لم يعد خافياً على احد على الاطلاق ان العالم الجديد اصبح قاب قوسين او ادنى من التبلور والظهور ليضع اسساً جديدة تحكم العالم وتنظم علاقاته الدولية وتحافظ على السلم والامن الدوليين وقائمة بشكل اساسي على عالم متعدد الاقطاب و بحيث تتلائم والمتغيرات المختلفة وفي كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والعسكرية، فقواعد العالم القديم والتي ظهرت وتطورت بعد الحرب العالمية الثانية ومانتج عنها من انقسام العالم الى شرقي وغربي او رأسمالي واشتراكي مع تواجد لمنظومة دول عدم الانحياز، و تأسيس للامم المتحدة ومجلس الامن الدولي.
وهذه المنظمات استطاعت وبشكل من الاشكال الحفاظ على التوازنات الدولية وصيانة السلم والامن الدوليين الى ان وصل العالم الى لحظات مفصلية جديدة تمثلت بتفكيك الاتحاد السوفيتي وبزوغ الولايات المتحدة الامريكية كدولة وحيدة تقود العالم اجمع وتفرض عليه سياساتها الاقتصصادية والجيوسياسية ” عالم القطب الواحد ” واتباع سياسة الثورات الملونة التي اطاحت بأغلبية انظمة الحكم في اوربا الشرقية وضم معظمها الى حلف الناتو والاتحاد الاوربي ليبدأ بعد ذلك عصر الحماقات السياسية والمغامرات العسكرية الامريكية مع بداية الالفية الثانية من القرن الحادي والعشرين وتمثلت بالتدخل العسكري المباشر واحتلال افغانستان والعراق وقيادة الثورات الملونة وما يسمى بالربيع العربي، ولم تتناسى في نفس الوقت وضع اسس وقواعد اتفاقيات اقتصادية مع مختلف دول العالم تكون فيها الكفة راجحة لصالح الولايات المتحدة الامريكية، و عسكرية تحديداً لتقويض اي محاولة من قبل الاتحاد الروسي تحديداً بإمكانية استخدام ترسانتها العسكرية الضخمة ومن ضمنها سلاحها النووي وانما كانت الولايات المتحدة تعمل وبشكل مستمر الى تقليص عدد الرؤوس النووية التي تملكها موسكو وفقاً لاتفاقيات مختلفة التسميات والاهداف وتقوم في نفس الوقت بتخفيف الاعباء المالية عن نفسها التي تنتج عن حيازة وصيانة وخدمة رؤوسها النووية وصواريخها الاستراتيجية والبعيدة المدى فكان لها ان وقعت معاهدة ستارت 3 واتفاقية الاجواء المفتوحة وغيرها من الاتفاقيات العسكرية بين الجانبين الروسي والامريكي وعدد من الدول الاخرى والتي ظاهرها هو اعطاء الثقة المتبادلة لكلا الطرفان ولكن ضمناً كانت الولايات المتحدة الامريكية تهدف من وراء ذلك تقويض اي فرصة ربما تقوم فيها روسيا الاتحادية لتعود الى الساحة الدولية كلاعب اساسي وانما لتبقى رهينة للمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقعتها وتبنت تنفيذها بحذافيرها .
