بغداد – (رياليست عربي): منذ فجر التاريخ لم تكن الثقافات يومًا كيانات معزولة بل كانت نهرًا متدفقًا من الأفكار والفنون والتقاليد يتقاطع مع حضارات متعددة ويمنحها زخمًا جديدًا فالإغريق تأثروا بالمصريين والعرب ترجموا علوم اليونان والأوروبيون اقتبسوا من الفن الإسلامي وفي عصر العولمة الرقمية لم يعد التبادل الثقافي ترفًا أو خيارًا بل أصبح واقعًا يوميًا يطرق الأبواب عبر الشاشات والموسيقى والأزياء وحتى الطعام وهنا يبرز سؤال محوري هل يمثل هذا التبادل فرصة لإثراء الهوية الوطنية أم تهديدًا لتماسكها
التبادل الثقافي يمنح الهوية قدرة على التجدد والمرونة إذ يشبه شجرة جذورها راسخة في التربة الوطنية لكن أغصانها تتمايل مع رياح العالم لا تموت بل تنمو ويكفي أن نذكر أثر الفن الإسلامي على العمارة القوطية في أوروبا أو تأثير السينما الهندية على وجدان شعوب الشرق الأوسط لنرى كيف يمكن للثقافات أن تلهم بعضها بعضًا دون أن تفقد جوهرها وفي العصر الحديث نجد الكيبوب الكوري مثالًا معبرًا عن ثقافة استطاعت أن تدمج بين الموسيقى الغربية والهوية الكورية لتخلق موجة عالمية دون أن تفقد خصوصيتها والتنوع الثقافي الذي ينتج عن هذا التفاعل ليس مصدر تهديد بل قوة حقيقية فالموشحات الأندلسية التي جمعت بين العربية والفارسية والإسبانية ليست سوى شاهد واحد على ولادة فنون جديدة من رحم التلاقي الحضاري
التفاعل الثقافي أيضًا يضيف بعدًا إنسانيًا للهوية فحين تستوعب الأمة الثقافات الوافدة دون أن تذوب فيها فإنها تكتسب أفقًا أوسع كما حدث في العصر العباسي حين نُقلت علوم الإغريق والفرس إلى العربية وأعيد إنتاجها بروح إبداعية محلية لكن هذا الانفتاح ليس بلا ثمن فالعولمة الرقمية المعاصرة تروّج لنمط حياة استهلاكي وفرداني خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مما يؤدي إلى تشكل أنماط سلوكية وقيمية بعيدة عن الثقافة الأصلية فتظهر لدى الشباب لغة هجينة واهتمامات لا ترتبط بجذورهم الاجتماعية أو الرمزية
وفي هذا المناخ تصبح الهوية مهددة بالتحول إلى مجرد بضاعة تُستهلك ويتفاقم الخطر حين تُقدَّم الثقافات غير الغربية في الإعلام بصورة كاريكاتورية أو استشراقية فتُختزل الشعوب في أنماط سطحية مما يُفقدها عمقها التاريخي ويُضعف انتماء الأفراد لتراثهم وهويتهم وتظهر آثار ذلك بشكل صارخ في الجاليات المهاجرة حيث يعاني الأبناء من أزمة انتماء مزدوج لا إلى ثقافتهم الأصلية ولا إلى مجتمعهم الجديد فينمو لديهم شعور بالاغتراب الثقافي وفجوة حادة مع جيل الآباء
ورغم هذه التحديات إلا أن الحل لا يكمن في الانغلاق بل في الموازنة بين الانفتاح والحفاظ على الهوية ويتم ذلك من خلال تعزيز الوعي بالتراث منذ الطفولة فليس المقصود أن ندرّس التاريخ كوقائع بل أن نجعل التراث جزءًا من التجربة الحية عبر الفنون والموسيقى والموروث الشعبي وربط الطفل ببيئته الرمزية كما أن دعم الإنتاج الثقافي المحلي يشكل بديلًا عمليًا عن التبعية الثقافية فالسينما المستقلة والموسيقى المعاصرة والحرف اليدوية يمكن أن تقدم محتوى يعبر عن الذات ويواكب العصر في الوقت نفسه
ولا بد من سياسات ثقافية ذكية تنظم الانفتاح بدل أن تتركه عشوائيًا فتقوم المتاحف والمراكز الثقافية ومؤسسات الترجمة بدور الجسر لا الحاجز لضمان توازن صحي بين التلاقح وحماية الخصوصية وفي هذا السياق يظهر الإعلام كأداة محورية إذ يجب أن يعكس التنوع الداخلي للثقافة بدلًا من أن يكون مجرد صدى لمنتجات خارجية فيُبرز اللهجات والموروث الشعبي ويُعيد الاعتبار للتفاصيل الصغيرة التي تصنع هوية الجماعة
إن الهوية الوطنية ليست تمثالًا جامدًا نحتفظ به في المتاحف بل كائن حي يتنفس ويتجدد ويتفاعل مع العالم دون أن يفقد جوهره والتحدي الحقيقي ليس في محاربة التبادل الثقافي بل في توجيهه نحو خدمة الذات الثقافية وتعزيز الثقة بها فحين تمتلك الأمة وعيًا حقيقيًا بثراء تراثها وتاريخها تصبح قادرة على استيعاب الآخر دون خوف وتستقبل الثقافات الوافدة كما يستقبل البحر الأنهار دون أن تفقد ملوحته
خاص وكالة رياليست – عبدالله الصالح – كاتب، باحث ومحلل سياسي – خبير في العلاقات الثقافية الدولية – العراق.