هناك ملفات تمتاز بحساسية عالية لدى اثيوبيا، وليس للسودان حيالها موقف ثابت: وأولها موضوع سد النهضة، الذى يبدو أن السودان ما زال يحافظ على توازن ونقاط جيدة بأنه وسيط موثوق فيه لتلطيف الأجواء لدى الطرفين، أما الثاني فهو ملف الحدود بين البلدين وهذا لا يقل أهمية عن ملف السد .. فأيهما يمكن أن تخلط عبره اديس ابابا الأوراق مع الخرطوم وفي هذا التوقيت ولماذا!؟ دعونا نرى ؟!
بالإشارة الي خلفية الأحداث السابقة التى وقعت في منطقة الفشقة الصغرى وما صحبها من عمليات متتالية مما أضطر السودان في ابريل الماضي من اعادة انتشار قواته، ممهورة بزيارة ميدانية وتصريح من رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبدالفتاح البرهان قائلاً : “لن نسمح بالتعدى على اراضينا”؛ عند هذا الوضع هبط في اليوم الثاني رئيس أركان الجيش الاثيوبي في الخرطوم في زيارة خاطفة مستفسراً عن هذا الحضور العسكري، وأعتقد أن أديس ابتلعت ما راج وقتها في مزاج الاعلام المصري من طعم ارتبط بتطورات مهمة تنطلق من فرضية مفادها ان السودان قلّب مصلحته في موضوع سد النهضة باتجاه الرؤية المصرية والتى تشير إلى توجه مصر للقيام بعمل عسكري او على نحوه، وإلا لماذا الحضور في هذا التوقيت؛ بيد انه ما خرج به الجنرال آدم بعد المباحثات مع رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء تبدو مطمئنة حد ما و جاءت في صياغ تفسير توقف جبهات القتال في عدد من المناطق المشتعلة بداية بحرب دارفور التي انطلقت شرارتها في العام 2003م لذلك عدنا لحماية حدودنا.
و بقراءة احداث الأمس التي قامت بها العصابات الإثيوبية والتى تتخذ من الداخل الاثيوبي نقطة انطلاق لتنفيذ أعمال نوعية تستهدف المزارعين واحياناً القوات النظامية كما حدث بالأمس، لابد من التأكيد على ان هذا العمل يتجاوز مجرد عمل مجموعة طائشة وصفها الحركي “الشفته”، لان عملها يظهر بطريقة منظمة وتتخير تنفيذه بالازمان والأماكن و بالأحداث المحلية والاقليمية، وبالتالي حُق لنا أن نتسائل: من وراء هذه العصابة؟! ولماذا تمارس عملها تحت مرئى ومسمع حكومتها دون أن تفعل الاخيرة شيئاً؟! وما هي خيارات اجندتها غير المعلنة عبر هذه التحركات؟!
ولربط الأحداث ببعضها فنحن أمام مؤشر خطير يُعّبِر عن حالة توازن الضعف والسيولة السياسية التي تعترى الوضع في السودان وما يمر به من مرحلة عسيرة، واثيوبيا التي هي ايضاً الاخرى مقبلة على خريف صعب ربما ستواجه فيه بلادها أزمة دستورية على خلفية أمر الطوارئ الذى سيستمر الي 5 سبتمبر جراء جائحة كورونا وهو ما يلغى بظلاله على تأجيل الانتخابات للمرة الثانية المزمع عقدها في اغسطس من هذا العام، ووفق الدستور الفدرالي الاثيوبي يجب إقامة الانتخابات قبل انتهاء دورة البرلمان والحكومة كما مشار إليه، وفي الضفة الاخرى هناك إصرار واضح من حاكم اقليم تقراي ديبرصون وقد لوح بالمضي قدماً، واقامة الانتخابات في موعدها المحدد، وهو ما جعل رئيس الوزراء وقتها يخرج في التلفاز ويصف خطوة ديبرصون بانها خرقاً للقانون وتترتب عليها مسائلة، وهذا بدوره سيعقد المشكلة أكثر ويجعل الحلقة تضيق حول عنق الحكومة الفدرالية ويجعل وضعها الداخلي لا يسمح لها بالمناورة مهما كان.
