يبدو ان جوانب التوتر السعودي الإيراني قد زادت حدتها عقب اتخاذ السعودية قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران على اثر تعرض السفارة السعودية في طهران لهجوم من متشددين وقنصليتها للحرق، لذلك تأتي هذه التوترات بمسوغات ومبررات من قبل الطرفين، فأغلب ما تتداوله وسائل الاعلام في البلدين هو جزء من الحقيقة، وللأسف ان مألات هذا التقاطع والخلاف له من الأثار والتداعيات الخطيرة التي تشمل المنطقة والاقليم ككل، مما يقف صدا في وجه أي تقارب او توافق او انسجام في المسارات السياسية بين الجانبين حول القضايا والمشاريع المشتركة التي تنعكس على أمن واستقرار المنطقة والاقليم بمجمله.
ولتسليط الضوء على جذور الأزمة، لابد ان تحدد الغاية من تناولها بغية تفكيك المبررات السياسية والاقتصادية لها ومحاولة تفسيرها وتحليل ابعاد كل طرف منها، فقد اختلفت الاستراتيجية السعودية مع نظيرتها الإيرانية عن ما كان سائداً منذ عقود، حيث كانت قبل الثورة الإسلامية الإيرانية قائمة على التعاون المشترك في جوانب حفظ الاستقرار، وكلا الطرفين كانا ينتميان للمعسكر الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية خلال الحرب الباردة، رابطهم العداء المشترك للاتحاد السوفيتي رغم تقاطع المصالح حول طموح ايران آنذاك في السيطرة على السواحل الشرقية للخليج والهيمنة على الجزر الإماراتية الثلاث عام 1971م في أعقاب انسحاب القوات البريطانية منها اواخر ستينات القرن الماضي.
العلاقات السعودية الإيرانية تعرضت لمحطات مهمة عقب إعلان الجمهورية الإسلامية الإيرانية والإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979م، والذي ترتب علية جملة من التحولات الداخلية والإقليمية أهمها على الإطلاق خروج إيران بنظامه السياسي الثيوقراطي الجديد من استقطابات الحرب الباردة وإعلان إيران بهذا الاطار عداء مطلق للولايات المتحدة الأمريكية، تبعه اتهام الأنظمة العربية في المنطقة بالتبعية للغرب, هذا دفع النظام السياسي الإيراني الديني الحاكم في طهران بتحديد استراتيجية محدده في التعامل مع اغلب قضايا المنطقة ، بما لا يخرج عن الرؤية الفكرية لصانع القرار السياسي الإيراني، التي شكلت مرتكز في سياسته الخارجية ضد هيمنه القوى الإستعمارية في المنطقة.
هذا الى جانب تظافر كل العوامل التي زادت في تفاعلها عربيا وإقليميا وأدت الى إشتعال الحرب العراقية الإيرانية، وأدت بطبيعة الحال إلى تكاتف الشارع العربي في الوقوف مع العراق في هذه الحرب التي استمرت لثماني سنوات عجاف، بعد وقف اطلاق النار في الثامن من أغسطس عام 1988عادت للعلاقات السعودية الإيرانية بعض ملامح الدفء وتبادل التمثيل الدبلوماسي خاصة في أعقاب إنسجام الموقف السياسي بينهما من دخول القوات العراقية للكويت في عام 1990، فقد ساهم وصول التيار الإصلاحي للنظام السياسي الإيراني ممثلا بالرئيس محمد خاتمي لسدة الحكم ، إلى تلطيف الأجواء مع المملكة السعودية، فقد جاءت توجهاته نحو الانفتاح على دول الجوار والعالم برؤية سياسية تفاعلية تنسجم مع المتغيرات اكثر من ما قبلها تعقيداً (الإمام الخميني – مرجعية التيار المحافظ المتشدد).
عودة العلاقات السعودية الإيرانية الى التوتر بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، و لها مبرراتها التي تجعل التقاطع السعودي الإيراني يتكاثر مع السياسات الإيرانية الداعمة للفصائل الطائفية الشيعية وتمكينها السلطة الفعلية، وإستبعاد المكون السني من أي دور سياسي في النظام الحاكم للعراق، ودعم ايران لكل ما من شأنه تفكيك البنية المجتمعية العراقية، لذلك جاءت المؤشرات الميدانية في هذا الجانب وإزدادت حدتها في أعقاب وصول الرئيس أحمدي نجاد ممثلا للتيار الأصولي المتشدد إلى رأس النظام السياسي الحاكم في طهران عام 2005. فقد بدا واضحا تقاطع مصالح وأهداف السعودية وإيران كأطراف فاعلين في الإقليم الشرق أوسطي، وقد شهدت سياساتهم تحولًا عميقا تجاه مختلف القضايا المشتركة، بحيث تنسجم بشكل او بآخر مع المتغير الإستراتيجي الكبير الذي طرأ على المنطقة عام 2003م, وأوكد في هذا الجانب ان لكل طرف مسوغاته ومبرراته في سلوكه السياسي تجاه احتلال العراق عام 2003 التحول الابرز في المنطقة والعالم.
هذا وقد شكلت هذه المتغيرات في مجملها نقاط توتر في العلاقات السعودية الإيرانية، بدءا من الإستراتيجية الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن غير المقبولة سعوديا ً، وتفاوت مصالح الطرفين في مواجهة الثورات العربية وأنماط الصراع الذي نتج بشكل حتمي عن هذه المتغيرات والتي اجتاحت العديد من الأقطار العربية، لذلك جاءت مواقف النظامين السياسيين من هذه الوقائع والأحداث محددة لإعتبارات جيوسياسية متقاطعة بين عدم قبول تركيبة النظام الإقليمي إيرانيًا, والعمل على إستدامة الوضع القائم في المنطقة سعودياً.
هذا إضافة الى مساعي إيران في إستثمار قوتها الناعمة وإستئناف سياسات بناء ركائز نفوذ سياسي وإقتصادي في مجتمعات الدول المجاورة إقليميا وتحفيز المكونات العربية من الطائفة الشيعية فكرياً بدعم طموحاتهم وأنشطتهم في مواجهة أنظمتهم الحاكمة والتغول الأمريكي الذي استباح شعوب المنطقة، كان هذا المعلن من هذه الإستراتيجية الإيرانية في جميع حقب ومراحل الحكم، وجاءت تحت مسمى تصدير الثورة، مما يفسر ما استطاعت إيران ان تحققه من نقاط قوة شاركت بتحقيقها كافة مؤسسات النظام السياسي الإيراني، خاصة في جانب حضورها في ادارة انماط الصراع الإقليمي بشكل مباشر وغير مباشر، وهذا ما لا يمكن اخفائه.
الجانب الآخر من أطراف الصراع الإقليمي بكافة أنماطه يعطي للرأي العام مسوغاته ومبرراته السياسية التي تجعله يقف في المعسكر النقيض لإستراتيجية إيران وبنقاط الصدام والعداء والمواجهة غير المباشرة ممثلة بالولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، الذي يتهم إيران بممارسة الإرهاب و دعمه وممارسة سلوكيات مزعزعة لإستقرار المنطقة والتحكم بعدة عواصم عربية، لذلك جاءت سياسات الولايات المتحدة تدعم كل ما من شأنه زيادة التوتر والتصعيد في المنطقة وتدفع بشركائها الإقليميين نحو مزيدا من العداء وتحمل أعباء الدفاع عن أمن شعوبها ومصالحها من خطر إيران وسلوكه في دول الجوار.
- لذلك يثير فضولي الإجابة على السؤال المحوري لهذا المقال حول إستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة : وما الذي تريده الولايات المتحدة من السعودية وإيران؟
أعتقد ان ما تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الجانب هو إنشاء توازن القوى بين السعودية وإيران بعد ان أسقطت العراق من حساباتها كقوة كانت سائدة في المنطقة، خاصة وان جميع موازين القوى الإقليمية في العالم وفي إطار ترتيبات أمن اقليمي جماعي يرتكز على الدولة الوطنية، بينما ما سعت وتأمل ان تحققه الولايات المتحدة في هذا التوازن في المنطقة فإنه يقوم على تعزيز النهج الطائفي وتفعيل جوانب الصراع بين معسكر السنة ومعسكر الشيعة، وتبني الإدارات الأمريكية السابقة والحالية سردية طائفية للصراعات السياسية في المنطقة ولهذا المشهد صور ووقائع عديدة نجحت قوى كثيرة لتأجيجها بمقاربة أمريكية تعمق التخوف السعودي من العلاقة مع إيران التي رسمت ملامح صورها كدولة لا تحترم القواعد والأعراف والإتفاقيات الدبلوماسية.
رغم التصعيد القائم والمستمر في العلاقات السعودية الإيرانية بفضل قيادات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، الا ان حدوده تبقى مضبوطة بقيود دولية وإقليمية يصعب تجاوزها، فضلا على ان الرياض وطهران لا ترغبان في دخول مواجهة لا تحتمل تبعاتها وأعبائها، لذلك وفي توصيف المحتمل حول هذه العلاقات ما يمكن تسليط الضوء عليه، ما تضمنته تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في جانب تخفيف حدة التوتر والمواجهة بينهما، بالإضافة إلى الرسائل السعودية التي حملها رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان لنظيره الإيراني و قد جاءت ضمن مسار الرؤية السياسية الجديدة في تخفيف التصعيد والتوتر و فتح آفاق الحوار بين الطرفين حول الملفات الشائكة والقضايا المشتركة، خاصة وان الجانب الإيراني قد استقبل هذه الرسائل بالترحيب رغم رفض إيران للعديد من المسارات التي تنفذها السعودية على أرض الواقع في محور الحلف البحري الذي تدعمه السعودية لحماية أمن الخليج وموقفها من الأزمة السورية وحربها على الحوثيين في اليمن.
التحول العميق في السياسة الخارجية السعودية حول العديد من الملفات استقبل من أطراف دوليين بشيء من التفائل، خاصة وأن ولي العهد السعودي قد أكد في لقائه وحواره مع برنامج (60 دقيقة) لقناة سي بي اس الأمريكية قبل أسبوعين تقريبا بأن الحل السياسي السلمي أفضل بكثير من الحل العسكري، ليظهر بهذا التوجه تغيير واضح في الخطاب السياسي السعودي والإبتعاد عن التشدد والسعي نحو الإنفتاح على أي مبادرة للحوار مع أطراف النزاع في المنطقة، للوصول الى نقاط توافق تساعد في معالجة الأزمات القائمة والبحث عن قواسم مشتركة.
د. اياد المجالي- مدير المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والإقتصادية (فرع الشرق الأوسط)، خاص لوكالة أنباء “رياليست”