعب:
ما هو عدد الذين سيعودون إلى أوكرانيا؟
و ينطوي هذا السؤال المرعب على سؤال أكثر رعباً:
ما هذا البلد الذي بنينا، و الذي لا نعلم يقيناً عدد الذين سيعودون إليه؟!
وفي هذا السؤال يكمن جوهر المشكلة.)
أريستوفيتش ليس محللاً سياسياً، يبني آراءه على بعض المعلومات المتوفرة محاولاً إيجاد رابط بينها؛ بل هو مسؤول رفيع سابق في الرئاسة الأوكرانية، وبالتالي هو يعلم كل خفايا النظام الأوكراني، لذلك فإن التوقف عند كلامه ضروري لفهم ماهية الوضع الداخلي في أوكرانيا، وهذا ما ننوي فعله في هذه المقالة.
لقائل أن يقول: لو شُنّت حرب على أي دولة في العالم، ألن يفكر الناس هناك بالمغادرة إلى مكان أكثر أمناً؟!
بالتأكيد الجواب: نعم؛ فلقد شهدت جميع الحروب التي خاضتها البشرية عمليات نزوح من أماكن الصراعات إلى أماكن أخرى، ومن حق أي إنسان أن يبحث عن الأمن و السلامة له و لأفراد عائلته.
ولكن المثير للانتباه في الحالة الأوكرانية عدد الإجراءات التي تم اتخاذها لمنع الناس من مغادرة أوكرانيا من جهة، و محاولة أوكرانيا استعادة أولئك الذين غادروا البلاد بطريقة شرعية أو غير شرعية من جهة ثانية، دعوى السلطات الأوكرانية بأن الشعب متحمس لمقاومة (الغزو الروسي) و الدفاع عن سيادة أوكرانيا من جهة ثالثة، إدّعاء الدولة الغربية بأنها أرست قواعد الديمقراطية و الدولة المتحضرة المتماسكة من جهة رابعة، تعدد طرق الإلتفاف على القانون للتهرب من الخدمة العسكرية من جهة خامسة.
سنعرّج على هذه النقاط بالتفصيل، مع ضرورة الإشارة إلى أن ما سنقدمه من معلومات ليس مبنياً على استطلاعات اجتماعية تعكس المزاج الداخلي الأوكراني، ولكنه يقدم لنا صورة ما لواقع المجتمع الأوكراني وموقفه من الحرب و النخبة الحاكمة في البلاد، و هذه الصورة مبنية على العديد من التقارير الإعلامية التي ظهرت في الفترة الأخيرة في مختلف وسائل الإعلام الأوكرانية و الروسية و الغربية.
1-أدّى إخفاء الحقيقة حول خسائر و أوضاع الجيش الأوكراني في الجبهات إلى حالة من الإحتقان بين الناس من جهة، وحالة من الإرباك و التخبط بين المسؤولين الغربيين من جهة ثانية. و لقد خرجت الناس في مظاهرات عديدة للمطالبة بمعرفة مصير ذويهم على الجبهات.
و في اللقاء الذي عقده الأمين العام لحلف الناتو في البرلمان الأوروبي، قالت عضو البرلمان الأوروبي عن إيرلندا، السيدة كلير ديلي، مخاطبةً ستولتنبرغ: (قلتَ إن أوكرانيا تستعيد أراضيها، هذا ليس صحيحاً، فمنذ وجودك الأخير هنا في سبتمبر 2022 خسرت أوكرانيا الأراضي، و قُتل نصف مليون شخص، إضطرت أوكرانيا إلى اللجوء إلى تجنيد المعاقين و المرضى النفسيين، الرجال يدفعون المال للهروب من أوكرانيا و يختبئون في البيوت. نحن في حرب دموية استنزافية، وتركناها تستمر بكل بساطة، إذا كنتم حريصين على أوكرانيا، فما هي رؤيتكم لخطة السلام و إنقاذ حياة الأوكرانيين.)
اكتفى ستولتنبرغ بالقول بأن الغرب حضّر نفسه لحرب دموية، ولكنه لم يعلق على البيانات و المعلومات التي أوردتها ديلي.
