القاهرة – (رياليست عربي): اتسمت العلاقات الثنائية بين كل من إيران وباكستان على مدى قرن من الزمان بالتحولات غير المستقرة، فبالرغم من أن إيران كانت أولى الدول في عملية الإعتراف بدولة باكستان مع حلول منتصف القرن العشرين فضلاً عن أن إيران كانت من أوائل الدول في استضافة البعثات الدبلوماسية الباكستانية لديها، وذلك فى عهد شاه إيران السابق/ محمد رضا بهلوي، إلا أن العلاقات بين البلدين مرت بمنعطفات كثيرة على الصعيدين السياسي والاقتصادي لاسيما منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 فبعد ما يقرب من ثلاث عقود شهدت خلالها العلاقة بين البلدين توافقاً ملحوظاً في السياسات الخارجية، خاصة إذا ما نظرنا إلى الدعم الإيراني في عهد الشاه لباكستان خلال الحربين الهندية الباكستانية خلال عام 1965 و1971، بالإضافة إلى تحالف الدولتين خلال سبعينيات القرن الماضي ضد الجماعات الإنفصالية البلوشية المتواجدة على الحدود بين البلدين والتى يبلغ طولها (900) كيلو متر مربع تقريباً، إلا أنه على النقيض اتسمت العلاقات بين البلدين بحالة من الفتور في أغلب الأحيان عقب قيام الثورة الإسلامية في إيران وذلك لاعتبارات عديدة أبرزها التحالف الباكستاني الغربي خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لتدخل بعد ذلك العلاقات بينهما إلى مرحلة توتر غير معهودة وذلك عقب الهجمات الصاروخية المتبادلة من الجانبين في عمق الأراضي الباكستانية والإيرانية.
هجمات متبادلة
قامت إيران بشن ضربات صاروخية في إحدى المناطق الواقعة داخل إقليم بلوشستان الباكستاني بالقرب من الحدود الإيرانية، وأعلنت إيران تدميرها لقاعدتين تابعتين لتنظيم “جيش العدل”، خلال تلك الضربات والتي جاءت تزامناً مع ضربات إيرانية أخرى بإقليم كردستان العراق بالإضافة إلى ضربات بسوريا، الجدير بالذكر أن تنظيم جيش العدل يعد الوريث الشرعي لتنظيم جند الله، حيث تأسس التنظيم عام 2012 إثر قيام السلطات الإيرانية بإعدام عبد الملك رقي [الزعيم السابق لتنظيم جند الله] خلال عام 2010.
قوبلت الضربات الصاروخية الإيرانية داخل باكستان باستنكار من الأخيرة، كما لم يتوقف الرد الباكستاني عند مجرد التنديد فقط بمعرفة وزارة خارجيتها، بل نتج عنها رد باكستاني حاسم لم تطل مدته أكثر من يومين حيث نفذت باكستان هي الأخرى ضربات صاروخية بعمق الأراضي الإيرانية وبالتحديد بإحدى مناطق محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية، وأفاد الجيش الباكستاني بأن تلك الضربات استهدفت مخابئ تستخدمها تنظيمات إرهابية لاسيما منظمتي [جيش تحرير بلوشستان – جبهة تحرير بلوشستان]، فيما أعلنت السلطات الإيرانية عن مقتل 7 إلى 9 أشخاص نتيجة للضربات الباكستانية.
مقدمات التوتر
- تصريحات قاسم سليماني
خلال عام 2019 صرح القائد السابق لفيلق القدس الإيراني/ قاسم سليماني خلال إحدى المؤتمرات الصحفية بمدينة بابل بمحافظة مازندران الإيرانية: بأن باكستان تقوم بتسهيل عملية تواجد التنظيمات الإرهابية المعادية لإيران لاسيما تنظيم “جيش العدل” في إقليم بلوشستان الباكستاني بل إن اتهامات سليماني حينها وصلت إلى اتهام باكستان بتلقي الأموال من السعودية لنشر الفكر المتطرف والوهابي، كما أشار أن باكستان تعمل على ذلك الأمر بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك المؤتمر هو المرة الأولى التي يظهر فيها التوتر بين الجانبين للعلن نتيجة تواجد العناصر الإرهابية على الحدود بين البلدين.
- تزايد نشاط التنظيمات الشيعية الموالية لإيران داخل باكستان
شهدت الساحة الباكستانية على مدار السنوات الأخيرة، نشاطاً ملحوظاً للجانب الإيراني داخلها، حيث استغلت إيران وجود نسبة ليست بالقليلة من الشيعة الطاجيكيين داخل باكستان، حيث تقدر نسبتهم بأكثر من 20% من سكان البلاد، وعملت إيران بصورة متواصلة على خلق وكلاء لها بباكستان ونجحت في ذلك وكان أبرزهم “لواء زينبيون” والذي تشكل عام 2012 تزامناً مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا بحجة حماية العتبات المقدسة الشيعية في العاصمة السورية دمشق، ومع مرور السنوات عاد العديد من عناصر اللواء إلى بلدهم الأصلي باكستان بطريقة سرية أو عن طريق التهريب ما قد يسبب أزمات مستقبلية داخل باكستان في حال تفاقمت الأزمة مع طهران.
- التحالف الباكستاني مع القوى الغربية
تتميز السياسة الخارجية الباكستانية بالتوافق النسبي مع الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وتحديداً منذ الإطاحة برئيس الوزراء الباكستانى السابق/ عمران خان، وهو ما يسبب إزعاجاً للجارة إيران، فعلى الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت توقيع إتفاق مهم بين البلدين وهو المعروف باتفاق خط أنابيب الغاز بين إيران وباكستان والذي تم توقيعه عام 2012، إلا أن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الإتفاق النووي مع إيران عام 2018، فضلاً عن وضع مجموعة العمل المالي لإيران على قائمتها السوداء عام 2022، منع تنفيذ المشروع بين البلدين وأدى إلى تراجع باكستان بسبب غياب آليات الدفع والقنوات البنكية الإعتيادية نتيجة العقوبات الأمريكية، ونتج عنه استياء طهران من التراجع الباكستاني وألمحت باحتمالية فرض عقوبات عليها.
تداعيات جيوسياسية
- تهديد عقيدة السلم الصينية [ Pax Sinica ]
لاشك أن التوترات الأخيرة بين إيران وباكستان تشكل اختباراً حقيقياً للصين ومشروعها المتمثل في مبادرة الحزام والطريق، حيث يمر طريق الحرير الصيني عبر الأراضي الباكستانية والإيرانية، لاسيما في مناطق تواجد السكان البلوش بالدولتين [إقليم بلوشستان الباكستاني – محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية] وذلك عبر مينائي جوادر الباكستاني وتشابهار الإيراني وهما أيضاً المينائين الذي يمر من خلالهما نسبة كبيرة من حجم التجارة المشتركة بين البلدين، والجدير بالذكر أن مناطق تواجد البلوش في باكستان توجد بها مشروعات متعلقة بالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي يعد أحد أجزاء مشروع طريق الحرير الصيني، كما تتعرض تلك المشروعات في بعض الأحيان للإستهداف من التنظيمات الإنفصالية البلوشية، وكثيراً ما سعت الصين لتصفير المشكلات بعدد من البلدان التي يمر بها طريق الحرير، ما دفعها لقيادة مفاوضات الوساطة بين إيران والسعودية، فضلاً عن قيامها بالسعي وراء زيادة عدد الدول الأعضاء بمجموعة البريكس من خلال ضم عدة دول من بينها (إيران – مصر – السعودية – الإمارات)، ولعل ذلك يفسر أيضاً قيام الجانب الصيني بالإسراع في عرض الوساطة بين إيران وباكستان عقب اندلاع الأزمة مباشرة.
- تزايد حالة الإحتقان بين إيران ودول المنطقة
شهدت الفترة القصيرة التي سبقت الحرب داخل قطاع غزة وما بعدها، تواصلاً فعالاً بين إيران وبعض من دول المنطقة العربية ومن ضمنها مصر، حيث اشتملت تلك التواصلات على خطوات فعلية لإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين لأول مرة منذ عام 1979، فقد إلتقى رئيسا الدولتين لأول مرة منذ أكثر من 10 سنوات حتى وإن كان ذلك على هامش إحدى المؤتمرات الإقليمية، كما أدت فترة الحرب في غزة مؤخراً لتكثيف خطوط الإتصال بين وزيري خارجية الدولتين بصورة غير مسبوقة، كل هذا يأتي مع الأنباء السابق انتشارها بشأن وجود محاولات وساطة إقليمية وتحديداً من الجانبين العماني والعراقي لإعادة تطبيع العلاقات بين مصر وإيران.
إلا أن كل تلك الجهود المبذولة مؤخراً لإعادة العلاقات بين البلدين، قد تتأثر سلباً بالتوترات الأخيرة بين إيران وباكستان خاصة وأن الجانب الإيراني هو من بدأ بالاعتداء على الجارة باكستان، وتزامن ذلك مع هجمات صاروخية إيرانية أخرى بكل من إقليم كردستان العراق وسوريا، وهو ما أدانته جامعة الدول العربية بالفعل وحملت إيران مسؤولية تبعات تلك الهجمات، ومن المحتمل أن تلك الهجمات الإيرانية مؤخراً قد تكون سببت بعض المخاوف لدى الجانب المصري من الإسراع باستكمال مفاوضات تطبيع العلاقات مع إيران، ولاسيما أن القاهرة تضع في اعتبارها مبدأ الحد من التدخل الإيراني في شؤون دول المنطقة كشرط أساسي للمضي قدماً في إعادة العلاقات.
على الجانب الآخر، فقد تزداد العلاقات توتراً بين إيران ودول الخليج العربي ولاسيما السعودية والإمارات حال اتسع نطاق الأزمة بين إيران وباكستان، حيث تعد السعودية تحديداً أحد أكثر الدول ارتباطاً بباكستان على كافة الأصعدة، ولاسيما في نطاق الإقتصاد والطاقة، كما شهدت الآونة الأخيرة تزايداً ملحوظاً في حجم الاستثمارات السعودية والإماراتية داخل باكستان، بالإضافة إلى ذلك فقد يؤدي سيناريو الهجمات المتبادلة على الحدود بين إيران وباكستان، إلى إعادة ترتيب السعودية والإمارات تحديداً لعلاقاتهم مع إيران وخاصة الإمارات التى تمر بنزاع حدودي مماثل مع إيران ولكن على الصعيد السياسي بشأن قضية ملكية الجزر الثلاث [طنب الكبرى – طنب الصغرى – أبوموسى] والتي نتج على إثرها حدوث إنتقاد إيراني نادر للسياسة الخارجية الروسية لوجود تقارب نسبي فى هذا الشأن مع الجانب الإماراتي.
ختاماً، من الممكن اعتبار أن الهجوم الإيراني على إحدى المناطق داخل الأراضى الباكستانية، في الأساس يهدف إلى العمل على رد الاعتبار أمام الداخل الإيراني بالدرجة الأولى عقب تفجيرات مدينة كرمان الإيرانية، والتي أشارت التحقيقات الإيرانية بشأنها بتسلل بعض العناصر المنفذة لها من باكستان إلى إيران، فضلاً عن ذلك فتلك الهجمات هي رسالة في الأساس لإسرائيل وللولايات المتحدة مفادها إثبات القدرة الصاروخية الإيرانية، والتي وإن لم تستعملها إيران بشكل مباشر ضد مصالح إسرائيل والولايات المتحدة فإنها قادرة على توجيه وكلائها بالمنطقة لأداء هذا الغرض.
على الجانب المقابل، فإن الرد الباكستاني السريع كان ضرورياً لإظهار قوة الردع الباكستانية، وذلك في ظل العديد من التحديات التي تواجهها باكستان على الصعيد الأمني داخلياً وخارجياً بسبب نشاط الجماعات الانفصالية المسلحة المعادية لها، والمتواجدة أيضاً بدول جوار باكستان سواء كانت في الهند أو إيران أو أفغانستان، لكن ورغم ذلك يظل السيناريو المتوقع لمسار العلاقات بين الجانبين في الفترة المقبلة هو الإكتفاء بعملية الرد الهجومي المتبادل مؤخراً مع عودة العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين وإن كان من المحتمل أن تطغى عليها حالة من الحذر المشترك، وما يدعم تلك الفرضية هو الأزمات الإقتصادية والسياسية التى يعيشها البلدان فضلاً عن أن باكستان مقبلة على معترك انتخابي قادم، أما إيران فلن تكون قادرة على فتح جبهات صراع أخرى في الوقت الحالي مع استمرار الحرب في غزة والتي طالت تبعاتها كافة دول المنطقة.
المصادر
1- قاسم سلیمانی: به گروه تروریستی پاکستان که از عربستان پول گرفته حمله میکنیم، يورو نيوز، 21/2/2019، https://2u.pw/5qAyyVc
2- توتر خطير.. باكستان تؤكد “نفذنا ضربات داخل إيران”، العربية، 18/1/2024، https://2u.pw/vYBmKWd
3- From friend to foe: What caused the Iran-Pakistan conflict?,The Business Standard, 18/1/2024, https://2u.pw/7VPcobT
4- Iran’s attack on Pakistan shows how close the Middle East is to war, The Spectator,17/1/2024, https://2u.pw/z7Qhlt0
خاص وكالة رياليست – إسلام عبد المجيد – باحث سياسي – مصر.