لا يزال الحراك الرسمي الليبي يسير بدرجة عالية باتجاه الدول المنخرطة في الملف الليبي، في مشهد يبين أن هناك مسعىً للحكومة الانتقالية الجديدة، جلب استثمارات أجنبية إلى ليبيا، مع إغفالها أمراً مهماً وهو أن هذا المسعى لا يمكن له أن يتحقق ما لم يتم توفير الأرضية المناسبة له لجهة إخراج كامل القوات الأجنبية والمرتزقة وحل الميليشيات ومن ثم يمكن القول إن الأرضية على أتم استعداد لجذب الاستثمارات، وهذا صراحة جلّ أهداف الدول الأجنبية ودورها في ليبيا.
تضارب التصريحات
كثُرت في الآونة الأخيرة الزيارات بين ليبيا واليونان وتركيا، والجامع بينهم الاتفاقية الأمنية والبحرية التي أبرمتها أنقرة من حكومة الوفاق في العام 2019، والتي تعتبرها أثينا أن لا قيمة في القانونين المحلي والدولي، لجهة عدم تصديق البرلمان الليبي عليها، ما يعني بطلانها وعدم صلاحيتها، رغم أنها رجحت أخيراً إمكانية إيجاد حل وسطي لهذا الخلاف، لكن وبنفس الوقت تتمسك أنقرة بكل قوتها في هذه الاتفاقية لأنها تجيز لها التنقيب عن الغاز في سواحل المتوسط من المنطقة الليبية في مياه اليونان وقبرص، هذا الأمر قسم الأوضاع ووقفت الدول الأوروبية مع اليونان فيه، لكن رغم ذلك لم يحدث أي بادرة ليبية تنهي هذه الأزمة سوى أنها في أنقرة تطمئن الأتراك بدوام سريان هذه الاتفاقية وغيرها من الاتفاقيات على اعتبار تركيا شريك موثوق وحليف متين على حد تعبيرهم، وفي أثينا، تطمئن اليونان، وتقول إنها ستجد حلاً لهذه المسألة.
هذا الأمر بطبيعة الحال، يُفهم منه أنه مماطلة ليبية واضحة لصالح تركيا، ومهما كان الموقف بين الجانبين، يبدو أن لأنقرة الأفضلية بالنسبة للحكومة الليبية المؤقتة، وها قد باشرت تركيا البدء ببناء البنى التحتية لمطار بالقرب من طرابلس، وعلى الجانب الآخر، قامت إيطاليا بذات المشروع وبناء مطار قيل إنه سيدخل الخدمة خلال عام وهو مطار مدني يستوعب 50 مليون مسافر سنوياً.
الساسة الليبيون يريدون إدخال رؤوس الأموال إلى بلادهم، متجنبين الملفات السياسية العالقة، ومعولين على الانتخابات الليبية المقبلة في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، هذا الأمر كما كنا نشير إليه دائماً، أنه من الناحية النظرية جيد جداً، لكنه آني ووقتي ولن يُكتب له النجاح ما لم يتم حل كل ما هو ضار لليبيا وتفعيل كل ما من شأنه أن يحقق الاستقرار لها.
على خُطى الغرب
الأمم المتحدة اليوم سعيدة بما وصلت إليه ليبيا، وتعتبر أن الشكل الحالي للأوضاع السياسية في ليبيا هو بفضل جهودها المثمرة في الفترة الأخيرة، لكن هنا يتبادر سؤال مهم، لماذا لا تنفذ الأمم المتحدة بقية الشروط خاصة تلك التي أقرتها اللجنة العسكرية “5+5” حول إكمال سحب المرتزقة الأجانب وخروج القوات الأجنبية؟
إن الوضع السياسي الليبي غير مطمئن كلياً، لكن هناك حاجة دولية إلى صناعة استقرار وهمي، للبدء بقطاف التدخل في ليبيا، وكل الرعاية الأممية لهذا الملف، هو تهيئة الأرضية المناسبة لإدخال الاستثمارات الأوروبية، والتي لا يمكن لها أن تتحقق إذا لم يتم إرضاء تركيا، لما لها من ملفات مؤثرة على الداخل الأوروبي نفسه، هذا الأمر بدا جلياً عندما نفذت أنقرة تهديداتها وفتحت حدودها أمام اللاجئين إلى أوروبا، ورغم أصداء الإدانات الواسعة ضدها، لكن عملياً لم يتحقق شيء، وهذا يأخذنا إلى أنهم جميعهم شركاء بطريقة أو بأخرى، وبالتالي، الإبقاء على المرتزقة وعدم حل الميليشيات وخروج القوى الأجنبية، يعني أن هناك الخطة “باء” في حال حدوث أي تطور من شأن ذلك قلب الطاولة على الخصوم المفترضين في حال رفض البعض لبعض الممارسات الدولية في ليبيا، والبداية والمؤشرات تتجه نحو القيادة الشرقية الملتزمة الصمت في الفترة الأخيرة، وكأنها تنتظر نهاية كل هذه الأمور لتستطيع بناء موقف معين تعرف موقعها من كل المستجدات الأخيرة.
ولعل مسألة إرسال بعثة مراقبين دوليين، تحاكي إلى حد ما مراقبة الأوضاع على الأرض، لتحضير سيل الاتهامات والتي دائماً ما تكون معدة وجاهزة كما في الحالة السورية، لكن هنا الوضع متعلق بقوات شرق ليبيا، وتقييد تحركاتها بما يضمن تقاسم الكعكة الليبية بسلام بين الضالعين جميعاً في الملف الليبي.
الموقف الروسي
رغم إلقاء الغرب الاتهامات على روسيا بمناسبة وبدون مناسبة مؤخراً والمجاهرة بمطالبة موسكو بإخراج قوات “فاغنر” من ليبيا، رغم النفي الروسي القاطع حول أنه لا يوجد قوات روسية وإن كان بصفة غير رسمية على الأراضي الليبية، إلا أن توجيه مثل هكذا ادعاءات مرده التعتيم على المرتزقة السوريين الموالين لتركيا ومسألة انسحابهم من خلال إشغال الرأي العام العالمي بشيطنة روسيا خاصة في ظل اشتداد التوترات الروسية – الأمريكية مؤخراً.
لكن وكما أشرنا إلى تضارب التصريحات الليبية، وفي زيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة، إلى موسكو، ولقائه نظيره الروسي، ميخائيل ميشوستين مؤخراً، تم بحث المسائل الخاصة بالتعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين، بما في ذلك آفاق التعاون في مجالات الطاقة والنقل والزراعة، هذا الأمر يتناقض مع زيارة الدبيبة إلى أنقرة وتوقيع الاتفاقيات الجديدة وتعزيز السابق منها، ما يجعل المتابع يضع مقارنة بين الرئيس الدبيبة وأحمد معيتيق نائب رئيس المجلس الرئاسي التابع لحكومة الوفاق الليبية السابقة الذي كان يزور موسكو باستمرار وكان الشأن الاقتصادي الليبي على رأس الأولويات، ووقع عدد من الاتفاقيات مع روسيا، في حين أنه الآن يبدو أن الاتجاه الليبي يميل بشكل واضح نحو تركيا وأوروبا، وأن هناك قرار ما، من الممكن القول عنه إنه “خفي” لتخفيض العلاقات مع روسيا بالحد الأدنى منها، وبالتالي هذا الأمر لن يضر روسيا أو مصالحها بالقدر الذي سيضر بليبيا سواء اقتصادياً أم سياسياً.
أخيراً، ليبيا على مفترق طرق، قد يكون الهدوء سمة الوضع في الوقت الحالي، لكن كل هذه التطورات الأخيرة التي شهدتها البلاد، ليست إلا الخطوة الأولى عما ينتظر ليبيا مستقبلاً، وما بين الشرق والغرب، هناك جهة حاولت رسم سياسة ليبيا وفق قرار الليبيين، وهناك جهة تعمل وفق الإملاءات الخارجية حتى اللحظة، ويبدو أن هذه الأمور ستبقى هكذا في الفترة المقبلة لأن القرار الليبي لم يستقل بعد، ويبدو أن لا استقلالية في الوقت الحالي طالما أطراف الصراع متمسكة بآرائها ومتمسكة بالدول الداعمة لها، رغم انحسار موقف الداعمين من القوى الإقليمية والدولية لقوات شرق ليبيا، لتبقى الكرة في ملعب القيادة الغربية، هي اليوم معنية بإحلال السلام في ليبيا، إما أن تنجح، والوقت قليل، وإما الفشل سيكون حتمي في ضوء هذه التطورات.
فريق عمل “رياليست”.