عندما نتحدث عن الأمن فهناك أنواع كثيرة منه، الأمن الروحي أو النفسي يأتي على رأس الأولويات على اعتبار أن المنظمات الإرهابية بشتى طوائفها تشترك في منهج واحد، كونها كلها تتغذى على الأفكار السالبة للإطمئنان النفسي والمدمرة للعقل البشري، تنقل إليه إيديولوجية الحقد، العنف، الرغبة في الإنتقام والكراهية تجاه غير المسلمين. وفي سياق الحديث عن الكراهية، فنحن نكره لأننا جاهلون، نمارس (الكراهية بالتبعية) بل ونورثها فيما بيننا. لا توجد بالإنسان جينات مسؤولة عن العنصرية أو الكراهية الدينية، على الأصح، الإنسان لا يولد مشحوناً بالكراهية تجاه الناس أو المجتمعات بما يتناسب مع دياناتهم أو معتقداتهم، إنه شيء نتعلمه مع الوقت ويزرع في القلب ضد الآخرين.
مدارس الفكر المتطرف تخرج لنا الإرهاب
إن تزايد طوائف وفرق الجماعات السلفية الجهادية والإخوانية والتي تعتبر بمثابة المدارس الإعدادية لكل الإرهابيين مروراً بتنظيم القاعدة ووصولاً إلى داعش، يعزوا في الجوهر إلى التفسير الوهابي للإسلام، والذي أنتج كل هؤلاء القتلة اللدين يرفضون الحياة الحديثة والتطور المعاصر ويبحثون عن طرق تستحل الدماء والإجرام، ابتداءً من مؤسسها محمد بن عبد الوهاب الشخصية المولعة بالتكفير، (تكفير العلماء والأمة) كما جاء في كتاب التوحيد، و يرجع كذلك إلى فكر حسن البنا المؤسس الأول لمدرسة العنف والإرهاب (الإخوان المسلمين)، وإلى استخدام السعودية لمواردها في الإستثمار بمدارس الفكر المتطرف، سيطرت ومولت المساجد وجميع المراكز الإسلامية الوهابية في أوروبا والعالم، وأنجبت لنا إبان فترة السبعينات التنظيمات الإسلامية السرية المتطرفة والمسلحة التي تشتهي الدم وتعتبر كل من يرفض فكرها كافرا أمثال (تنظيم الجهاد) لمؤسسها محمد عبد السلام فرج، و(تنظيم الكلية الفنية العسكرية) بزعامة الإخواني الفلسطيني صالح سرية والمنظمة التي كانت تسعى لحكم الأرض كلها (جماعة التكفير والهجرة) بقيادة شكري مصطفى.
مؤسسة وهابية تكفيرية، مولت ونشرت إيديولوجية الكراهية والتكفير تجاه غير المؤمنين مند القرن الثامن الهجري، عبر كتب ومنشورات تجيز قتل كل من امتنع عن تطبيق أحد شرائع الإسلام، كما جاء في أقوال ومنشورات إبن تيمية وأهمها (ضوابط تكفير المعين)، إضافة إلى كتب إبن عثيمين التي تكفر تارك الصلاة و لو يوم، وأبرزها (مجموع فتاوى) وكتاب (التكفير وضوابطه) لإبراهيم بن عامر الرحيلي، في حين أخرى تقترح التطرف والجهاد كحل بديل كتاب (الفريضة الغائبة) لمحمد عبد السلام فرج مؤسس تنظيم الجهاد، ودليل للجهاد تحت عنوان (دعوة المقاومة الإسلامية العالمية) لأبو مصعب السوري، ويبقى سيد قطب، الشخصية القلقة المندفعة الصارخة في التكفير كما جاء في كتابه (في ظلال القرآن)، مؤسس دستور التكفير للجماعات الجهادية وأحد أهم المراجع الثقافية التي ترسخ للفكر المتطرف، فالتكفير صفة ملازمة له ومؤلفاته كفرت المجتمع والمسلمين كما في (معالم في الطريق) و(العدالة الإجتماعية في الإسلام)، كلها مسميات مختلفة لكن المضمون واحد، مضمون الفكر المتطرف الذي يخرج لنا الإرهاب.
تأثير المنظمات الإرهابية وشبكة الإنترنت
إنطلاقاً من أن الشبكات الإلكترونية لها دور كبير في التأثير على كل فئات المجتمع، عمدت المنظمات الإرهابية على استغلال شبكة الإنترنت لولوج المنتديات الإرهابية كمنتدى كالأنصار الإسلامي، والمجلة الإلكترونية الأنصار التي كتب فيها مستشار بن لادن أبو عبيدة القرشي وشرح فيها نظرية حروب الجيل الرابع وأهمية تجنيد المجاهدين لحرب العصابات واستراتيجيات الحروب الجديدة.
كما استخدمت المنظمات الإرهابية التكنولوجيا واستحدتث أسلوباً جديداً يعرف بالجهاد الرقمي تستخدمه في الحروب النفسية على شبكات التواصل الإجتماعي لبث الرعب وكسب الأنصار وتجييشهم واستغلال البنية التحتية المعلوماتية للبلدان المستهدفة، بتصوير العمليات الإرهابية وتوثيق خسائر العدو لغرض حشد أتباع وإرهابيين جدد.
تستخدم المنظمات الإرهابية شبكة الإنترنت في الإختراق، والنصب، وسرقة البيانات، وتحويل وغسيل الأموال، التمويل الإلكتروني والدعاية، كما اقترحت وصفات لكيفية صنع قنابل محلية الصنع بالمنزل في عدد من (مجلة إنسباير) الإرهابية بباب إسمه الجهاد مفتوح المصدر، واستخدمت أساليب البروباغندا الدينية (من مجلات، ملفات صوتية، رسائل نهاية العالم وإقامة الخلافة الإسلامية، وألعاب الفيديو التي تحاكي أعمال الإرهاب وتشجع المستخدم على المشاركة والإندماج في اللعبة بغية التأثير فيه والتجنيد والتحريض على الإرهاب)، حتى أصبح اليوم ممكناً تفعيل أية خلية إرهابية من أي مكان، وانتزاع شخص من بين عائلته ليعمل ضدها وضد بلده.
كما عمدت المنظمات الإرهابية من جهة أخرى إلى خطب المنظرين المتطرفين الحماسية، والتي تتنافى مع مبادئ وسماحة وأحكام الدين الإسلامي، يشعلون بها فتيل الحروب الأهلية عبر إثارة الفتن والنعرات الطائفية، يستغلون حماس الشباب التائه، الباحث عن الذات وعن الهوية التي لم يلقاها بالمجتمع أو أسرته، يحولون عقله إلى وعاء للعلم الشرعي، فيتحدثون له باستمرار عن المآسي والمجازر وعن الإضطهاد الذي يرتكب ضد المسلمين، فيتحدثون له عن عذاب القبر وعن الثعبان الأقرع، عن ضم الضلوع على بعضها وعن عذاب النار، شيوخ للفتنة ودعاة للضلال، يغذون النفوس الضعيفة ويشحنونها بالكره بإسم الدين، يمحون كل ميول الشباب وتوجهاتهم من فن وأدب ومسرح وموسيقى من أجل تحقيق أقصى قدر ممكن من قسوة القلب وموت الحواس.
المنابع المؤدية إلى انتشار الإرهاب
حتى لا نتملص من الحقائق، فإن ما يحدث في العالم اليوم من جرائم وإرهاب، في الأصل هو نتيجة للإستبداد والممارسات السلطوية للحكومات العربية، التي كانت ولا تزال سبباً من الأسباب الجوهرية لنشوء الإرهاب داخلياً قبل أن تمتد رقعته إلى البلدان الأخرى، ما يحدث بالعالم اليوم هو نتيجة للإستياء السياسي القائم بين الشباب من قمع لحرية الرأي والتعبير، وشعور بالظلم السائد، الشيء الذي يدفع إلى التوجه نحو بلدان أخرى تتوفر فيها البيئة المناسبة للتكاثر.
من زاوية أخرى، جزء من المسؤولية تتحمله أيضاً الدول الغربية بسبب سياساتها الخارجية ودعمها للحروب، وكثمرة لأنظمتها إزاء قضايا الهجرة واللجوء والجاليات المسلمة، وسوء إدارة سياسات الإندماج الثقافي وعدم احترام الخصائص الثقافية، اللغوية، الدينية، والإثنية للمواطنين المهاجرين بشكل عام وذوي الأصول المسلمة على وجه التحديد. وبما أن الضغط يولد الإنفجار كما تقول النظرية الفزيائية، وأقصد هنا الضغط النفسي المتراكم، فإذا اجتمع الإقصاء، التهميش، التمييز التفاوتات العرقية والظلم الإجتماعي، يؤدي إلى النقمة على الواقع، وغليان العقول، والسقوط في فخ فيروس التطرف.
جزء آخر من هذه المسؤولية يقع على عاتق التنظيمات النازية وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا من طرف الأحزاب اليمينية (الإرهاب اليميني) والتي يدعمها بعض الحكام في الغرب بالتواطؤ مع طواغيت العمل الإعلامي المضلل المخادع الذي يخدم أجندات اليمين المتطرف فيصبح هذا الإعلام صانعاً للمعلومة وليس ناقلاً لها، هي أحزاب يمينية اكتسبت مكانة بارزة في العديد من البرلمانات الأوروبية بسياستها التي تعزز الكراهية والتعصب وتعيق التعايش بين الأديان والشعوب، فأصبحنا نرى الحكم على نفس الفعل الإجرامي حسب المكان الذي يحدث فيه، وهذا تلاعب وتحايل على القانون فلا يعقل استخدام مصطلحات محددة وفقًاً للمصالح الشخصية لبلد أو حلف ما، وعندما يتعلق الأمر بتصنيف عملية إرهابية، يسمونها إطلاق للنار، وتارة هجوم مميت، وتارة أخرى إطلاق رصاص من طرف مختل عقلي، أو إرهابي، وهدا نوع من النفاق الدولي وأمر لا يسهم بتاتاً في سيادة القانون ودعم الجهود الدولية المبذولة لمكافحة الإرهاب.
الإحباطات ونقاط ضعف الإستخبارات الغربية
الإشكالية المطروحة عند الإستخبارات الغربية هي الإفتقار إلى الجدية عند التعامل مع المعلومة الإرهابية، وهذا بسبب الفخر المبالغ فيه. فكبرياء الإستخبارات الغربية الزائد، جعلها لا تكترث إلى الكم الهائل من المعلومات القيمة التي يتم تزويدها به بغية تحليلها و تصنيفها، بل الأسوأ أنه لا يتم توظيفها في الوقت المناسب، من جهة ثانية عدم الإستعانة باستخبارات دول صديقة وبخبراء أمنيين من دول رائدة في مجال مكافحة الإرهاب، زيادة على مشكلة توفير الأموال وتسخيرها لصالح الأجهزة الأمنية، ففي سبيل اقتناص المعلومات يتم الإنفاق بدون حساب وبدون تردد لأن أمن المواطنين وسلامتهم لا تقدر بثمن، ناهيك عن انعدام الصرامة في التحقيق مع الإرهابيين العائدين من جبهات القتال والمشتبه بهم من عناصر قوات النخبة بالجيوش الأوروبية والعسكريين السابقين والمستفيدين من التدريبات العسكرية بالفيلق الأجنبي للدول الأوروبية والتي باتت أكثر استهدافاً من قبل التنظيمات الإرهابية، نظرا لمعرفتهم للمواقع وخبرتهم الميدانية في تكتيكات الحرب.
التوصيات
إنطلاقاً من الوعي بأن الإرهاب عدو مشترك وأن رقعته امتدت عالمياً، وأنه لا يمكن لأي دولة أن تحاربه بمفردها دون وجود تعاون إقليمي ودولي وفق إستراتيجيات متعددة الأبعاد، طويلة الأجل من أجل مكافحة الإرهاب واقتلاعه من جذوره، إستراتيجيات تبدأ بضمان احترام حقوق الإنسان أولاً، وتتناول الجوانب التربوية وتطوير مناهجها مواكبة مع تطور العصر، والمقررات الدراسية والتعليمية، وتفعيل دور المؤسسات الإجتماعية ومنظمات المجتمع المدني في القيام بأعمال اجتماعية وصحية، واقتصادية تساهم في مسيرة التنمية الإجتماعية وتخفف من أشكال الغلو الديني والسلوك الإجرامي.
إستراتيجيات إستباقية، وقائية، تستهدف مراقبة وتتبع المجموعات الإرهابية للنازيين الجدد وإرهابيو اليمين المتطرف، ورصد الأشخاص المعرضين للتطرف، مع تشديد الرقابة سيما على موظفي صفوف أجهزة الشرطة والجيش، إسلاميون كانوا أو متطرفون يمينيون، على اعتبار أنه مصدر خطر حقيقي، ودعم الجهود الدولية المبذولة لمكافحته أمنياً وقانونياً، مع ضبط الحقل الديني و”تحصينه من التطرف” كالدروس والخطب التي تدعوا لخلاص العالم على يد هده التنظيمات الإرهابية، عوض تسخير المنابر إلى كل ما يتعلق بفهم واستيعاب النص الديني بالشكل الصحيح.
وحيث أن التيارات السلفية الجهادية وُلدت بالسجون، فمن الضروري إطلاق مبادرات لتأهيل السجناء الإرهابيين والمعتقلين من أهل الأفكار المتطرفة، ومواكبتهم في مرحلة السجن وما بعدها لتهيئتهم للإندماج بالمجتمع المدني وتوعية المغرر بهم بالأفكار الضالة وزرع الأمل لديهم، وحثهم على عدم الإنقياد إلى أوهام خطاب الفكر التكفيري الرائج، والتصدي للفتاوى الضالة التي تتنافى مع مبادئ وسماحة وأحكام الدين الإسلامي، مع تبني الإسلام المعتدل والحوار بين الأديان والحضارات. البروباغندا تواجه بالبروباغندا، والفكر يواجه بالفكر ونشر الأفكار الإيجابية والرؤى الصحيحة، فالوعي هو السلاح المضاد لعمليات غسيل الأدمغة.
أما شأن المساجد، فالأمر يقتضي حمايتها من أي استغلال مادي أو تطرفي، من نشر لخطاب التحريض على الكراهية والعنف، والقضاء نهائياً على ظاهرة التطوع في تدبيرها، ورفع مستوى تأهيل الأئمة والوعاظ لخدمة قيم الدين الإسلامي المعتدل، مع نشر ثقافة التسامح واحترام الآخر في ظل تعددية الفكر والحريات العامة، ومنع الخطباء من الخوض في الشؤون السياسية لتطويق كل المنافد التي يمكن أن تكون فاتحة لشهية الجهاد وتغدية الإرهاب.
خاص وكالة “رياليست” – د. عبد الكريم عتوك – مستشار أمني، خبير علم الإجرام، باحث متخصص في شؤون الهجرة ومكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة