تبدو الفترة التي اجتاح فيها فيروس “كورونا” مختلف بقاع العالم بأنها ستكون محطة مفصلية سترسم شكلاً مختلفاً لمكانة القوى الدولية الكبرى على العالم، بخاصة وأنها الفترة التي استطاعت تعرية الوضع المهلل على أصعدة مختلفة لحلفاء واشنطن الأوروبيين؛ إلى جانب ارتباك الأخيرة في مواجهة تفشي الوباء في دولهم وعدم القدرة حتى على تقديم الدعم لبعضهم في الحدود الدنيا، مقابل ثبات للقوة الاقتصادية الكبرى في بكين والتي ستترجمها لاحقاً في ميدان السياسة والدبلوماسية العالمية، فما قبل جائحة “كورونا”، حتماً لن يكون كما بعدها.
رغم تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي ألقى اللوم فيها على الصين في تفشي جائحة فيروس “كورونا”، وذلك بعد أن نعته سابقاً بـ “الفيروس الصيني”، فقد أجرى ترامب، يوم الجمعة الفائت، اتصالًا هاتفيًا، بنظيره الصيني شي جين بينغ.
وبحسب واشنطن فإن الزعيمين اتفقا على “العمل معاً” للقضاء على جائحة “كورونا” و “استعادة الصحة والرخاء العالميين”.
الاتفاق على “العمل معاً” بين واشنطن وبكين وفق البيانات الصحفية لا يمكن البناء عليه فيما يتعلق لمرحلة ما بعد كورونا”، فالولايات المتحدة أضحت في ضائقة من خطر تفشي الجائحة على نطاق واسع من البلاد، وهي التي تخطت الصين في عدد الإصابات والوفيات بسبب جائحة “كورونا”.
قبل كورونا… الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين
لقد عمل ترامب خلال فترته الرئاسية الأولى على تكريس دعاية مواجهة الصين اقتصاديا -في المقام الرئيسي- على اعتبار أنها مصدر رعب للولايات المتحدة، بينما تؤكد الصين على أنها وخلال الفترة الماضية أكثر من أي وقت مضى مكانتها كقوة كبرى وقطب بوجه الولايات المتحدة.
و قال ترامب حول ذلك إنه “لسنوات تم التغاضي عن هذه التجاوزات وتجاهلها، لا بل تشجيعها” مؤكدا أن “هذا الزمن ولّى”.
و على امتداد الأشهر الماضية وما يتصل بالإجراءات الاقتصادية العقابية التي وجّهتها واشنطن نحو بكين، فقد احتدمت المعركة التكنولوجية بين الجانبين، كانت الإشارة الفعلية لبدأها تلك الإجراءات القاسية التي تعرضت لها شركة “هواوي” الصينية، فيما كان الرئيس الأميركي، يكيل الاتهامات للصين منذ فترة طويلة بممارسات تجارية غير عادلة، ما يدللّ بشكل جليّ بأن واشنطن تسعى جدياً لعرقلة النهوض الاقتصادي للصين على المستوى العالمي.
مروراً إلى فترة ما قبل وصول “كورونا” إلى الولايات المتحدة، فقد استمرت إدارة الرئيس الأميركي قد في حملة موجهة ضد الصين على جميع الأصعدة، تُذكّر بأجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي القرن الماضي.
ما بعد كورونا مرحلة مختلفة…
توسعت مؤخراً دائرة الدول التي لجأت إلى حظر التجوال الجزئي؛ في محاولة منها لتطويق “كورونا”؛ في الوقت الذي سبقها أيضاً إجراءات موازية تمثلت بإغلاق الحدود ووقف الطيران في مشهد يمثل الانكفاء الكلي للدول عن محيطها العالمي بالتزامن مع انعدام حلول المواجهة المباشرة وفي مقدمة هذه الدول تبرز الولايات المتحدة الأميركية، ما قد يجعل الإجراءات “الوقائية” المتخذة تتخطى حدود الصحة والسلامة وتصل إلى حدود الأطر الجيوسياسية.
إن التغير الذي يطرأ على الأنظمة العالمية -تاريخياً- لم يسبق وأن حدث بشكل مفاجئ؛ بل كان نتاج تطورات تصاعدية إلى حين الانقلاب المفاجئ، كما هو الحال الآن بالنسبة للصين التي صدّرت نفسها كمنافس عالمي اقتصادياً وتمدد نفوذها حتى باتت أبرز المنافسين للولايات المتحدة، لتأتي الآن التجربة الصينية في مواجهة “كورونا” وتقديم الدعم نحو بلدان عدة من العالم؛ بالمقارنة مع الهزة التي أحدثها الفيروس بالنسبة لواشنطن العاجزة -إلى الآن-، ما يعود بنا إلى ارتكاسات الحرب العالمية الثانية على بريطانيا كمملكة عظمى مهيمنة في منتصف القرن الماضي، غير أن الهزة التي لم يكن متوقعاً أن تكون الانقلاب على النظام العالمي الذي كانت تقوده لندن؛ هو الانكسار الذي تعرضت له لندن بعد تدخلها الفاشل في قناة السويس منتصف الخمسينيات.
وما بين مشهد انكسار لندن -آنذاك- في السويس المصرية، وعجز واشنطن في الوقت الحالي وعدم قدرة إدارة ترامب على تقديم أي دور منوط بواشنطن في مواجهة جائحة “كورونا” كما كانت تقوم به الإدارات السابقة على اعتبار أن بلادها هي القائد العالمي، فإن لحظة الانقلاب على النظام العالمي الأميركي منذ 1992 باتت أقرب من وقت مضى، في ظل حراك صيني متوازن ومتسق مع اتساع نفوذها عبر المراحل الماضية، فإن بكين ستستفيد من الفراغ الذي تتركه إدارة ترامب، ما يمنحها الفرصة المواتية لأن تصدر نفسها كقوة عالمية رئيسية جابهت الجائحة، وعملت على تقديم المساعدات الطبية والمالية للدول، وحتى الإدارية لتنظيم شؤون حكومات أنهكها فيروس “كورونا” المستجد، والتي ستساهم بتشكيل مسار تحول للنظام العالمي ما بعد “كورونا”.
مالك الحافظ- باحث و محلل سياسي، خاص لوكالة أنباء “رياليست”