وحول هذه النقطة، أكّدت رئيسة الخدمات الطبية لكتيبة (ذئاب دافنشي)، التي تعمل في محور كوبيانسك، السيدة ألينا ميخائيلوفا، في مداخلتها في منتدى يالطا للاستراتيجية الأوروبية، أن الجيش الأوكراني يتكبد خسائر فادحة. قالت حرفياً: (ما يحدث على الجبهة لا يمكن قراءته في أي أخبار. يعتقد الناس أن النصر سيأتي اليوم أو غداً، ولكنه لن يأتي لا اليوم ولا في الغد ولا بعد سنة، ولكي يتحقق لا بد من تعبئة عامة).
صرّحت وزيرة السياسة الاجتماعية في أوكرانيا، السيدة أكسانا جولنافيتش بأن الحرب خلّفت حوالي 300 ألف معاق، وأن أوكرانيا تعاني من نقص حادٍ في الكوادر و المراكز المتخصصة في معالجة الإعاقات.
وفي نفس السياق، في تصريحات لسكاي نيوز، أكّد الطبيب الأمريكي مايك موركاران، الذي يعمل في مجال زراعة الأطراف البديلة للأوكرانيين، أن عدد الجنود الذين فقدوا أحد أطرافهم وصل إلى 25 ألفاً، و هذا العدد يفوق بعشر أضعاف العدد الذي خلفته حروب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق خلال 20 عاماً. في حين أكدت صحيفة وول ستريت جورنال أن عدد من فقد أحد أطرافه يصل إلى حوالي 50 ألفاً. وتؤكد العديد من المصادر أن أحد الأسباب الرئيسية لفقدان الأطراف هو المعالجة الطبية السيئة و المتأخرة، الأمر الذي يؤدي إلى تعفن جروح الجنود فيضطر الأطباء إلى بتر الطرف.
2-يتهرب الأوكرانيون من الخدمة العسكرية بكل الطرق و الوسائل، و بعضهم يدفع للمافيات و حرس الحدود مبالغ كبير لكي يتمكن من مغادرة أوكرانيا. يومياً تروي وسائل الإعلام الأوكرانية و غير الأوكرانية قصصاً لمحاولات الهروب إلى الدول المجاورة، و تؤكد التحقيقات مع الهاربين أنهم دفعوا مبالغ كبيرة لكي يتمكنوا من الهرب. وهذه القصص كثيرة جداً، وموثقة بالأسماء و التواريخ، ولكن لا يتسع المقال لروايتها جميعها.
و حول هذا الموضوع، نقلت صحيفة التايمز بتاريخ 23 سبتمبر 2023 قصة أحد الجنود الجرحى، ويُدعى أندريه، وهو متطوع في الجيش الأوكراني، أكّد أندريه أنه لا رغبة عنده بالعودة إلى الجبهة، فجراحه عولجت بطريقة سيئة، وقد عرض عليه الأطباء فرصةً لإرساله إلى ألمانيا للعلاج مقابل دفع رشوة قيمتها 1500 دولاراً. و على الرغم من جراحه و عجزه النسبي أكّد الأطباء بأنه قادر على القتال، وكأننا كتل من اللحم، وفق تعبير أندريه.
3-الفساد في شعب التجنيد الأوكرانية مستشري إلى أبعد الحدود، فالكثير من الموظفين أصبح فاحش الثراء بسبب الرشاوى التي يتقاضاها من الشباب. بعض الرجال يدفعون مبالغ كبيرة تصل إلى ما بين 4-6 آلاف دولار للأطباء و الموظفين في شعب التجنيد لكي يتم منحهم وثائق تؤكد عدم صلاحيتهم للخدمة العسكرية. ولقد تحدثت الصحافة الأوكرانية عن الكثير من الحالات التي تم ضبطها وإحالتها إلى القضاء. الرئيس زيلينسكي نفسه في شهر آب الماضي أقال جميع رؤساء شعب التجنيد في جميع المقاطعات بسبب الفساد.
4-في الكثير من الحالات تحصل مواجهات بين المواطنين و العاملين في شعب التجنيد، ولقد وثّقت وسائل الإعلام بالصوت و الصورة العديد من حالات الاعتداء على المواطنين لإرغامهم على الإلتحاق بالخدمة العسكرية. وموظفو شعب التجنيد كثيراً ما يلجؤون للضرب و توجيه الإهانات للرجال في مراكز التجميع، و في العديد من الحالات تكون أجهزة الشرطة متواطئة مع تلك المراكز.
5-وفق تقديرات صحيفة وول ستريت جورنال، كانت معدلات الولادة في أوكرانيا الأقل أوروبياً، و بسبب التغيرات الديموغرافية فإنها ستصبح الأقل عالمياً. فلقد انخفض عدد الولادات في الأشهر الستة الأولى من عام 2023 بنسبة 28% مقارنة مع نفس الفترة في عام 2021، و هذا الانخفاض الأكبر منذ نيل أوكرانيا استقلاها عام 1991.
لتعويض النقص الحاد في الموارد البشرية لجأت القيادة الأوكرانية إلى العديد من الإجراءات:
آ-تعديل القوانين المتعلقة باستدعاء الطلاب، الذين يلتحقون بدراسة جامعية ثانية؛ فالعديد من الشباب الأوكرانيين التحق بالجامعات مرة ثانية بهدف الحصول على وثائق تمكنه من تأجيل الخدمة العسكرية الإلزامية. و تذكر بعض المصادر أن عدد الطلاب الجامعيين زاد بنسبة 80% في السنة الأخيرة.
ب-تخفيض عمر الاستدعاء للخدمة العسكرية من 27 سنة إلى 25 سنة بهدف توسيع الشريحة العمرية للاستدعاءات العسكرية.
ج-عدلت القيادة الأوكرانية قوانين التجنيد بحيث تتمكن من استدعاء بعض الفئات المصابة بأمراض معينة، و هي: السل، التهاب الكبد، الإيدز، أمراض الدم و جهاز الدوران، أمراض الغدد الصم، بعض الأمراض النفسية و العصبية الخفيفة، اضطرابات الذاكرة و النوبات الإنفعالية. أثارت هذه التعديلات جدلاً واسعاً، داخل أوكرانيا و خارجها. على سبيل المثال، علّق السيد ألكسي دانيلوف، أمين مجلس الأمن القومي و الدفاع الأوكراني، قائلاً، ما معناه: في القوانين الأوكرانية الناظمة للتجنيد يتم استخدام مصطلحين: إما صالح للخدمة العسكرية أو غير صالح، و لا بد من إعطاء تفسير واضح لهما حتى لا يتم تأويلهما بشكل ثنائي أو ثلاثي المعنى.
د-فرضت أوكرانيا على جميع النساء، اللواتي يحملن شهادات جامعية طبية، أي الصيادلة و الأطباء، ضرورة مراجعة شعب التجنيد لتسجيل أسماءهم في السجلات هناك، و على اللواتي سجلن أسماءهن سابقاً تحديث هذه البيانات. و تؤكد المصادر بأنه سيتم تقييد مغادرتهم خارج أوكرانيا.
ه-تسعى أوكرانيا إلى استعادة الأوكرانيين اللاجئين في الدول الأخرى، و هي تطلب من هذه الدول مساعدة قانونية دولية لتسليمهم للأجهزة الأمنية الأوكرانية. و وفق تصريح رئيس الكتلة البرلمانية (خادم الشعب)، السيد ديفيد آراخاميا، فإن مثل هذه القرارات ستشكل فرصة كبيرة تمكن أوكرانيا من استعادة المطلوبين للخدمة العسكرية. ولقد عرضت السفارة الأمريكية مكافئات مالية لوسائل الإعلام البولندية على نشرها مواد تشجع الأوكرانيين على العودة إلى الوطن للدفاع عنه.
ما ذكرناه في الأعلى هو غيض من فيض مما يمكن الحديث عنه في هذا الملف المعقد، ولكنه يكفي للإضاءة على الموضوع. لذلك فإننا ندعو إلى البحث عن حلول سلمية لهذه الحرب و تشجيع النخبة الحاكمة في أوكرانيا على المفاوضات مع روسيا، فالاستمرار في هذه الحرب يعني المزيد من سفك الدماء و المزيد من الدمار و الخراب.
خاص وكالة رياليست – الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات – موسكو.