لا شكّ أنّ الديناميكية التي تشهدها الساحة الأوكرانية تحكمها أبعاد مختلفة بما في ذلك البعد الجيو-استراتيجي المؤطر للمشهد السياسي على غرار باقي الساحات التي تدخل فيها روسيا مع دول الغرب معركة لبسط النفوذ وتأمين المصالح الإستراتيجية.
ويبقى القاسم المشترك بين هذه الساحات هو التناقض بين المشروع الأطلسي الساعي لتطويق روسيا من ناحية، ورغبة هذه الأخيرة في إثبات نفسها كأمة عظيمة مهيمنة على محيطها الإقليمي وكقوة صاعدة دولياً
فبالنسبة لحلف الأطلسي، لاتزال نظرية عالم الجغرافية السياسية هالفورد ماكيندرهي التي تسيطر على بوصلته وخياراته الإستراتيجية بناءً على مبدأ جيو-سياسي مفاده أن إخضاع أوروبا الشرقية هو الشرط الأساسي لفتح الطريق نحو الهيمنة على قلب العالم الأوراسي.Eurasian heartland
ولإيضاح هذه المقاربة في اصطفافات الغرب بعد الحرب الباردة، يتوجب العروج على ما أقدمت عليه سياسات حلف الأطلسي والإتحاد الأوروبي من خرق للوضع القائم ما بعد الحرب الباردة’ post-cold war status-quo الذي تأسست قواعده أوروبياً في “ميثاق باريس” الناتج عن مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا سنة 1990.
وقد تجسدت هذا الخروقات بالنسبة لروسيا في حرب كوسوفو والثورات الملونة، وانضمام عدة دول شرق أوروبية إلى حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى مبادرة الإتحاد الأوروبي المعروفة باسم “الشراكة الشرقية” وهي المبادرة السياسية التي لا تختلف في جوهرها عن باقي المحاولات الأوروبية الرامية إلى استيعاب الأطراف والأقاليم المتاخمة للإتحاد الأوروبي والسيطرة عليها كالبلقان ودول شمال إفريقيا.
فتحَت يافطة ”السياسة الأوروبية للجوار” للإتحاد الأوروبي المجال لنسج شراكة على الصعيد الإقتصادي والسياسي مع كل من أوكرانيا، وروسيا البيضاء، ومولدوفا، وأذربيجان، وأرمينيا، وجورجيا. ويظهر للوهلة الأولى أنّ هذه الدول تتكون من مجموعتين: مجموعة تمثل الدول التي ظلت علاقتها وطيدة بموسكو بعد الحرب الباردة كروسيا البيضاء وأرمينيا ومجموعة أخرى تمثل الدول التي ارتمت بدرجات متفاوتة في أحضان الغرب كأوكرانيا وأذربيجان ومولدوفا. ولفهم النزاع الروسي- الأوكراني ضمن سياق هذه المبادرة ينبغي تسليط الضوء على الظروف السياسية التي تأسست فيها “الشراكة الشرقية” تحت إشراف دولتي السويد وبولندا، إذ يقتضي تسلسل الأحداث المتعلقة بالملف الأوكراني الرجوع إلى حرب أوسيتيا الجنوبية سنة 2008، أي الحرب التي أبدت فيها روسيا إصراراً على بسط سيطرتها في منطقة القوقاز من خلال اللجوء إلي الخيار العسكري للحسم في ملف جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا..
أما فيما يتعلق بما عرف بـ”مظاهرات الميدان الأوروبي” التي اندلعت في العاصمة الأوكرانية كِييف أواخر سنة 2013 فهي بدورها متصلة اتصالاً مباشراً بسياسة احتواء روسيا، حيث تراجعت آنذاك حكومة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالية لروسيا عن توقيع اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا وأوروبا المندرجة في إطارمشروع الشراكة الشرقية.
وعلى غرار الدعم الأمريكي لجورجيا سنة 2008، لم تختف يد العم سام هذه المرة عن تحريك المعارضة الأوكرانية المناهضة لحكومة يانوكوفيتش لمحاولة تحقيق ما عجزت عن تحقيقه كلياً عبر المعارضة ذاتها فيما سُمي بالثورة البرتقالية أواخر عام 2004. وتجدر الإشارة إلى الدور الأمريكي الرامي إلى تغيير النظام الأوكراني والذي خرج إلى العلن عام 2014 بعد قيام روسيا بتسريب مكالمة بين السفير الأمريكي الأسبق في أوكرانيا جيوفري بيات ومساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأوروبية والأوراسية فيكتوريا نولاند، حيث تبادلا فيها آرائهما حول الخيارات المتاحة لتشكيل حكومة أوكرانية موالية للولايات المتحدة الأمريكية.
ما إن وطد النظام الأوكراني الجديد ذاته – بعد إسقاط حكومة يانوكوفيتش – حتى كانت روسيا قد سيطرت على الوضع شرق أوكرانيا عبر دعم المقاومة المسلحة في إقليمي دونتسك ولوغانسك من جهة وضم جزيرة القرم الإسترتيجية بمينائها إلى الأراضي الروسية من جهة أخرى.
وقد تطور الصراع في الشرق الأوكراني إلى حد إعلان قيام جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، غير أنهما لم تتحصلا على اعتراف دولي بهما. ومما يتوجب التنبه له هنا هو وجود أغلبية ناطقة باللغة الروسية في هذه المناطق، وهوالأمر الذي دفع روسيا إلى رسم تصور إقليمي تُعتبر فيه مصلحة الأقليات الروسية أولوية قومية.
وكانت أولى الخطوات الروسية في هذا الإتجاه في بدايات التسعينيات لإثبات نفسها تدريجياً كقوة إقليمية، متبنية بذلك “عقيدة كراكانوف” نسبةً للمفكّر السياسي الروسي سيرجي كراكانوف. وتعتمد هذه العقيدة على مرجعية قومية روسية، إذ تربط حماية مصالح روسيا الحيوية على المستوى الإقليمي بحماية التجمّعات الروسية المتواجدة في دول الجوار، الأمر الذي جعل من حماية الأقليات الروسية إقليمياً من ثوابت السياسة الخارجية للدولة الروسية بعد الحرب الباردة.
ولم يتردد حلف الأطلسي عقب التدخل الروسي في أوكرانيا عن التلويح بالإحتكام إلى البند الخامس لردع الكرملين عن اتخاذ نفس الخيار في دول البلطيق الأطلسية التي تتواجد فيها أقليات روسية. ومن السيناريوهات التي لايزال حلف الأطلسي يأخذها في الحسبان هو احتمال حصول تمرد في مدينة نارفا الإستونية المعروفة بغالبية سكانية موالية لروسيا.
وفي السياق ذاته، يلاحظ أنّ حلف الأطلسي أسس “قوات رأس الحربة” لمهام التدخل السريع سنة 2014 كرد فعل على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، مما جعل روسيا ترد على لسان نائب رئيس مجلس الدوما فلاديمير جيرينوفسكي الذي هدد بإخفاء بولندا ودول البلطيق الأطلسية عن وجه الأرض. وبرغم أن هذا الإحتدام بين روسيا والكتلة الغربية – الأطلسية لم يكن مرشحا في صورته الكاملة للتطور إلى ما لا يحمد عقباه، إلا أن الحالة وصلت ميدانياً إلى صراع منخفض الحدة في منطقة الدونباس شرق أوكرانيا مما يجعل من مفاوضات “مجموعة الاتصال الثلاثية” بدون أفق حقيقي نحو تسوية شاملة.
وعلى عكس تداعيات الحرب مع جورجيا، لجأت الدول الغربية هذه المرة إلى فرض عقوبات على روسيا. وقد اشتدت العقوبات عقب إسقاط طائرة ماليزية شرق أوكرانيا في يوليو/ تموز 2014، إذ اتهمت فيها الدول الغربية الموالين لروسيا بالمسؤولية عن الحادثة، مما أدى إلى فرض أوروبا والولايات المتحدة آخر يوليو/تموز 2014 حزمة عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا طالت قطاعات حيوية هي القطاع المالي والطاقة والصناعة العسكرية وقطاع الشحن. أما على الصعيد الإنساني، فمن اللافت للنظر أن دول الإتحاد الأوروبي لم تفلح في استيعاب ملف المشردين الأوكرانيين الواصل عددهم إلى أزيد من 1.6 مليون داخل الأراضي الأوكرانية، بينما وصل عدد اللاجئين إلى الدول المجاورة مليون أوكراني. وقد أدى الصراع في المحصلة إلى مصرع أكثر من 3300 مدني وإصابة ما يصل إلى 9000 جريح. وتعاني مساحات كبيرة من المناطق السكانية المأهولة من انتشار الألغام الأرضية ومخلفات الحرب، وقد سجلت الأمم المتحدة أكثر من 250 حالة وفاة أو إصابة بسبب هذه الألغام التي جعلت من أوكرانيا أكثر البلدان المزروعة بالألغام في العالم بعد أفغانستان والعراق.
ختاماً يمكن القول أنّ السياسة الروسية في الساحة الأوكرانية، بالرغم من تعرضها لعقوبات اقتصادية، الا أنها نجحت في جر الطرف الأوروبي – الأطلسي إلى ما يشبه “وضعية الردب” في لغة الشطرنج. ويتضح ذلك من خلال هشاشة الموقف الأوروبي أمام الرغبة الألمانية بتخفيف العقوبات على روسيا، لتمهيد الطريق أمام إتمام مشروع الغاز “نورد ستريم 2” الذي سيعزز بلا شك قبضة روسيا على سوق الطاقة الأوروبية.
وتكفي الإشارة إلى التصريحات المتكررة لوزير خارجية ألمانيا الأسبق زيغمار غابريال في هذا المضمار وقيام وزير الخارجية الحالي هايكو ماس في ديسيمبر/كانون الأول 2019 باستنكار القرار الأمريكي بمعاقبة مقاولين يعملون على مشروع نورد ستريم 2. يحاول الطرف الأوروبي-الأطلسي تعويض تخبطه في الساحة الأوكرانية عبر توسيع دائرة نفوذه في منطقة البلقان بعد انضمام جمهوريتي الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية إلى حلف الأطلسي، وهو الأمر الذي لا يعني بالضرورة على المدى الطويل تراجع دور روسيا في حدائقها الخلفية.
خاص وكالة “رياليست” – الأستاذ إبراهيم حرشاوي، محلل سياسي