لقد ساعدت الظروف الدولية الولايات المتحدة الامريكية في ارتكاب حماقات سياسية في مختلف انحاء العالم ايماناً منها بعدم استطاعة اي دولة الوقوف في وجه تلك الحماقات او حتى التنديد بها وانما كانت تمر مرور الكرام وكأن ذلك حقاً مشروعاً لدولة وحيدة تقود العالم كمجموعة شركات خاصة بها وما على تلك الدول الا ان تتلقى القرارات وتنفذ الاوامر , لكن السر في تلك ” النجاحات ” الامريكية يعود بشكل رئيسي الى غياب روسيا عن لعب دورها على الساحة الدولية نظراً لانشغالها باعادة هيكلة وبناء جميع القطاعات الاقتصادية والعسكرية واعادة ترتيب البيت الداخلي الذي ظهر عليه التأثير السلبي للغاية بعيد تفكك الاتحاد السوفياتي وخلال حكم الرئيس يلتسين لروسيا الاتحادية الذي وبكل انصاف جعل من روسيا الاتحادية العوبة بيد الغرب وارضاً خصبة مباحة لمن هب ودب لسرقة وخصخصة املاك الدولة الروسية والشعب الروسي تحت مفاهيم مختلفة اضافة الى دخول روسيا بالحرب في جمهورية الشيشان سواء كانت الحرب الاولى او الثانية وكل ذلك لم يكن ببعيد عن الايدي الامريكية الخفية التي الدور الارئيس في ذلك بشكل مباشر عبر اصحاب رؤوس الاموال او من خلال ادواتها الخليجية واستغلال الدين كوسيلة لشرذمة الداخل الروسي والتي مازالت الى يومنا هذا تظهر اّثاره السلبية في مختلف المناطق الروسية .
لنصل في نهاية المطاف الى بداية القرن الحادي والعشرين وبداية عودة موسكو الى التعافي من الاثار السلبية على جميع مفاصلها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وبدأت تعود تدريجياً الى لعب الدور المطلوب منها على الساحة الدولية والمتمثل بشكل اساسي ” اعادة التوازن الى العالم ” ولعب دورها في تحقيق وضمان السلم والامن الدوليين ، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة الامريكية ومعها دول الناتو في اوج ازدهارهم وبسط سلطتهم ونفوذهم على العالم وتقاسم المصالح الاقتصادية والسياسية وفق ماتقرره الولايات المتحدة الامريكية وباستخدام نفوذها في مجلس الامن الدولي الذي استطاعت خصخصته لنفسها ومصالحها ووفقاً لما تقتضي الحاجة وعند الطلب .
لقد ساعدت الظروف الاقتصادية الدولية والتحكم بها الولايات المتحدة الامريكية لفرض سياساتها في مختلف مناطق العالم وبشكل اساسي اعتمدت على عاملين اساسيين هما السيطرة على سوق الطاقة الذي توسع بشكل سريع وكبير للغاية وتحديداً النفط والغاز وتجارة الاسلحة وتسويقها وبيعها الى مختلف دول العالم سواء كانت تلك الدول حليفة او صديقة او حتى معادية للولايات المتحدة عبر خلق بؤر توتر ونزاعات عسكرية تحت مختلف التسميات والتي يكون فيها كل الاطراف المتنازعة بحاجة الى مختلف انواع الاسلحة وبكميات كبيرة للغاية لان السياسات الامريكية قائمة بالاساس على اشعال الحرائق ” النزاعات ” وعدم القيام باطفائها الا عند اللحظة التي تتحقق فيها مصالحها الجيوسياسية .
فالنفط الاتي من الدول النفطية الغنية وبشكل خاص الخليجية منها كان تحت سيطرة تامة من قبل الشركات الامريكية والتي تتحكم بكمياته واسعاره وفق الحماقات السياسية الامريكية وتجاوز سعر البرميل الواحد في يوم من الايام ال 150$ امريكي الامر الذي سهل كثيراً للولايات المتحدة الامريكية الامساك بالاقتصاد العالمي كله الى جانب تمتعها بالسيطرة على نظام السويفت العالمي للمعاملات البنكية في العالم ، ومع بداية الحرب على سورية ومشاركة روسيا الى جانب الجيش العربي السوري في عملية مكافحة الارهاب كانت روسيا تنظر وبكل دقة الى مصادر تمويل الارهاب ” الدولار النفطي ” لذلك كان الهدف هو العمل على تجفيف منابع تمويل الارهاب وكما رأينا فان سعر يرميل النفط هبط الى مستويات متدنية للغاية حتى تجاوز نقطة الصفر واصبح في المنطقة السالبة الامر الذي انعكس وبشكل مباشر على الوضع الاقتصادي العالمي وادى الى حصول انقسامات وان كان بعضها في العلن والقسم الاعظم منها كان في الخفاء لكن النتيجة الواضحة هي حصول ازمة مالية كبيرة لم تكن في حساب الولايات المتحدة الامريكية.
فمعظم داعمي مخططاتها ساءت احوالهم المادية وتعثرت اوضاعهم المالية فكان العجز في ميزانياتهم وكان تسارعهم الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للحصول على القروض اضافة الى فرض الضرائب على مواطنيهم التي لم يعهدوها من قبل ، فلجأت الولايات المتحدة الامريكية لتعويض هذا النقص من الدعم المالي الى الخروج من المعاهدات الدولية التي وقعتها والتزمت بها وكانت بمثابة الضامن لمستقبل الكرة الارضية والمحافظة على السلم والامن الدوليين ليس فقط بعد ان رفع الرئيس الامريكي شعار الولايات المتحدة الامريكية اولاً ولكن حتى في عهد سلفه الرئيس اوباما اذ وجد الرئيس ترامب تحديداً وادارته بان العالم اصبح عالماً جديداً ولكن لابد من الاستمرار في وضع المصالح الامريكية فوق وقبل كل شيء , ولابد من الابقاء على الدولار الامريكي كعملة وحيدة لكل التعاملات الاقتصادية الدولية فيبقى سلاح السويفت الامريكي السلاح الفعّال والمثمر في ترويض اية دولة تحاول تجاوز المصالح الامريكية .
فضمناً الولايات المتحدة الامريكية اعترفت بالعالم الجديد والمتعدد الاقطاب ولكن لاتستطيع في الوقت الراهن التصريح العلني عن ذلك لانها تحاول بناؤه وفق مصالحها وعلى مقاسها واهدافها وطموحاتها ، الا ان ذلك يتطلب المزيد من التمويل المادي تحديداً فمع فقدانها لدعم الدولار النفطي الخليجي وعدم ربحية النفط الامريكي الصخري، وجدت بان الخروج من المعاهدات والاتفاقيات الدولية المبرمة هي خير ممول لمتابعة السياسات الامريكية وكان من بين تلك الاتفاقيات التي خرجت منها الولايات المتحدة الامريكية ومن طرف واحد ووفرت لها اموال هائلة او سمحت لها باتخاذ خطوات سياسية او دبلوماسية كانت تقوضها تلك الاتفاقيات على سبيل المثال :
= الغاء اتفاقية باريس للمناخ والتي وفرت على الولايات المتحدة الامريكية مليارات الدولارات
= الانسحاب من معاهدة الامم المتحدة للسلاح والتي تقيد بيع السلاح لجهات متورطة في جرائم حرب
= الانسحاب من اليونسكو
= الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ
= منظمة الصحة العالمية بعد فشل الولايات المتحدة الامريكية في احتواء جائحة كورونا
= الاتفاق النووي الايراني سمح للولايات المتحدة الامريكية بتجميد اكثر من 100 مليار $ اضافة الى فرض عقوبات على الصادرات النفطية الايرانية
= اتفاقية الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى مع روسيا الاتحادية
= البروتوكول الاختياري في اتفاقية فينا للعام 1961 والتي سمحت للرئيس ترامب بموجبه الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل سفارة بلاده اليها
= معاهدة الصداقة مع ايران والمبرمة في عهد حكم الشاه الايراني محمد رضا بهلوي
= ثلاثة اتفاقيات مع هونغ كونغ
= عدم تمديد معاهدة ستارت 3 مع روسيا الاتحادية
= الخروج من معاهدة الاجواء المفتوحة
وغيرها الكثير الكثير وكلها تمثل مصدراً اضافيا لتمويل المشاريع الامريكية وبشكل خاص تلك الاتفاقيات والمعاهدات ذات الطابع العسكري والتي تطلق العنان لشركات تصنيع السلاح الامريكي بتحقيق ارباح خيالية وفرضه على الدول الحليفة في الناتو ، ربما تعوض تلك الاموال التي فقدتها الولايات المتحدة من تسخير الدولار النفطي الخليجي تحديداً و اضافة الى تحقيق اهدافها الجيوسياسية وخاصة في مجال اعادة انتشار القواعد العسكرية الامريكية وتحديداً في دول البلطيق اضافة الى بولندا التي تعيرها الولايات المتحدة الامريكية اهمية خاصة لقربها من الحدود الروسية اضافة الى التسهيلات الكبيرة التي تلقتها من الرئاسة البولاندية .
وكلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الامريكية في شهر نوفمبر القادم كلما ازدادت الحماقات السياسية الامريكية والاستفزازات العسكرية في مختلف النقاط الساخنة في العالم ومحاولة فتح بؤر جديدة واضرام حرائق جديدة فكانت لهم فرصة اشعال الحرب بين ارمينيا واذربيجان ومحاولة اشعال الحرب في فنزويلا والعودة الى مايسمى بالثورات الملونة في بيلاروسيا ومحاولة زعزعة الاستقرار في الداخل الروسي وفي مناطق معينة سواء كان ذلك في الشرق الاقصى الروسي او في جمهورية بشكيريا او داغستان وحتى في العاصمة موسكو او في مناطق ودول اخرى ربما تكون في المستقبل القريب جمهورية كازاخستان او اعادة احياء وافتعال الحرب في جمهورية مولدوفيا وكل ذلك ترافق باستمرار الحرب الاقتصادية مع الصين وفرض العقوبات عليها وعلى منتجاتها ومحاولة استحوازها على التكنولوجيا الصينية وتحديداً قرار الرئيس ترامب باجبار الصين على بيع موقع تيك توك الصيني الشهير وغيره ولم تترك وبكل تأكيد الولايات المتحدة الامريكية فرض عقوباتها على السيل الشمالي الثاني لنقل الغاز الروسي الى اوربا والذي سيحرر اوربا نوعاً ما من الاملاءات الامريكية في قطاع الطاقة .
في نهاية المطاف نجد بان الحماقات السياسية والاستفزازات الامريكية العسكرية لن تجعل امام دول العالم ، باستثناء الولايات المتحدة الامريكية ، الا طريقين الاول هو العمل بشكل جماعي على جعل الولايات المتحدة الامريكية الانصياع الى الصوت الدولي والجلوس حول طاولة حوار ” الاستقرار الاستراتيجي ” والذي دعت اليه مراراً روسيا ومازالت واّخره دعوة جديدة من قبل الرئيس بوتين لعقد اجتماع ال 5 +2 اي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الامن الدولي اضافة الى المانيا وايران للبحث في موضوع الاتفاق النووي الايراني , والطريق الاخر هو حماقة سياسية وعسكرية من قبل الولايات المتحدة الامريكية تحاول فيها فرض نفسها بقوة السلاح على جميع دول العالم وبحرب عالمية جديدة ستكون وبكل تأكيد الولايات المتحدة الخاسر الاكبر فيها بالرغم من رصدها لميزانية خيالية لوزارة دفاعها تتجاوز ال 700 مليار$ ، مضافا الى ذلك التوق العسكري الروسي في جميع المجالات العسكرية البرية والبحرية والجوية وحتى الفضائية، فالعالم الجديد قادم لامحالة بوجود الولايات المتحدة الامريكية التي نتمنى ان تنصت الى صوت العقل وتتعامل مع العالم الجديد كواقع جديد او بدونها من خلال حرب تقضي على الانسانية ربما .
خاص وكالة “رياليست” – د. فائز حوالة – موسكو.