دمشق – (رياليست عربي): لم يكن الخطاب التركي تُجاه دمشق مُتسماً بحالة من الغزل السياسي الدافئ فحسب، بل تعدا ذاك الخطاب جُل عناوين الملف السوري وإشكالياته المُعقدة، حتى ظن البعض بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستجدي لقاء الرئيس السوري بشار الأسد، بغية تطبيع العلاقات بينهما، لكن في المقابل فقد كان خطاب دمشق مُحدداً وفق مطالب تتعلق بتوضيح التواجد التركي في الجغرافية السورية، وضرورة الاتفاق على وضع جدول زمني ينص صراحةً على انسحاب تلك القوات، وبين هذا وذاك فإن المصالحة بين سورية وتركيا ليست مستحيلة بالمعنى السياسي، وإنما فقط يجب وضعها في إطارها وحجمها الطبيعيين. بمعنى أنه لن ينفع الإفراط في التفاؤل، ولا المبالغة في التشاؤم.
في وقت سابق، فإن أردوغان حين طرق أبواب دمشق “مُغازلاً” لم يكن مُجبراً أو صاغراً، بل ثمة لحظة إقليمية يجب استثمارها جيداً، ولا أحد يُنكر قدرة الرجل على استثمار المتغيرات واللعب ضمن مسارات متعددة، وبناءً على ذلك فقد تمت هندسة الخطاب التركي وفق مصطلحات سياسية مُفعمة بالدفء واللين، في حين بقي الخطاب السوري في مرحلة الجمود السياسي المؤطر برفض مبادرات أردوغان حيناً والتماهي معها حيناً أخر، وما بين الضغوط الروسية على دمشق والضغوط المضادة التي مارستها طهران، فقد بقي مسار إعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة يرواح في مكانه دون إحراز أي تقدم يُفضي إلى واقع جغرافي بعناوين سياسية في الشمال السوري.
ضمن ذلك فإن حرارة المواقف التركية وبرود المواقف السورية، أسفر عن حالة من اللا استقرار حيال جغرافية الشمال السوري، ومن الطبيعي أن تنتقل سخونة المواقف التركية إلى مرحلة الاشتعال في التصريحات وربما ثمة تحولات طارئة تفرض تعاطياً تركياً جديداً مع دمشق، وتُجسد مفصلاً هاماً في أجندة أنقرة الجديدة حيال الأسد. تلك المواقف والتحولات ترجمها هاكان فيدان وزير الخارجية التركي، حين قال “بشار الأسد لا يريد السلام في سوريا، ولا يمكن مناقشة انسحاب القوات المسلحة التركية من سوريا إلا بإقرار دستور جديد وإجراء انتخابات حرة”.
بذات السياق فإن تركيا لديها تصورات بأن رفض دمشق المبادرة التركية وامتناعها عن التفاعل مع مضامين الخطاب التركي الدافئ، يعود بالدرجة الأولى إلى رفض حلفاء دمشق عودة العلاقات مع تركيا لاعتبارات سياسية وربما اقتصادية، إذ تدرك تركيا بأن إيران وروسيا لهنا تأثيراً مباشراً على قرار دمشق، وربما إجبارها على سلوك مسار التطبيع مع أنقرة. هذا الأمر أيضاً ترجمه هاكان فيدان بقوله ” إن الأسد وشركاؤه ليسوا مستعدين للتوصل إلى اتفاق مع المعارضة وحل المشاكل المطروحة”، مُبدياً بذات التوقيت رغبة تركيا في رؤية دمشق ومعارضيها يتوصلان إلى إطار سياسي يمكن الاتفاق عليه يضمن بيئة آمنة ومستقرة للشعب السوري.
يبدو واضحاً بأن خطاب الخارجية التركية يحمل رسائل واضحة. هي رسائل نارية تتجلى في إتهام دمشق بأنها لا تريد السلام وترفض أي مبادرة سياسية قد تؤدي إلى إنهاء مأساة السوريين، وهذا ما يعني ضمناً بأن تركيا قد وصلت إلى قناعة تامة بأنه لا يمكن التعويل على انتظار استجابة دمشق للمبادرات التركية، ولا يمكن لـ دمشق بذات الإطار التغريد خارج السرب الروسي والإيراني، من هنا فإن تصريحات هاكان فيدان كانت واضحة في المعنى والمضمون. نتيجة لذلك فإن ما يمكن استخلاصه من المواقف التركية الجديدة تتلخص في انتفاء أي إمكانية لـ انسحاب تركي من الأراضي السورية دون إيجاد دستور جديد للبلاد، ثم الذهاب إلى انتخابات حرة بإشراف أممي.
ضمن التحولات الطارئة التي انطوت على مضامين الخطاب التركي، يمكن ملاحظة معطيات ثلاث. الأول أن أنقرة تُصر على تطبيق القرار الأممي 2254، وهذا ما ينسف جوهر اجتماعات أستانا التي باتت دون مضمون، والثاني فإن تركيا لا تزال تدعم المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري ولا تراجع عن ذلك إلا عبر خارطة طريق تجمع دمشق ومعارضيها بغية التوصل إلى معادلة سياسية على قاعدة رابح – رابح، والثالث فإن أنقرة لم ولن تُخفي تلويحها المباشر بورقة الضغط العسكري تُجاه دمشق التي تتمثل بـ الفصائل العسكرية الموجودة في الشمال السوري والتي يُطلق عليها “الجيش الوطني”.
ربطاً بما سبق فإن الخطاب التركي وما تضمنه من معطيات، آثار حفيظة روسيا، خاصة أن الأخيرة ترى أنها صاحبة الأحقية في الجغرافيا السورية، وقد أبدت روسيا صراحةً معارضتها لأي عملية عسكرية تركية أو أي تمدد عسكري يُفضي إلى اتساع نفوذ تركيا في جغرافية الشمال، ولعل ترجمة التوجهات الروسية بدت واضحةً في تصريحات المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرينتييف، الذي وصف التواجد التركي في سوريا على أنه “قوات احتلال”، مؤكّداً رفض روسيا لأي عملية عسكرية تركية تستهدف قوات قسد، ومُستبعداً في الوقت ذاته أي تقارب بين أنقرة ودمشق بدون انسحاب تركي من الأراضي السورية.
تصعيد المواقف السياسية بين شركاء أستانا، توازياً مع رفض دمشق لـ حالة الدفء في التصريحات التركية، انعكست تداعياته الفعلية على جغرافية الشمال السوري، ليكون التصعيد العسكري في ريف حلب الغربي وما أسمته الفصائل العسكرية في تلك المنطقة بـ معركة “ردع العدوان”، تجسيداً لـ استبعاد أي مساعٍ لـ تقارب سوري تركي، وعلى قاعدة ما يُنجز في الميدان يُترجم في السياسة، فإن ما يحدث في الشمال السوري ضمن معركة ردع العدوان، قد يكون بوابة لـ إجبار دمشق وشركاؤها على الانصياع والسير في المبادرة التركية، وتهيئة الأرضية في وقت لاحق لـ لم شمل دمشق ومعارضيها بغية التوصل إلى اتفاق سياسي وفق القرار الأممي 2254.
ختاماً فإن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان حين قال صراحةً بأنه “ليس من أولويات روسيا المصالحة بين دمشق وأنقرة”، فإن ذلك إشارة واضحة إلى دور موسكو وطهران في منع دمشق من التوجه إلى أنقرة والعمل لـ تذليل الإشكاليات العالقة بين البلدين، وضمن ذلك فإن التلميحات التركية إلى أن مسار أستانا الذي تأسس برعاية روسية تركية إيرانية، لن يُتاح له الاستمرار أو تحقيق الاستقرار السياسي في سورية، خاصة إذا تجاهل الروس والإيرانيون مصالح تركيا، وضمن ذلك فإن جوهر التحولات الطارئة في التصريحات التركية تُلمح مباشرة إلى مضامين القرار الأممي 2254 المُتعلق بـ الحل السياسي في سورية.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا كاتب وباحث سياسي – سوريا.