من جائحة بيولوجية تحت المجهر على مقياس نانوميتر إلى جائحة أمنية على قياس العالم، وجد فيروس “كوفيد-19” المعروف بإسم فيروس كورونا “التاجي” المتجدد، في كل دولة بيئة حاضنة له دون تمييز بين شرق وغرب، بين عالم شمال وعالم جنوب، دول متقدمة أو أخرى نامية؛ متخطيًا بذلك كل معايير التقسيم الجيوسياسية، ومتربعًا بعرش الأمن الصحي على سائر أطر الأمن الإستراتيجية. فلمّا كانت الدول قد اعتادت تركيز قدراتها الدفاعية ومقدّراتها المالية على التصدي للتهديدات الخارجية العسكرية التي تمسّ بأمن الدولة السيادي بالدرجة الأولى، كشف هذا الوباء أن التهديد الذي يطال المواطنين لا يقل أبدًا أهمية عن الذي يهدد سيادة الدولة؛ حيث أنّ الشعب هو المكوّن الرئيسي للدولة، وحماية الإنسان تعلو على السيادة ولا يعلى عليها.
أمام سرعة تفشّيه، أفشى فيروس كورونا المتجدد عن مكامن الضعف الخفية للدول، المستترة خلف رداء نظري من القوة ومن الحماية التي تكفلها الدولة لمواطنيها. فما بين رداءة السياسات العامة الصحية، إنعدام الجهوزية لمواجهة أي تهديد للأمن الصحي وغياب الإستراتيجية التعاونية بين الدول للتصدي لخطر إنتشار الوباء العالمي، يتخطى عدد الإصابات بفيروس كورونا المصرّح عنها رسميًا في 201 من دول العالم، بين الليلة وضحاها عتبة الـ 500 مليون نسمة، وقد تجاوز في مجموع ضحاياه العشرين ألف إنسانًا من الوفيات.
ولعلّ أخطر ما كشفه الوباء على مستوى الأداء السياسي للدول، سوء تقدير الحكومات للأزمة والإستهتار بخطورتها، وبالتالي سوء إدارتها والتقاعس عن فرض الحجر الفوري للسكان والإقفال العام لمرافق الدولة ومؤسساتها، وصولًا إلى الحذر من إعلان حالة الطوارئ والتردد أمام توصيف هكذا قضية صحية وطنية خطيرة بأنها تهديد لـ”الأمن القومي”. وفي حين يُردّ هذا السلوك السياسي إلى الإعتبارات السياسية والحقوقية المرتبطة بإعلان حالة الطوارئ والمترتبة عنها، وهي التي تفترض في المقام الأول إنتقال السلطة في الدولة إستثنائيا إلى المؤسسة العسكرية، وما يشتمل ذلك من الصلاحيات الواسعة للجيش في إدارة الأزمة ومعالجتها.
وحدها الصين التي تُتَّهم بتصدير الفيروس إلى باقي دول العالم، إستطاعت إحتواء الأزمة في مدينة ووهان. فقد سارعت الصين منذ الأيام الأولى من اكتشاف الوباء إلى عزل المنطقة بالقوة وفرض الإقفال التام، كما والحزم بتطبيق الحجر المنزلي الإلزامي على السكان كافة؛ مستعينة في ذلك بجهود القوى العسكرية الصينية. غير أن الصين لم تتوانى في الوقت عينه عن الإشارة إلى أنّ الفيروس سلاح بيولوجي أميركي أريدَ به ضرب إقتصاد الصين، وهو ما يضع هكذا “هجوم” في إطار الإرهاب الدولي؛ في حين أصرّ ترامب بمقابل ذلك على تسمية كوفيد-19 بـ “الفيروس الصيني” ردًا على تصريحات الصين، وبالتالي اعتباره تهديد خارجي للأمن القومي الأميركي كما للأمن العالمي. وسواء كان الوباء عملًا عسكريًا أو لم يكن، فإن الأزمة الحقيقية اليوم ليست تلك الأمنية الماسة بسيادة الدولة بل بالإنسان، كل إنسان، صينيًا كان أم أميركيًا دون أي اعتبار لجنسيته أو لإنتماءه ومعتقداته. ومتى ما كان هذا التهديد العالمي يتعلق بالأمن الصحي لكل المواطن في كل دولة، فإنه دون شك يتصدّر في الأمن القومي للدول ويستدعي استنفار المؤسسات العسكرية كما المدنية، وتعاونها على مسؤولية حماية الإنسان وأمنه؛ بل وأنّ عالمية هذا الوباء تستدعي تكاتف الجيوش لحفظ الحياة على الأرض.
هل يصبح الجيش الملاذ الأول في إدارة الأزمات؟
في المبدأ، لا يجوز للدولة إعتماد النهج العسكري إزاء كل قضية تجد فيها خطرًا على أمنها العام؛ حيث تتركّز المهمة الأساسية للجيش على دوره الإستراتيجي الدفاعي عن الوطن بوجه كل تهديد يمس الدولة على صعيد البيئة الدولية. وعليه، غالبًا ما تقتصر مهام المؤسسة العسكرية على ردع العدوان الخارجي، وانتشار الجيش على الحدود وفي مناطق معينة إستراتيجية، إن للقتال أو الإستعداد لخوض الحرب إذا ما اقتضت الظروف.
غير أننا نشهد اليوم أكثر من أي وقت مضى، فعالية دور المؤسسة العسكرية في القضايا غير العسكرية التي تمس بأمن المواطن، على الرغم من معارضة عدد من المنظمات الدولية المدنية أي توسع في دور الجيش في البيئات الإنسانية، وتأكيد الأمم المتحدة في المبادئ التوجيهية للعسكريين والمهنيين المعنيين بالمسائل المدنية العسكرية على عدم وجوب استخدام الأصول العسكرية إلا كملاذ أخير. بيد أنّه من المهم الإضاءة على دور الجيش في الاستجابة للطوارئ المحلية، ولزومه حتى في الأزمات غير العسكرية، مؤكدين على وجوب أن يتحدد هذا الدور بالعلاقة التي تربط المواطنين مع الجيش مع مراعاة الطبيعة السياسية للحكم داخل الدولة.
إشكالية إعلان حالة الطوارئ بين مؤيد ومعارض
إنّ المعارضين لإعلان الطوارئ في مواجهة أزمة وباء فيروس كورونا، يرجعون موقفهم هذا لعدّة أسباب، أوّلها الإحتجاج بأنّ الأزمة الراهنة غير عسكرية بطبيعتها مما يجعل من السلطات والوكالات المدنية أكثر ملاءمة لإدارة الأزمة؛ أما أبرزها فهو التخوف من تعسّف الجيش باستعمال القوة في ظل حالة الطوارئ ممّا يمس بحقوق المواطنين ويعرّض حرياتهم للخطر. بل ويخشى المعارضون أن تؤثر حالة الطوارئ على الطبيعة الديمقراطية للحكم، فتتحوّل السلطة بفعل الصلاحيات الواسعة للمؤسسة العسكرية إلى سلطة إستبدادية.
وتذهب بعض الأصوات المعارضة إلى الإحتجاج على الظروف القانونية والقضائية التي سوف تفرضها حالة الطوارئ، وفق إعتبارات تتعلق بوجوب إستمرار تطبيق قواعد القانون المدني والمقاضاة أمام المحاكم المدنية، إذ أنّ سريان الأوامر والقواعد العسكرية غير لازم في هذه الحالة غير العسكرية، وأنه بالتأكيد لا وجوب لإعطاء صلاحيات موسعة للمحكمة العسكرية كذلك الأمر. وقد اعتبر آخرون أنّ القدرات الصحية العسكرية محدودة أكثر ممّا يفترض الكثيرون، وأنّ القوات العسكرية العاملة ليست مؤهلة تمامًا للإستجابة للإحتياجات المحلية في ظل هذه الظروف المقيّدة للحريات؛ وأنّ المدنيين والعسكريين سواء أمام خطر الوباء، وعليهم بالتالي أيضًا مراعاة أهمية إلتزام الحجر الصحي والوقاية بعدم تعريض أنفسهم وعائلاتهم لمخاطر المرض.
في المقابل، يبرّر المؤيدون لإعلان حالة الطوارئ بمواجهة فيروس كورونا على ضرورة تولّي الجيش مسؤولية إدارة الأزمة الآنية وفرض الحزم والقوة إن اقتضت الظروف ذلك، لما في ذلك من درء لمخاطر أعظم تهدد الإنسان ليس في حياته وحسب بل حياة من حوله، أي يشكل تهديدًا للسلامة العامة في الدولة. وعليه، يرى المؤيدون أن الوضع الراهن بات يستدعي تسليم المؤسسة العسكرية مسؤولية حفظ الأمن وفرض حظر التجول والحجر الصحي المنزلي بالقوة الحازمة اللازمة، باعتبار أن الجيش هو الأكبر عديدًا والأكثر جهوزية لتدارك الأزمة. وردًا على تخوف المعارضين من استبداد الجيش وتعسفه باستعمال القوة، فإن المؤيدون يعبرون عن ثقتهم بالجيش الذي يضم أبناء الوطن تحت راية الولاء للوطن والدفاع عنه، والحرص على مصلحة الوطن وحده دون اعتبار لأي مصالح سياسية أو شخصية. بالإطار نفسه، فإن الثقة بحسن إدارة الجيش للأزمة، يعززها واقع أنّ القيادات العسكرية من أصحاب التخصص والكفاءة العالية في كافة المجالات.
تبقى الحقيقة أننا في الأزمات الأمنية غير العسكرية، كما في حالات الكوارث الطبيعية، تتعاظم حاجتنا إلى إستنفار كافة قوى الدولة وعديدها للتصدي للخطر الداهم حفظًا لأمن المواطن وحماية لأركان الدولة. من هنا، فإن الأجدى من محاولة إبقاء الجيش بعيدًا عن الاستجابة للأزمات المحلية التي تهدد الأمن القومي للدولة، هو إعادة التفكير في دور الجيش في المجتمع والثقة بقدراته على الإدارة الحسنة للأزمات وصناعة القرار. ويكون من الأجدر بنا في هذا السياق، السعي لتوطيد العلاقات المدنية العسكرية وإكتشاف آليات متجددة للتعاون مع الجيش ليتم استخدام أصوله بفعالية في الإستجابة للكوارث والأزمات، بما يتعدى إمداد الأفراد بالمستلزمات.لارا الذيب- باحثة قانونية إستراتيجية، خاص لوكالة أنباء “رياليست”