القاهرة – (رياليست عربي): لماذا لم يسقط النظام الإيراني على الرغم من الاحتجاجات المتعاقبة في البلاد منذ سنوات عديدة خاصة خلال الأعوام الخمسة الفائتة؟، لماذا لا يزال النظام الإيراني قائمًا صامدًا لا يهتز قيد أُنمُلة أمام كل ما يحدث، بل نراه يخرج أقوى من ذي قبل عقب كل أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية يمر بها؟
تجتاج اليوم المحافظات الإيرانية ومدنها احتجاجات عارمة تندد بمقتل الفتاة الإيرانية كُردية الأصل “مَهسا أميني” البالغة من العمر 22 سنة في 16 سبتمبر الماضي، وذلك عقب اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق المعروفة باسم “گشت ارشاد: دورية التوجيه” بتهمة ارتداء الحجاب بطريقة “غير مثالية”، وتعرضها لضرب مبرح على أيدي رجال الشرطة أدى إلى أصابتها بسكتة دماغية أودت بحياتها. وقد حظيت هذه الاحتجاجات بدعم عدد كبير من السياسيين والمثقفين والفنانين داخل إيران وخارجها إلى جانب الدعم الشعبي، وبلغ صداها أغلب بُلدان العالم، ووصلت إلى مواجهة مباشرة بين الإيرانيين القيمين في الولايات المتحدة والرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي”، حيث رفع المتظاهرون شعارات منددة بنظام الجمهورية الإسلامية في وجه رئيسي أثناء مشاركته في اجتماعات الدورة الـ 77 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة بنيويورك.
هذه الاحتجاجات ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، فهي إحدى موجات الاعتراض المتتابعة على نظام الجمهورية الإسلامية ستعبر مثلما عبر غيرها سواء طال مداها أو قصر.
إن أقوى مظاهرات شهدتها إيران خلال العقدين الأخيرين من جهة نظري هي مظاهرات يونيو 2009 المعروفة باسم “جُنبِش سبز: الحركة الخضراء” لمجموعة من أسباب.. أولها: إن هذه المظاهرات ذات خلفية سياسية خالصة، ولا تحمل في طياتها أية أبعاد اقتصادية أو اجتماعية أو عقائدية، فقد اندلعت عقب الإعلان عن فوز مرشح التيار الأصولي “محمود أحمدي نِجَاد (نژاد)” بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية العاشرة للجمهورية الإسلامية، حيث صرح وقتها منافسه الإصلاحي “مير حسين موسوي” أن نتيجة الانتخابات قد زُوّرت لصالح نجاد. ثانيًا: تزعم هذه المظاهرات رموز سياسية بارزة في التيار الإصلاحي، ولها شعبية كبيرة في المجتمع الإيراني أمثال رئيس الوزراء الأسبق “مير حسين موسوي”، ورئيس مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان الإيراني) الأسبق “مهدي كرّوبي”، والرئيس الأسبق “محمد خاتمي”. ثالثًا: بلغ عدد المشاركين في هذه المظاهرات ما يقرب من 5 مليون شخص ما بين سياسيين ومثقفين وفنانين وصحفيين وطلاب وفئات مختلفة من الشعب الإيراني. رابعًا: استمرت هذه المظاهرات ما يقرب من عامين متواصلين، مخلفةً ورائها عدد كبير من القتلى والجرحى والمعتقلين السياسيين على أيدي شرطة مكافحة الشغب والحرس الثوري لا تزال الإحصائيات الخاصة بأعدادهم الحقيقية محظورة حتى الآن. وقد سُميت هذه المظاهرات باسم “الحركة الخضراء” أو “الحراك الأخضر” لأنها اتخذت من اللون الأخضر شعارًا لها، وهو شعار مير حسين موسوي خلال حملته الانتخابية.
ثاني هذه المظاهرات من حيث القوة والحجم هي مظاهرات ارتفاع أسعار البنزين ثلاث أضعاف قيمته الأصلية في نوفمبر 2019، وقد استمرت لمدة عام كامل، وشهدت تجمعات حاشدة في أغلب المحافظات الإيرانية ومدنها، وتخللها الهجوم على عدد كبير من المؤسسات الحكومية وفروع البنوك الوطنية والمكاتب التابعة للمراجع الشيعية ومحطات التزود بالوقود، ورفع المتظاهرون شعارات منددة بنظام الجمهورية الإسلامية، والزعيم الإيراني “علي خامنئي”، ورئيس الجمهورية آنذاك “حسن روحاني”. وقد تصور الكثيرون وقتها أن النظام الإيراني على حافة الهوية ويوشك على السقوط، لكن هذه المظاهرات أُخمدت بين ليلة وضُحاها باستخدام العنف والرصاص الحي، وقد صاحب ذلك قطع الإنترنت ووسائل الاتصال عن جميع أنحاء البلاد، واعتقال ما يزيد عن 8600 شخص، ومقتل ما يتراوح بين 5000 إلى 7500 شخص وفقًا لعدد كبير من تقارير منظمات المجتمع المدني داخل إيران وخارجها.