فهل اديس ابابا تعى هذه الظروف جيداً وهي في الاثناء تمارس سياسة قض الطرف من هذه الاحداث الصغيرة في نظرها الخطيرة في تطوراتها التى قد تتحول الآن لجبهة جديدة في حلقة الجوار القريب؛ لتكون نقيض لما جاء به ابي احمد من سياسة وهي (صفر مشاكل مع دول الجوار) ؟! ام ان ابي يحاول خلط الاوراق عبر هذا الملف لتمديد أجل عمل الحكومة وبالتالي خلق حالة طارئة تستجوب لملمة الوضع الداخلي والاصطفاف تجاه القضايا القومية؟! وعند هذا الوضع ما هي حدود صبر الخرطوم التي ظلت ولفترة طويلة رغم الاستفزازات تمارس قدر عالٍ من ضبط النفس؟!
السودان ظل حافظاً لعهده مع جيرانها على مر الازمان، فلم يغريه الطمع أو فائض القوة يوماً بالحاجة للغير فهو قنوع بخيرات أرضه، وليس لديه اطماع في المستقبل للتغول على جغرافية غيره، لا مع الجانب الاثيوبي او المصري الذي ظل يمارس نفس السياسة التوسعية في مثلث حلايب وشلاتين؛ او اي دولة جارة اخرى، هذا مع حضور وتوفر القدرة للعمل و على الدوام، فالسودان كان ومازال يراعى حرمة وقدسية حدود جيرانه الذين تسلطوا علي حدوده وتمددوا فيها بطريقة مباشرة وغير مباشرة وهم في ذلك يمتحنون صبره الاستراتيجي، فالجيش الاثيوبي توغل في أكثر من مرة داخل العمق السوداني بامتار، ولم يكن بهذا الاختراق يوماً يطارد عصابته التي تنطلق من اراضيه للاعتداء على المزارعين السودانيبن، وهذا يجعلنا نطرح سؤال: لماذا هذه الرمادية والتناغم والنعومة في التعاطى مع هذه العصابة ؟!
هذا العمل تتحمل مسؤوليته الكاملة الحكومة الإثيوبية باعتبار انها تتعامل مع هذه العصابة بمنتهى الاستخفاف، وقد لا يستمر الصبر السوداني كثيراً مع تزايد الاعتداءات على مواطنيه وجيشه؛ فالشفته ليست حركة تمرد عابرة للدول حتى تعجز الحكومة الاثيوبية عن ردعها، واثيوبيا لا تخوض حربا او مشغوله بحرب حتى يعذرها الموقف السوداني الرسمي من المساءلة عن أعمال هذه العصابة؟!
كذلك في الطرف الثاني هناك جهة ربما يكون لديها يد فيما يحدث في تلك المنطقة من أحداث؛ وهي حكومة إقليم الأمهرا التي تقف ايضاً عاجزة بذات مسافة الحكومة الفدرالية من هذه الاحداث، ومعروف ان الأمهرا ما زالت تختبر شراكتها مع ابي احمد والمرتبطة ايضا بالأحداث والمتغيرات في الداخل خاصة تلك التي تتعلق بالضعف العام الذى يظهر على اختلال التوارنات السياسية القبلية، فهي فاعل رئيس في صراع الحدود مع السودان وتتبنى نخبة متطرفة من أبناءها توجهات مفادها ان الراحل مليس زناوي قد منح في ايام حكمه (التقراي) تسوية مفادها اقتطاع اجزاء من اراضي الإقليم لصالح السودان؛ وهو ما لم يحدث اطلاقاً، ثم يذهبون في صراعهم كمكونات داخل اثيوبيا ان الحكومات المتعاقبة على أديس دائماً كانت تدخل في تسوية لملف أراضيهم والمسألة الحدودية مع حكومة السودان ضمن عملية الاخذ والعطاء في العلاقات الدولية وهذا ما لم يحدث أيضاً مطلقاً.
