ضرب الطاعون الأسود “كورونا ” المعمورة بأسرها ،و تعدي الحدود و التخوم ،و لم تتشبث دولة قطبية أو “ماكرونوزية” بأهداب سيادتها حيال ذلك الخطر المداهم ، و لم تسلم منه حاملات الطائرات الأمريكية و الفرنسية ،ولم يميز الفيروس بين الأجناس و الأعراق و القوميات و الأقطار ، وبالرغم من تشبيهه بالوحش الكاسر المفترس ،من قبل مسؤولين أوربيين ،بيد أن قارات العالم ،و في الصدارة منها القارة العجوز – أوربا – أشاحت بوجهها ، وغضت نظرها، و ألقت بنظاراتها عن حقائق الوباء الكاسح ، و تجاهلته في جهل فاضح ، و إهمال كالح في الأيام الأوائل للهجمة الصاعقة للكارثة المداهمة .
يكاد يجمع الشراح و الخبراء و المتخصصين علي أن مفهوم النظام الدولي “الويستفالي” بدأت أماراته تتبدي بإقرار معاهدة “ويستفليا” التي أنهت الحروب الدينية 1618-1648 ، تلكم الحرب التي طحنت القارة الأوربية بقدها و قديديها ، و أسست نظاما جديدا للعلاقات الدولية يتأسس و يتمحور علي سيادة الدولية كمبدأ حاكم للعلاقات الدولية ، وأضحي ذلك المبدأ يتصدر ديباجات المواثيق ، و المعاهدات، و الاتفاقيات الدولية .
جلي أن المجتمع الدولي لا يقتصر علي أشخاص القانون الدولي ، و هما الدول ذات السيادة و المنظمات الدولية ، لكن يضم ذلك المجتمع في ثناياه الكيانات من غير الدول ، فضلا عن المنظمات و الهيئات الخاصة ، و الأفراد ، الذين أصبحوا من موضوعات القانون الدولي و المخاطبين بذلك القانون منذ انشاء عصبة الأمم المنظمة السلف للمنظمة الأممية الحالية.
لا مراء أن ميثاق منظمة الأمم المتحدة يعد معاهدة دولية ملزمة تؤطر للعلاقات الدولية القائم و القادمة إلي حين ، لكافة الدول أعضاء المنظمة ، لكن في أحايين وظروف معينة تهدد السلم و الأمن الدوليين تمتد أهلية وولاية ذلك الميثاق للدول التي لم تنضم بعد لهذه المعاهدة الدولية .
تصدرت ديباجة ميثاق منظمة الأمم المتحدة عبارات إنسانية صاغها قانونيون يحاكون في مهارتهم – دون تهويل – صائغي المجوهرات النفيسة، فقد استهلت ديباجة ميثاق الأمم المتحدة مثل هذه العبارات الآسرة و الأسرة في عين الوقت : ” نحن شعوب الأمم المتحدة و قد آلينا علي أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة ————” ، ” و أن نؤمن من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان و بكرامة الفرد و الأمم كبيرها و صغيرها ” ، ” و أن ندفع بالرقي الاجتماعي قدما و أن نرفع مستوي الحياة في جو من الحرية أفسح ” ، ” وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار ” ، “و أن تستخدم الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية و الاجتماعية للشعوب جميعها ” .
تكشف القصفة الضارية المتوحشة للفيروس الكاسح ، حقيقة العبارات الطوباوية المثالية السابق ذكرها ، و التي أجمعت علي قبولها الدول الخمسين المؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة في عام 1945، و الآن كافة الدول الأعضاء في المنظمة التي صارت مئة و تسع و ثلاثين دولة ، فصار التبر الذي صيغت به مواد الميثاق الأممي ترابا صدأً .
كشفت الجائحة المداهمة أن ميثاق الأمم المتحدة ليس فرقانا من لدن الديان ، و أفصحت قوائم الضحايا للنائبة – ” كورونا ” -المرعبة أن ما ذكرناه من سالف العبارات لا تعدو أن تكون عبارات رنانة و مصطلحات رطًانة ، وأن التعاون و التضامن الإنساني الدوليين بين شعوب الأمم المتحدة الذي ابتغاه الميثاق، لم يعد حقيقة واقعة بعد أن وقعت الواقعة ، فنار الجائحة استطار شرها فأحالت الأخضر إلي اليابس ، ولم تعد بيانات و تصريحات الدول و المنظمات قبل اجتياح الجائحة إلا أصوات زاعقة صارخة ، وذئاب غادرة في البرية .
فضحت الجائحة الشوفينية القومية الكريهة لعديد العدول و التنظيمات الدولية ، وأماطت اللثام بكل بيان و تبيان ،عن غلبة الذاتية النرجسية للدول و المنظمات ، علي ناموس السلوك الإنساني و الأخلاقي و القانوني أيضا ، ووصلنا للسمت بعد أن استبد الصمت و النكوص الأوربيين ، لأن تكفر أكبر الدول الأوربية المكلومة بالضحايا و المكروبة بالجائحة ، بمحيطها و تتنصل من جوارها ، و تتنكر لتأسيسها لأفعل اتحاد دولي بين كافة المنظمات الدولية القائمة قاطبة و هو الاتحاد الأوربي ، وهذه الحقيقة القانونية والواقعية ليست مجرد إشارة تاريخية عابرة ، لكنها مسلمة بدهية يجب اعتبارها و المرور عليها مرور الكرام .
لا جرم ان عبارات السب و القذف و القدح التي وجهها المسؤولون و الأفراد الإيطاليون علي حد السواء لم تتحاوز الحد ، حين وصموا النكوص الأوربي عن نجدتهم أنه “أخون من ذئب ” ، فقطار الاتحاد الأوربي الحالي بدأ الانطلاق من روما العاصمة الإيطالية التي عقد فيها اتفاقية روما عام 1957 المؤسسة ، و النواة الباعثة للتكتل الاقتصادي و السياسي الأوربي الحالي ، وهي الحقيقة التي كانت تزدهي بها إيطاليا ، وكانت تدونها في كافة الأدبيات و الأسفار الإيطالية ، وكان الإيطاليون يستسيغونها في الأيام الخوالي ، وكأنها أحلي من العسل منذ نيف وستة عقود ، لكنها الآن وبفعل “كورونا ” صارت أمر من علقم الصبار .
نضرب المثال الإيطالي لأنه يذكي ما أطرحه حول العورات التي تعتري النظام العام العالمي ، الذي صارت مبادئه القانونية و قواعده الراسخة و أخلاقه المثالية ” رواية دينكوشوتية ” ، فالنفعية الميكا فيلية ردتها أوربا لإيطاليا عند انبجاس الجائحة ، وخلعت أوربا عنها عباءة الحضارة ،و تجردت من قيم التضامن، و كشرت عن وجهها القبيح ، وتبنت قانون البحر و شريعة الغاب ، وتنكرت للدولة التي أرست قاعدة الأساس للاتحاد الأوربي الحالي ، ولم تمد دولة واحدة أوربية أي أيادي وحتي ” رمادية”، قبل أن تمد لها الدول اللاتينية ” كوبا” ،و العربية “مصر وتونس “، و الأسيوية ” الصين الشعبية ” أياديها البيضاء بالغوث و العون و النجدة .
لا مرية أن الأوربيين يدركون الحقائق و الوقائع المختلفة التي جعلت الإيطاليين يستبد بهم اليأس من الخذلان الأوربي لهم ، فإيطاليا الأن الدولة التي تقود دول الإتحاد الأوروبي في العملية ” إيريني ” لتطبيق الحظر الذي فرضه مجاس الأمن علي توريد السلاح إلي ليبيا ، وإيطاليا أيضا هي التي قادت عشرة دول أوربية في عام 1999 في عملية متعددة الجنسيات لحفظ السلم الأمن في ” ألبانيا ” ، و إيطاليا أيضا هي الدولة التي تستضيف قواعدها الجوية طائرات حلف الناتو ، ولكن تظل الحقيقة الدامغة الصادمة التي خلفتها و خلقتها الجائحة “كورونا ” ، فاكتساح الجائحة الأسرع من البرق و الطرف و السهم ، و علي مدار تسعين يوما حصدت من أرواح الإيطاليين أكثر مما تكبدت إيطاليا في كافة حروبها الدولية الخاسرة في أوربا، و إفريقيا، و الشرق الأوسط في تسعة أعوام 1936-1945 ، ومن ثم يعدو غض الطرف عن هذه الحقائق نطق بالهوي .
ما برحت القارة الشمطاء أن تكشف عن قبح سوءاتها ، ولن تفلح في أن تداري ما كشفته الجائحة ، فتجلت أفظع عبارات الشوفينية حين أعلن الرئيس الفرنسي “ماكرون ” مؤخرا ، أن دول الاتحاد الاوربي قررت دخول مواطني الدول غير الأعضاء بالاتحاد الأوربي إلي منطقة “شينجن ” ، وهذه القرارات التمييزية المناهضة بل الخارقة لعالمية حقوق الإنسان لا يعوزها منا ثمة تدليل .
صفوة القول ، لقد فضحت الجائحة “كورونا ” مكامن النظام العام العالمي جهارا نهارا ، وكشفت المداهمة “كورونا ” عن مدي الاهتزاز و الاضطراب و الافتقار للانسجام الذي يعتري الجماعة الدولية ، وبالنظر لكثير العورات وعديد المثالب التي خرقت كل القيم، و تخطت كل منطق ، و حلت بكل المناطق ، صار لزاما علي المجتمع الدولي أن يحيل المثاليات الطوباوية إلي مبادئ قانونية ملزمة لكافة عناصر الجماعة الدولية ، ويجب أيضا و بعد أن تضع الجائحة أوزارها أن تعيد الدول و المنظمات الدولية صياغة نظاما عالميا جديدا يكون عمود الرحي الذي يدور حوله ذلك النظام “التضامن الإنساني الحقيقي” ، وأن تعلو في ذلك النظام حفظ الجنس البشري علي إرادات الدول .
ختامًا ، يجب أن يصنع القانون الدولي دوما من قبل الأخيار و لا يجوز بحال من الأحوال أن يصير منحة من الأشرار .
البروفيسور أيمن سلامة ” أستاذ القانون الدولي العام – مصر