والآن يتكرر الأمر مرة أخرى احتجاجًا على مقتل الفتاة مهسا أميني ظلمًا في مشهد يشبه إلى حد كبير مقتل ركاب الطائرة الأوكرانية “بوينج 737” البالغ عددهم 176 في 8 يناير 2020، بعد استهدافهم بصاروخ أُطلق من منظومة الدفاع الجوي التابعة للحرس الثوري الإيراني خطئًا. وكان هذا الحادث قد وقع أثناء هجمات إيران الانتقامية على قواعد القوات الأمريكية في العراق، بعد 5 أيام من مقتل اللواء “قاسم سُليماني” قائد “فيلق القدس” بالحرس الثوري في غارة جوية أمريكية بطائرة بدون طيار على مطار بغداد الدولي. وقد أعقب حادث إسقاط الطائرة الأوكرانية على أيدي الحرس الثوري احتجاجات داخلية وخارجية وتنديدات عالمية، لكنها انتهت مثلما بدأت.
إذن الاحتجاجات التي تقوم في إيران سواء كانت قصيرة أو طويلة المدى، وسواء كانت سلمية أو عنيفة، وسواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، لماذا تنتهي دائمًا دون نتيجة؟، لماذا يظل النظام أمام جحافل الشعب الثائر صامدًا؟، لماذا لا يحدث تدخل أجنبي سافرًا لدعم هذه الاحتجاجات مثلما حدث ويحدث مع بعض البلدان في المنطقة؟، للإجابة عن هذه التساؤلات دعونا نستقرأ السطور التالية.
أولاً: تجذر العقيدة الدينية “الشيعية” في الفكر الإيراني، فمن الخطأ أن نربط اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 بالحافز الديني فحسب، أو نعلل قيامها لأسباب دينية بحتة، نعم إن الثورة الإيرانية قد حمى وطيسها تحت عباءة “الخميني” الدينية، وتبلورت أفكارها في إطار نظرية “ولاية الفقيه”، لكن الخميني لم يأت بجديد في هذا الصدد، فقد أحيا أو بالأحرى أيقظ الوازع الديني في وجدان الشعب الإيراني من خلال الحديث عن ضرورة إقامة “حكومة إسلامية” يتولى فيها الفقيه ما كان يتولاه النبي محمد (ص)، وبذلك منح الخميني لنفسه ومَن يأتون بعده ما كان للنبي محمد من سلطات وصلاحيات، معارضًا بذلك آراء بعض الفقهاء الخاصة بتعليق الحياة السياسية للشيعة حتى ظهور الإمام الغائب “محمد بن الحسن المهدي” أخر أئمة الشيعة الاثني عشر، فكانت الكلمة الفصل في الثورة الإيرانية: هل تظل أمور الشيعة معطلة طوال غيبة الإمام المهدي أم يتولاها فقيه عالم لحين ظهوره؟
على هذا النحو ضرب الخميني بقوة على وتر ذي قداسة في نفوس جميع الشيعة “الإمام المهدي”، وهو وتر طالما داعبه الفقهاء الشيعة على مدار التاريخ الإيراني، فالخميني لم يكن الأول ولن يكون الأخير في هذا الميدان، فإذا عدنا إلى سنوات ما قبل الثورة الإيرانية، سيتضح لنا هذا الأمر جليًا كشمس في كبد السماء. ففي العصر القاجاري عندما منح “ناصر الدين شاه” عام 1890 حق امتياز بيع التنباك (التبغ) وشرائه إلى شركة بريطانية بشروط مجحفة أثارت غضب الشعب، قام المرجع الشيعي الأعلى في النجف “ميرزا محمد حسن الشيرازي” بإصدار فتواه الشهيرة “تحريم التنباك”، وقال نصًا: “إن استعمال التنباك والتُتُن بأي نحو كان بمثابة محاربة إمام الزمان (المهدي)”، فقام الإيرانيون رجالًا ونساءً بتحطيم غلايينهم وأراجيلهم وحرقها، وإتلاف ما في بيوتهم من تبغ، كما أقدم عل هذه الفعلة رجال البلاط الملكي ونساؤه وخدمه، وأُغلقت مَحالّ بيع التبغ في جميع أنحاء البلاد، وكان في ذلك الوقت ما يقرب من 20% من الإيرانيين يعملون في مجال صناعة التبغ، فاضطر الشاه أمام هذا الضغط الشعبي الكبير إلى إلغاء الامتياز. وتعرف هذه الواقعة باسم “نهضت تنباكو” أو “ثورة التنباك”، وتعد علامة فارقة في التاريخ الإيراني تشير إلى نفوذ رجل الدين في المجتمع، وهو نفوذ تغلغل في كيان الشعب الإيراني تدريجيًا إلى أن تربع على قمة الهرم الثوري عام 1979.
