مرةً أخرى تختبر الأزمة السورية صلابة الاتفاق الروسي – التركي في الملف السوري، خاصة لجهة التطورات الأخيرة، وإدخال تركيا تعزيزات جديدة إلى ريف الرقة رغم الاتفاق المبرم مع الجانب الروسي، يقابل ذلك تصعيد أمريكي واضح في الشرق السوري، ومتابعات سياسية سورية – خليجية ترجمتها زيارة وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد إلى سلطنة عُمان، عرّابة الاتفاقات المبطنة وتقريب وجهات النظر لحلول ستطفو على السطح في القادم من الأيام.
التوتر التركي – الروسي
في الآونة الأخيرة، تصاعدت التوترات التركية – الروسية في المنطقتين الشمالية والشرقية من سوريا، وسط تصعيد عسكري غير مسبوق.
شمالاً، وجّه سلاح الجو الروسي بالتعاون مع قوات الجيش السوري برياً، ثلاث هجمات قاصمة للجسد الإرهابي خلال شهر مارس/ آذار الجاري، تتعلق بقصف دقيق لحراقات النفط البدائية في ريف حلب، وتدمير أكثر من 180 صهريج محمل بمادة النفط السوري الخام المعد للتهريب ومن ثم البيع في تركيا، ضربة قوية دفعت القوات التركية على الفور لاستهداف مناطق متفرقة من ريف حلب، كنوع من الرد عليها، لكن ما سبب الغضب التركي؟
إن تهريب النفط وبيعه، يُعتبر مصدر تمويل لتغذية الفصائل الإرهابية المسلحة سواء دفع رواتب أو تسليح وحتى الإطعام والمعدات العسكرية الأخرى، هذا الأمر سيضع أنقرة أمام استحقاقات مضطرة أن تدفعها من جيبها في غياب التمويل الحقيقي، ربطاً مع أن لديها في ليبيا 5000 مرتزق سوري على الأقل، أيضاً تقوم بالدفع لها، لتأتي هذه الضربة وتبدد آمال أنقرة، وبعد أن استقرت الأمور قليلاً تكرر الأمر مرة جديدة، والمرة الأخيرة كانت قبل أيام، هذا يعني أن سوريا لا تستطيع الحصول على النفط العائد لها، لكنها قادرة على منع أي أحد من الاستفادة منه، وهذا القصف يؤكد هذه الحقيقة، فإما أن يكون لسوريا، أو لن يكون لأحد.
لم يتوقف الأمر هنا، لقد وصف الكرملين الوضع في المناطق السورية حيث تتعاون موسكو مع أنقرة بالمعقد. وسبق ذلك بيان مقلق من المركز الروسي للمصالحة بين الأطراف المتحاربة يفيد بأن القوات التركية تعزز قواتها في محافظة الرقة شمال البلاد، منتهكة الاتفاقات مع موسكو، هذا التعقيد يأتي في الخرق الدائم لتركيا، ما ينقض رواية تصريح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو الأخير، حيال أن حل الأزمة السورية هو حل سياسي، ما يؤكد أن الأمور تتجه نحو مزيد من التعقيد، خاصة وأن الاستهدافات الأخيرة سواء من القوات الروسية العاملة في سوريا أو من الجيش السورية، شكلت ضربة موجعة لأنقرة في مناطق سيطرتها، وهذا التطور سيدفع بتركيا إلى الطلب من روسيا بتفعيل الاتفاقات مجدداً، فما إن تتقدم أنقرة قليلاً حتى تصطدم بالقوة الروسية التي تحول بينها وبين أي تقدم مفيد وملموس لقواتها وفصائلها على الأرض.
تصعيد تركي – كردي
شرقاً، أعلن الجيش التركي أنه دمر أكثر من 20 موقعاً لقوات كردية وقام بقتل عدد كبير من المسلحين التابعين لهم، في مدينة “تل رفعت” بشمال سوريا، رداً على إطلاقهم قذائف على ولاية “كيليس” بجنوب تركيا، إضافة إلى قصف شديد على منطقة عين عيسى بريف الرقة، وتحديداً قرية حضريات جنوب شرق البلدة الواقعة شمال الرقة الأمر الذي أدى إلى مقتل طفل وإصابة 5 مدنيين من أهالي القرية.
مقابل ذلك، ورداً عليه، قامت قوات سوريا الديمقراطية – قسد الموالية للجيش الأمريكي بقصف قاعدتين للجيش التركي القريبتين من قريتي صيدا والمشيرفة، لتقوم القوات التركية أيضاً رداً على ذلك بقصف نقطة لقوات الجيش السوري في الأحياء الشرقية.
هذا التصعيد لا يزال مستمراً، ولكنه قد يكون مثمراً ولأول مرة، من جهة أنه يعزز الدور الروسي، الذي قد يستفيد بتحصيل تنازلات معينة من الجانب التركي من جهة، وبنفس الوقت يدفع بقوات قسد تسليم بعض المواقع للدولة السورية، أو على الأقل تقديم بعض التنازلات أيضاً بما يتعلق بالحوار السوري – الكردي من جهةٍ أخرى، خاصة وأن الحليف والحاضن الأمريكي للأكراد يبدو أنه بعيد عن هذه التطورات، ويقف موقف المتفرج منها، في ضوء سيطرته على أهم الحقول النفطية واستخراجها وبيعها، غير آبهاً بما يحدث لقسد، ما يؤكد أن دور الأخيرة دور وظيفي وحالياً لا يعُتبر دوراً هاماً للأمريكيين، وبالتالي، هذا التعقيد شرقاً ستعرف موسكو كيف تستغله، ويبدو أن هناك حالة غضب روسية خاصة بعد التوترات الأخيرة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
على الصعيد السياسي
إن جولة وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد إلى سلطنة عمان أمر مهم جداً، ومن المعروف أن السلطنة في كل أزمات المنطقة العربية، وقفت منها موقفاً حيادياً، وكانت عرابة تقريب وجهات النظر والتوسط بين المتخاصمين سواء خليجياً أو عربياً، إذ تعتبر مسقط مهندسة الحلول، حتى في مسألة “اتفاقات السلام – التطبيع” مع إسرائيل.
الزيارة ظاهراً حملت عناوين التعاون الثنائي بين دمشق ومسقط، ووقوف الأخيرة إلى جانب سوريا في أزمتها، لكن يبدو أن هذه الزيارة مرتبطة إلى حد كبير بتطبيع العلاقات السورية – السعودية، بعد ليونة الأخيرة وتغيير خطابها وموقفها من الأزمة السورية، زد على ذلك، كيفية التقبل القطري، سوريّاً، وبالطبع مسألة عودة دمشق لجامعة الدول العربية، إضافة إلى دور دول الخليج الذي قد يبدو أنه خسر إلى حدٍّ ما في ليبيا، في ظل التوافق الليبي – الليبي الأخير، وانتصار تركيا على الأقل حالياً، هنا يأتي دور الإمارات والسعودية، والرد على أنقرة من البوابة السورية، الدعوة اليوم إلى الحل السياسي، يعني خروج القوى الأجنبية من سوريا وفي مقدمتها القوات التركية، وبالتالي يتم هندسة هذه التطورات في مسقط، وهنا لا بد لدمشق أن تقبل بهذه الدعوات خاصة وأن خياراتها اليوم محدودة، إذا لم نقل معدومة.
وبما أن سوريا على موعد مع استحقاق رئاسي جديد، وسط رفض هذه العملية غربياً والتشكيك بها قبل أن تبدأ، هذا يتطلب تقرب دمشق من الدول العربية وقبول التسويات التي يتحدثون عنها، لأن كل هذا التصعيد يأتي على خلفية تسويات مرتقبة، ولذلك نجد اليوم أن الضغط على الدولة السورية بلغ ذروته سواء اقتصادياً أو سياسياً.
أخيراً، المشهد السوري اليوم يعيش أسوأ أيامه على كافة الأصعدة، وسوريا بحاجة إلى تطبيع علاقاتها مع عددٍ من الدول، وكون هذه الدول أو بعضها خليجياً، قد يضع ذلك بعض الحلول المرتقبة، ويساهم في تذليل الصعاب خاصة مع الجانب الأمريكي الذي يحكمه رئيس ديمقراطي، ويريد أن يكون عرّاب أي حل، دون تقديم أية تنازلات، لذلك يتم دفع الأوروبيين والأمم المتحدة للإدلاء بالتصريحات، وفي ثناياها تعكس الإرادة الأمريكية بشكل واضح، على دمشق أن تعي ذلك، وبنفس الوقت دونما تقديم تنازلات خاصة يما يتعلق بالوجود الأجنبي أو التقسيم، لأن الحلول شبه مستحيلة لكن السياسة “فن الممكن”.
فريق عمل “رياليست”.