إن إحتلال تركيا لمدينة رأس العين الإستراتيجية في شمال شرق سوريا، هو إحتلال جاء في إطار إستكمال العدوان على سوريا، لكن مسألة الانسحاب للمكون الكردي من هذه الجغرافيا في الواقع تثير القلق.
عن أهمية مدينة رأس العين وبعد إنسحاب قوات سوريا الديمقراطية منها، وتطورات الصراع التركي – السوري في الشرق، يقول اللواء المتقاعد محمد عباس، والخبير العسكري والإستراتيجي لـ وكالة “رياليست” الروسية:
أسباب الإنسحاب
إن إنسحاب المكون الكردي يفسر على أنه، بسبب عجزه عن الصمود في وجه آلة حربية كبيرة جدا تقاتل وتستخدم الطيران والمدفعية والسلاح الفوسفوري والوسائط القتالية المحرمة دوليا، بالإضافة إلى إستخدام الجيوش البديلة التي تشكلت في شمالي سوريا بإدلب برعاية الجيش والمخابرات التركية، الذي يضم في تعداده كل من فصائل حراس الدين والإيغور والشيشان والتركمانستان وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة ومختلف القوى التي كانت تقاتل وما زالت تقاتل في محافظة إدلب، حيث نُقل جزء كبير من هذه القوات إلى المنطقة الشمالية الشرقية بإتجاه تل أبيض ورأس العين.
وبالتالي أعتقد أن ما يسمى بـ “قسد”، كانت أمام خيارين، يبدو أن صمودها في هذه المعركة كان ضعيفا أو أنها أيضا هي نفسها ضعيفة من الداخل لأنها لا تملك قرارها خاصة بعد إرتهانها للقرار الأمريكي، وتشعر بالقلق لتخلي الأمريكي عنها، وبالتالي شعرت أن الدفاع خاسر ويبدو انها ما تزال تراهن على الحصان الأمريكي وربما فضلت الانسحاب أمام القوات التركية، وأعتقد الآن أن التركي يحاول أن يقدم نفسه كنموذج جديد في هذه الجغرافيا.
الأهمية الإستراتيجية
إن الأهمية الإستراتيجية لرأس العين، أنها تقع في منتصف المسافة تقريبا أو تبعد نفس المسافة بين القامشلي والحسكة عن رأس العين وتشكل أيضا الممرات الطبيعية بإتجاه القامشلي وبإتجاه الحسكة، وأيضا تشكل تجمعا بشريا كبيرا ونقطة إرتكاز كبيرة للمشروع التركي الذي يريد أن يسوق نفسه أيضا على أنه يريد إستيعاب اللاجئين والنازحين السوريين وطردهم من الأراضي التركية ليثبت أردوغان مصداقيته أمام الأتراك بأنه قد بدأ بتنفيذ التغيير الديموغرافي والسكاني وترحيل المواطنين خاصة وأن أعدادهم كبيرة في رأس العين وتل أبيض.
وبالتالي يحاول أردوغان الإيحاء بأنه سيبدأ بعملية الترحيل وإيجاد حل لمشكلة اللاجئين، لكن لن ينجح لأن الشروط لن تسمح له بهذه المسألة، وخاصة إذا ما تذكرنا أن أهداف تركيا المعلنة هي واضحة ولم تخفيها أنقرة، فهدف تركيا من عدوانها هو إزالة الخطر عن الحدود السورية – التركية والوصول إلى خط الضفاف الشرقية لنهر الفرات، أي من جرابلس إلى الرقة ودير الزور حتى الحسكة وهذا يعني الإستيلاء على خطوط النفط وآباره، والغاز والمياه والمحزون الزراعي السوري وإحتياطه الوطني الإقتصادي، فلقد أعلن مولود جاويش أوغلو أن هدف العملية هو حماية السكان من بطش قسد، ولا شك بأن قسد مارست سلوكا سيئا وسلوكها فيه الكثير من العدوانية ضد المكونات المجتمعية الأخرى في المنطقة ونالت بكفاءة كراهية كل المواطنين لأنها تعاملت معهم إنطلاقا من عقدة التفوق بوجود الأمريكي، واليوم بات ذلك عامل تحريض ضدها، ولذلك أعتقد أن مصطلح حماية السكان من بطش قسد، مصطلح صنعه الأمريكي وإستثمر فيه التركي وما زال قابلا للإستثمار وخاصة بعد عمليات الإعتقال والممارسات التي مارستها قسد في مرحلة معينة خلال الشهر الماضي وما قبل.
يضاف إلى ذلك أن مسألة إعادة الإعمار هي واحدة من العناصر التي تقول فيها تركيا أنها ستعيد إعمار سوريا ليؤمن إسكان اللاجئين وبالتالي سوف يستفيد من رأس العين كمدينة جاهزة تكون ضمانة لوعود أردوغان اللاحقة.
أطماع توسعية
التهديد التركي هو تهديد قائم منذ العام 2011، لم يختلف شيء إلى الآن، فقد دخل الأتراك بجيوشهم ووكلائهم، واليوم يدخلون بذات الشيء مع رفع العلم التركي منذ أول دخول لهم إلى اليوم، معتمدين على الهوية الإخوانية ومحاولة ترسيخها في المناطق التي دخلوها.
وبالتالي أعتقد أن الحرب التركية على سوريا، حرب معلنة إنطلاقا من كتاب أحمد داوود أوغلو بأن الإستيلاء على سوريا يعني الإستيلاء على كل الدول الإسلامية لأنه لا يوجد من يقف في وجههم ووجه هذه الطروحات التركية أفضل من سوريا التي لا تسمح بوجود الأحزاب الدينية ولا تسمح بوجود نشاطات دينية بشكل منفصل عن الهوية الوطنية السورية، وبالتالي إستثمر أردوغان سابقا ويبدو أنه يحاول الإستثمار لاحقا في هذا العدوان. فالعدوان التركي معلن عبر العدوان الثقافي والأخلاقي والمجتمعي من خلال تمزيق المجتمع وتفكيك الدولة بإستخدام الهوية الإسلاموية الإخوانية عبر محاولات تمرير مصطلح الإسلام المعتدل والمحافظ والجديد لنموذج تركي يمكن تعميمه على الجمهوريات وسط آسيا وعلى محيط بحر قزوين وبلاد المغرب وأفريقيا، وكل منطقة يكون لحزب العدالة والتنمية القدرة على التغلغل فيها. معتمدين على النموذج الاقتصادي التركي ونشر الديمقراطية الإسلامية، إلا أن هذا الأمر تعرى إبان المرحلة الإنقلابية عندم تم الزج بمئات الألوف من الأتراك في السجون وما شابه ذلك.
وفي تصريح لأردوغان الذي يقول فيه: إن تركيا ستقاتل الإرهاب في جنوب سوريا وهذا يشير إلى أن أطماع تركيا ليست فقط في مساحة المنطقة الأمنية التركية من خلال الإستيلاء على إرادة المسلمين.
توقعات المرحلة القادمة
أعتقد أن المواجهة مع تركيا مواجهة قائمة ومستمرة في إطار أولي، ألا وهو مواجهة جيوشها البديلة لأن القوات السورية قد وصلت إلى خطوط التماس مع الجيش التركي والمنضوين تحت إمرته، وأعتقد أن الأتراك قد قاموا بنقل بؤرة صراع جديدة من إدلب لكي تشتعل مرة أخرى في منطقة غنية بالإقتصاد وبالثروات، وبالتالي ينتقل عدم الاستقرار إلى هذه الجغرافيا وتستمر الحرب ويستمر العدوان الأمريكي – التركي – الإسرائيلي على سوريا لكن في مناطق جديدة.
وأود أن ألفت الإنتباه إلى مسألة أخرى، وهي أن تركيا وأمريكا وإسرائيل يريدون الوصول إلى الخط الممتد بين التنف والبوكمال وقطع طريق التواصل بين سوريا والعراق ومنع إيران الوصول إلى بيروت ومنع روسيا من البقاء في طرطوس وحميميم وبالتالي خلق الشروط المناسبة لاحقا من أجل إغلاق القدرات الروسية بالبحر، فلو نجحت أمريكا الإستيلاء على أوكرانيا مع شبه جزيرة القرم أعتقد أن روسيا سوف تكون دولة حبيسة غير قادرة على إستخدام أساطيلها وسوف تنكمش إلى مكان آخر من العالم وستبقى أمريكا حينها سيدة العالم كما تحلم. لكن روسيا، اليوم إستطاعت أن تتمسك بسوريا وأن تحافظ على وجودها وعلاقاتها ودعمها للدولة السورية، وتحارب معها الإرهاب ولكنها في نفس الوقت تحارب الإرهاب نيابة عن العالم وتدافع عن موسكو إنطلاقا من شواطئ البحر المتوسط وسوريا.
اللواء المتقاعد محمد عباس- الخبير العسكري والإستراتيجي، خاص لـ وكالة أنباء “رياليست”