وإذا قمنا بقفزة إلى العصر التالي أي العصر البهلوي وتحديدًا عصر “محمد رضا شاه بهلوي”، سنجد فتوى أخرى أصدرها المرجع الشيعي “أبو القاسم الكاشاني” تضامنًا مع مطالبة زعيم الجبهة الوطنية “د/ محمد مصدق” بتأميم صناعة النفط الإيراني، حيث قال: “إن كل مَن يعارض تأميم النفط عدو للإسلام”. وكانت هذه الفتوى أحد العوامل المؤثرة في انضمام التيار الديني بزعامة الكاشاني إلى صفوف التيار الليبرالي بزعامة مصدق، والمشاركة في مظاهرات حاشدة أسفرت عن تعيين مصدق رئيسًا للوزراء وتصديق الشاه على قرار تأميم النفط عام 1951.
على هذا النحو يتضح لنا الدور المؤثر لرجل الدين في الحراك السياسي الإيراني، وهو دور قد يتقهقر تارة أو يتقدم تارة أخرى، لكنه يظل كامنًا في موضعه إلى أن تسنح الفرصة كي يتصدر المشهد، فعلى الرغم مما يلقاه الإيرانيون على يد النظام الحالي من ظلم وجور وتقييد للحريات العامة والخاصة، وكذلك ما يعانونه من أزمات اقتصادية بسبب ممارسات هذا النظام وتطلعاته الخارجية، سنجد بعضهم لا يزال يؤمن بمبادئ الثورة الإيرانية الأصيلة، ويرى أن المشكلة لا تكمن في النظام الإيراني “الإسلامي”، ولكن في سياساته المغرضة القائمة على تصدير الثورة، ومد النفوذ، والعداء مع الغرب، وإنفاق مليارات الدولارات على الميليشيات الشيعية الموالية للنظام الإيراني في المنطقة؛ وهي قضايا جدلية ودائمة الطرح من قبل الساسة الإيرانيين أنفسهم وأعضاء الحكومات المتعاقبة في الدولة.
ثانياً: السطوة الدينية للنظام الإيراني، فالنظام الإيراني لا يستمد قوته من قبضته الحديدية الممسكة بتلابيب الشعب فحسب، بل هناك قبضة أخرى أكثر قوةً وأعمق تأثيرًا؛ ألا وهي “القبضة الدينية” المتمثلة في منصب المرشد الأعلى الذي يتقلده “علي خامنئي”. فمنصب المرشد الأعلى هو أرفع منصب في الدولة الإيرانية، وتحيط به هالة “مقدسة” باعتباره نائب الإمام المهدي، وله من السلطات ما كان للنبي محمد وفقًا لنظرية “ولاية الفقيه”، وبالتالي لا يحق لأحد معارضته أو المساس به أو التطاول عليه، وإلا سيوصم بـ “الكافر” لأنه خرج على شخص منح نفسه قداسة الأئمة والأنبياء، وتلك آفة “الحكومة الثيوقراطية” على مدار التاريخ، فمَن يخرج على الحاكم كمَن يخرج على الدين.
ثالثاً: إن أركان النظام الإيراني شخوصًا وأجهزةً قد تختلف أو تتفق حول إستراتيجيات داخلية أو خارجية، لكنها لا تحيد عن هدف واحد تضعه دائمًا نصب عيونها، ألا وهو حماية الثورة ونظام الجمهورية الإسلامية، فالرئيس، والوزراء، ومؤسسات الدولة المختلفة، والأجهزة الأمنية رفيعة المستوى يتصدرها “الحرس الثوري” يعملون جميعًا من أجل حماية النظام المتمخض عن الثورة الإيرانية بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة، وبالتالي ليس هناك طرف يسعى إلى الانفراد بالسلطة لنفسه، أو لديه توجه آخر للحكم غير التوجه القائم، فالجميع يدور في فلك واحد يسوقه منفردًا “على خامنئي” باعتباره المرشد الأعلى للثورة وصاحب السلطة الدينية والدنيوية المطلقة في البلاد.
رابعاً: إن بقاء النظام الإيراني أمر مهم ليس له فحسب، بل للغرب أيضًا خاصة الولايات المتحدة، فدائمًا ما أطلقُ على العلاقة بين إيران وأمريكا “صداقة لدودة”، فكلاهما يدرك جيدًا أن الصراع المحتدم بينهما أمر ضروري وذو نفع لهما على الصعيد السياسي، فالولايات المتحدة تستخدم إيران فزاعةً تخيف بها دول الجوار الإيراني من تنامي النفوذ الشيعي، وبالتالي تستقطب تحالفات إقليمية في حربها المزعومة ضد إيران وبرنامجها النووي، وتضمن عن طريق هذه التحالفات تلبية مطالبها وتحقيق أهدافها في المنطقة بشكل غير مباشر. أما إيران فتستغل هذا الأمر أيضًا لصالحها، حيث تسعى إلى اكتساب ثقل سياسي دولي عن طريق التحالف مع قوى المعسكر الشرقي المعادية للسياسات الأمريكية في المنطقة كروسيا والصين وكوريا الشمالية، هذا بالإضافة إلى دعم الحكومات الصديقة والميليشيات الشيعية الموالية لها حتى يترسخ الوجود الإيراني أمام الوجود الأمريكي في صراع يشبه صراع القط والفأر.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه فى الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر.