منذ نشأة الدولة، كانت السيادة عنصرًا مكونًا لها ودليلًا جوهريًا على إستقلاليتها وحريتها، حتى أصبحت مع تطور التنظيم الدولي الركن الأساسي لتنظيم العلاقات بين الدول وتحديد حقوقها وواجباتها، وأبرز ضوابط القانون الدولي المعاصر. ومع تأسيس منظمة الأمم المتحدة في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1945، والتي بني ميثاقها على مبدأ سيادة وإستقلال الدول الأعضاء، بدأت الدول تقبل من أجل صالح المجتمع الدولي، بعض القيود على صلاحياتها السيادية الداخلية والخارجية. وقد حرّم ميثاق الأمم المتحدة تحريمًا تامًا التدخل العسكري، بحيث بقيت السيادة مطلقة في الداخل وإنّما “مسؤولة” في الخارج بما يفيد أن هذه السيادة يقابلها عقاب في حال مخالفة هذه المسؤولية. مبدأ عدم التدخل وحيث أجاز الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة تدخل مجلس الأمن العسكري لحفظ الأمن والسلم في حال العدوان على دولة ذات سيادة، فقد تضمن قرارًا بالعقوبات على الدولة المخالفة. ويأتي مبدأ “عدم التدخل” كترجمة قانونية لإلتزام الدول باحترام سيادة كل منها. وقد تم التعارف على إستثناءات على “مبدأ عدم التدخل” في حالات معينة نص عليها القانون الدولي، والتي تضفي شرعية على التدخل شرط أن يكون هذا مستندًا إما الى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، بناءً على طلب يقدَّم إلى مجلس الأمن لإعطاء الدولة الإذن القانوني للتدخل؛ أو أن يكون الطلب بالتدخل صادرًا عن حكومة الدولة الشرعية وموجهًا الى دولة معينة، أو مجموعة دول للدفاع عنها خصوصًا متى ما كانت قد صادقت مع الدولة على معاهدة دفاع مشترك. على بيّنة مما تقدّم، فإنه لا جدال على عدم مشروعية التدخل العسكري التركي في سوريا، إنطلاقَا من إفتقاره لأي من الأسناد القانونية المستوجبة لإعتباره تدخلًا شرعيًا. معارضة شعبية أما بالرد على التساؤلات حول مدى شرعية الحكومة السورية في ظل الإنقسام الشعبي حول تأييد سلطة الحكم، فممّا لا شك فيه أن الإستثناءات الواردة على مبدأ التدخل تثير جدلية واسعة حول مفهوم الشرعية من حيث الإشكاليات التي تعنى بوصول الحكومة للحكم حسب الأسس الدستورية، أو مدى انبثاقها عن إرادة الشعب، وبالأخص متى هناك معارضة شعبية لهذا الحكم، وما يقابل ذلك من معارضة شعبية لهذا التدخل من قبل الفئة المؤيدة لسلطة الحكم. وإن كان هذا يستدعي مناقشة الحيثيات لتقرير مدى شرعية الحكومة السورية، ولكنه لا ينفي عدم شرعية التدخل العسكري التركي في سوريا، واعتباره عدوانًا سافرًا على سيادة الدولة السورية! أبعاد العمل العسكري! في وقائع التدخل، أعلنت وزارة الدفاع التركية بدء العملية العسكرية، فيما أوضح الرئيس التركي موقف تركيا الرسمي بأن العملية تهدف لإقامة “منطقة آمنة” ليقيم فيها لاجئون سوريون ممن استقبلتهم تركيا، يزيد عددهم عن 3.6 مليون شخص. وقد تم التوغل البري بدعم جوي تركي ومشاركة فصائل سورية معارضة من “الجيش الوطني السوري”، للسيطرة على مناطق تمركز وحدات مسلحة كردية، تعتبرتركيا أنها امتداد لحزب العمال الكردستاني المصنف لديها إرهابيًا، وبالتالي تخشى أن يفضي إجتيازهم لغرب نهر الفرات إلى التواصل الجغرافي بين الأكراد وإقامة مناطق حكم ذاتي داخل أراضيها. من جهتها، كانت الوحدات الكردية المعروفة بائتلاف “قوات سوريا الديمقراطية” خاضت الحرب ضد الإرهاب في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، ولم تزل تحتجز أكثر من 12000 من إرهابيي داعش. أما الموقف الرسمي السوري، فقد بيَّنه تصريح نائب وزير الخارجية السورية، أن سوريا ستدافع عن كل الأراضي السورية في حال شنت تركيا أي عملية عسكرية ولن تقبل بأي إحتلال لأرضها؛ داعيًا قوات سوريا الديمقراطية الى الحوار، ومبديًا أن “الوطن يرحب بكل أبنائه”. المواقف الدولية وفيما تفاوتت ردود الفعل الدولية بين مؤيد ومعارض، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنَّ على جميع القوات الأجنبية غير الشرعية مغادرة الأراضي السورية، مشددًا أن روسيا ستفعل الشيء نفسه إذا قررت القيادة الجديدة للبلاد أنها لا تحتاج إلى الوجود الروسي على أراضيها. بالمقابل، أشار الموقف الأمريكي بأن تركيا قد تواجه عواقب اقتصادية إذا “تجاوزت الحدود المسموح بها”، وعليها “ألا تفعل شيئا خارج من نعتبره إنسانيا”… وهو ما يثير بدوره الجدل حول الحدود المسموح بها؟ وهل أن التزام تركيا “بما يعتبر إنسانيًا” يسمح لها بتجاوز ما لا يعتبر “شرعيًا”؟ من هنا، يطرح التدخل العسكري التركي في سوريا إشكاليات سياسية معقدة قد يكون من شأنها أن تفرض غطاءًا دوليًا للتدخل التركي شمال سوريا. ففي ظل التداعيات الجيوسياسية الدولية وبمواجهة تهديدات أمنية يستعصي على القانون الدولي تكييفها؛ نلحظ أن قرارات مجلس الأمن لم تكن حاسمة سابقًا في اتخاذ قرارًا يجيز أو يمنع التدخل، كما هو حال التدخل السعودي في اليمن، مما خلق قرارات رمادية تتأرجح بين الشرعية واللاشرعية… فهل يحدد قرار مجلس الأمن المنتظر مشروعية التدخل التركي رغم عدم شرعيته؟ لارا الذيب- باحثة قانونية إستراتيجية، خاص لوكالة أنباء “رياليست”
كل الحقوق محفوظة و محمية بالقانون
رياليست عربي ©️ 2017–2025