وبالتالي لإعادة قراءة هذه التطورات والعملية الأخيرة لابد من التأكيد ام هذا الفعل هو بمثابة رسالة ربما أودعتها الحكومة في بريد الإئتلاف الحاكم الذى يرأسها ابي أحمد، او برد فعل ضد الحكومة لعدم الاعتراف بالحدود؛ ولكن ضغط السودان كان أيضاً فيه احراج للحكومة ‘وليس أمامها خيار سوى المضى قدماً، وهذا الذي ظل يغضب الامهرا على الدوام، لذلك يلاحظ عقب كل مباحثات ضمن اجنتدتها الحدود تشهد العلاقة فتور وانكماش في الموقف بين الدولتين وإن لم يظهر للعلن.. و هنا يحسب للحكومات المتعاقبة في اثيوبيا انها ظلت تؤكد عبر الموقف الرسمي ان مناطق الفشقة هي اراضي سودانية وإن اختلف سلوك تعاطيها.
وحتى تكتمل قراءة الموقف المستجد مؤخراً لابد من الرجوع بالذاكرة لاسبوعين من تاريخ اليوم ، حيث قصد وفد سوداني برئاسة السفير عمر مانيس اديس ابابا ويحمل في جٌعْبته ملف ترسيم الحدود ودعاء اديس للدخول في مفاوضات بشأنها وتحديد زمنها والبدء في وضع العلامة، فالامهرا اذكياء ويعرفون وزنهم جيداً في التحالف الحاكم فلا يدخرون جهداً في اشهار هذا الكرت المرة والثانية باتجاه الحكومة الفدرالية، ويبدو ان ما نتج عن ذلك القاء ان ابي أحمد، اعطى تطمينات مهمة للوفد الزائر لم تروق للامهرا التي ستكون حدودهم قيد التسوية ، وبالتالي هم يدركون ما هي كروت المناورة والخيارات المناسبة لمعارضة مثل هذا الموقف لدى الحكومة الفدرالية، ويدرةون حجم رغبة الحكومة في استقرار وتماسك هذه المرحلة.
ثم هناك كرت ثاني مهم ايضا يمكن ان يستخدمه الامهرا وهو الاصطفاف الي جانب التقراي وتبني خطة اقامة الانتخابات على مستوى الاقليم، وبذلك يقطعون الطريق امام طموح ابي احمد الهادف لتجميع التحالف، وستكون ضربة كبيرة ستفقد التحالف الحاكم في اثيوبيا ورقة الامهرا المهمة الذين يشكلون المكون الثاني من حيث الامتداد الاجتماعي والاقتصادي وإلى الابد، وسيكون ابي أحمد وحيداً في الضفة الثانية وربما تعود الدولة لئتلافات جديدة مرة أخرى تكون هذه المرة بين التقراي والامهرا.
سودانياً:
كل الخيارات مفتوحة ولا أعتقد ستكون هناك مستجدات جديدة تتعلق بتغيير الموقف مع إثيوبيا في ملفات مثل سد النهضة، وسيستمر السودان في عملية ضبط النفس، لكن هناك حلين فقط لا ثالث لهما وتكمن في:
اولاً:
استعجال إثيوبيا لعملية ترسيم الحدود بكل ما أمكن.
ثانياً:
تعزيز التواجد عسكرياً على الأرض والتعامل بجدية أكثر مع هذه العصابة باعتبار انها مهدد للأمن والاستقرار وستكون بداية لانطلاق أحداث كبيرة؛ لا زالت هناك جهات تسعى في الجوار تحرض لاشعالها كما هو الحال في شرق السودان.
خاص “رياليست” الروسية، ابوبكر عبدالرحمن/ باحث في العلاقات الدولية.