أصبحت المنطقة القطبية الشمالية – المحيط المتجمد الشمالي والأراضي المجاورة للاتحاد الروسي، والتي تصل مساحتها إلى ثلاثة أضعاف مساحة قارة أوروبا – جبهة صراع بين الاتحاد الروسي والغرب منذ عام 2010 ، و في الوقت نفسه، أصبحت مسرحا مهما للسياسة الخارجية والأمنية الروسية. زادت أهمية هذه المنطقة نتيجة لتغير المناخ – زيادة معدل حرارة الأرض و ذوبان الجليد- والذي أعطى فرصًا أكبر للملاحة في المنطقة وأيضا أدى إلى سهولة عملية التعدين، وخاصة في مجال الطاقة.
في هذا الصدد أصبح تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة أكثر أهمية من ذي قبلففي عام 2015 استولت روسيا على جزء كبير من الجرف القاري في القطب الشمالي،مما دفع الدول الأخرى أن تقدم على نفس الخطوة،فهناك منافسة قوية على حقوق السيادة على هذه المنطقة الغنية جدا بالنفط و الغاز والثروة السمكية. طبقا للتقديرات الأمريكيةيوجد في الجزء الجنوبي من القطب الشمالي حوالي 15% من احتياطات النفط في العالم و حوالي 30% من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم. [1]
أما بالنسبة للتقديرات الروسية، فإن حوالي 60 % من احتياطيات روسيا النفطية توجد في القطب الشمالي، و 90 % من احتياطاتها من الغاز والكروم و المنجنيز و تصل احتياطيات روسيا من الذهب في هذه المنطقة إلى حوالي 40% . [2] بالإضافة إلى الثروة السمكية الغير محدودة،فذوبان الجليد في القطب الشمالي نتيجةارتفاع درجة حرارة الأرض أدى إلى فتح ممرات مائية تستخدم من أجل النقل البحري،فطريق البحر الشمالي من مورمانسك إلى بتروبافلوفسك كامتشاتسكي و منها إلى فلاديفوستوك وناخودكا هو أقصر ممر مائي من شرق آسيا إلى أوروبا الغربية.
في عام 1989 بدأت ثمانِ دول في القطب الشمالي(كندا والدانمارك وفنلندا وآيسلندا والنرويج والاتحاد السوفيتي والسويد والولايات المتحدة) العمل على “استراتيجية لحماية البيئة في القطب الشمالي”،و سميت بـ”المبادرة الفنلندية”، وصدقت روسيا (بدلاً من الاتحاد السوفيتي) على الوثيقة في عام 1991.
وفي عام 1996وبمبادرة من فنلندا أيضا تم إنشاء “مجلس القطب الشمالي”هو منتدى حكومي دولي يشجع التعاون والتنسيق والتفاعل بين دول القطب الشمالي، و خاصة فيما يتعلق بالتنمية المستدامة وحماية البيئة في القطب الشمالي،كان مؤسسوها هم (روسيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية والنرويج والسويد والدنمارك وفنلندا وأيسلندا)،سرعان ما تم تقديم طلبات للانضمام لمنطقة القطب الشمالي من قبل الدول التي ليس لها علاقة جغرافية بالمحيط المتجمد الشمالي،وحاليا هناك 21 دولة مرتبطة بالقطب الشماليكلهم أعضاء في مجلس القطب الشمالي، هناك 13 دولة مراقبة (بريطانيا العظمى وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وهولندا وبولندا وفرنسا وسويسرا، الصين والهند وجمهورية كوريا واليابان وسنغافورة).
الدول التي تسيطر بأشكال مختلفة على منطقة القطب الشمالي هي الولايات المتحدة، الدنمارك، النرويج، كندا و روسيا،و هذه الدول ما عدا روسيا أعضاء في حلف الناتو أو شركاء استراتيجيين له،ومن أجل تعزيز سيادة البلدان المؤسسة لمجلس القطب الشمالي في المنطقة القطبية الشمالية تم تشكيل استراتيجيات ومبادئ توجيهية في هذا الخصوص، فلأول مرة تم تطوير الاستراتيجية الوطنية للقطب الشمالي من قبل النرويج،وفي عام 2006 ، تم نشر “استراتيجية الحكومة في المناطق الشمالية” ، و في عام 2011 تمت الموافقة على وثيقة جديدة، حيث تم إعلان القطب الشمالي كأحد الأولويات الرئيسية لتنمية البلاد.
في آب/ أغسطس 2011 ، تم اعتماد “استراتيجية مملكة الدنمارك في القطب الشمالي للفترة 2011-2020”. خصوصا في مجال الطاقة والتعدين، و تطوير التجارة و السياحة، و الشحن، و التعليم و العلوم، و الحفاظ على البيئة الطبيعية،و من خلال هذه الاستراتيجية تم إيلاء اهتمام خاص لجرينلاند.
أما الولايات المتحدة
وفي شباط| فبراير 2014، أقرت واشنطنماعرف بـ”استراتيجية الولايات المتحدة الوطنية لمنطقة القطب الشمالي”، وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تعزيز مصالح الولايات المتحدة في مجال الأمن القومي ، كما توضح الوثيقة أن سياسة الولايات المتحدة في القطب الشمالي تهدف إلى تعزيز هيمنتها في هذه المنطقة و كذلك تقييد نمو النفوذ الروسي في المنطقة.
أما كندا فقد حددت في وثيقة “الاستراتيجية الشمالية لكندا،شمالنا ، تراثنا ، مستقبلنا “(2009) مباديء رئيسية لها، منها(ممارسة سيادة كندا في القطب الشمالي ؛ تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية ؛ حماية البيئة في الشمال ؛ تطوير الإدارة لصالح حقوق المجتمع المحلي)ـأيضا بالنسبة لبعض الدول الأوروبية الكبرى(فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) الذين يتمتعون بصفة مراقب، لديهم استراتيجيات خاصة باستغلال القطب الشمالي خصوصا في مجال النقل البحري و الدراسات البيئية.
هناك أيضا دور واضح للدول الآسيوية التي تتمتع بصفة مراقب في مجلس القطب الشمالي،و هذا الدور آخذ في الازدياد – الصين والهند وجمهورية كوريا واليابان وسنغافورة.
فالصين فقط لديها استراتيجية القطب الشمالي الخاصة بها،وفي 26 كانون الثاني| يناير 2018 ، ظهر الكتاب الأبيض الخاص بالقطب الشمالي، في هذا الكتاب صاغت من خلاله بكين أهدافًا سياسية ومبادئ أساسية لأنشطة البلاد فيما يتعلق بدول القطب الشمالي لفترة طويلة،أما أولويات الهند في منطقة القطب الشمالي فتتمثل في توسيع ليس فقط التعاون الاقتصادي والعلمي ، ولكن أيضًا التعاون السياسي والاستراتيجي مع “الشماليين” على أساس ثنائي،وأما استراتيجية كوريا الجنوبية في القطب الشمالي فتهدفإلى جذب مجموعة واسعة من هياكل الإدارة و الأعمال لتنفيذ مشاريع استثمارية في القطب الشمالي،بينما اهتمت اليابان بامكانية استخدام الشركات الصغيرة والمتوسطة وإجراء البحوث العلمية البحرية في القطب الشمالي فيما وضعتسنغافورة نفسها في القطب الشمالي باعتبارها واحدة من القوى البحرية التجارية الرائدة في العالم.
و جدير بالذكر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن في نيسان/ أبريل عام 2019 عن خطط لاعتماد استراتيجية جديدة في المستقبل القريب لتطوير القطب الشمالي الروسي حتى عام 2035.[3]
تعلم روسيا و غيرها من القوى المهتمة بالقطب الشمالي، أنه سيتم تقسيم الموارد الطبيعية في منطقة القطب الشمالي طبقا لعدد القوات البحرية و الصاروخية لكل دولة في هذه المنطقة، لذلك تعمل دول الناتو وحلفاؤها الأمريكيون في الشمال على تشكيل قوتهم العسكرية في المنطقة القطبية الشمالية بنشاط،حيث يقومون بإنشاء وحدات جديدة لأغراض القطب الشمالي ، وإجراء مناورات عسكرية واسعة النطاق.
ويتضح من ذلك نمو النشاط العسكري والسياسي في القطب الشمالي من جانب كل من كندا والسويد والنرويج وفنلندا والدنمارك،فتسعى “أوتاوا” باستمرار إلى عسكرة المنطقة القطبية الشمالية،فتم البدء في بناء مركز تدريب خاص للجيش لإعداد الأفراد العسكريين للعمليات في القطب الشمالي كما تسعىإلى إنشاء أسطول خاص من سفن الدوريات للعمل “الأمني” في منطقة الأراضي المتنازع عليها مع روسيا.
كما اُجرت مناورات عسكرية على أراضي السويد بشكل سنوي، حيث تتدرب وحدات القوات والعسكريون على “المهارات القتالية في ظروف الشمال الأقصى”،في حين تخصص بريطانيا حاملات طائرات وطيران عسكري للمشاركة في المناورات العسكرية،وتعمل الدنمارك على تعزيز وجودها العسكري في جرينلاند، في قاعدة ثول الجوية، وتخطط لنشر وحدة عسكرية وقوات القيادة والسيطرة في القطب الشمالي،أما النرويج فقد اشترت 48 طائرة مقاتلة من طراز لوكهيد F-35 للقيام بدوريات في المحيط المتجمد الشمالي.
بالقرب من الحدود مع روسيا، وضعت الولايات المتحدة رادارًا مضادًا للصواريخ، مما يسمح بتتبع إطلاق الصواريخ الروسية،في حين أن روسيا تعزز قدراتها الدفاعية في الشمال منذ عام 2008، كما تنص خطة مجلس الأمن الروسي على إقامة أكثر من 200 موقع عسكري وعشرة مطارات، ونشر ما يصل إلى 20 منظومة للدفاع الجوي خلف الدائرة القطبية الشمالية حتى عام 2020،بالإضافة للمناورات العسكرية الدائمة في هذه المنطقة والتي تهدد السويد بشكل خاص.
وهذا الخطر أكده فلاديمير بوتين في مقابلة مع صحيفة “ايل كورييري ديلا سيرا” الإيطالية في عام 2015 “القطب الشمالي يمثل خطر أن يصبح منطقة مواجهة مع الولايات المتحدة و حلف الناتو،جميع جيران روسيا في أقصى الشمال – الولايات المتحدة وكندا والنرويج والدنمارك – هم أعضاء في الناتو،قبالة سواحل النرويج، غواصات أمريكية تعمل بالطاقة النووية بصواريخ بالستية قادرة على ضرب أهداف في وسط روسيا في بضع دقائق”. [4]
أما في الفترة الأخيرة فكانت هناك انتقادات أمريكية واضحة للسلوكيات الروسية في منطقة القطب الشمالي وحتى طالت هذه الانتقادات الصين، التي تشارك روسيا مشاريع ضخمة في هذه المنطقة. [5] .
فروسيا تمنع مرور أي سفينة تابعة لدولة أخرى في مياه القطب الشمالي دون إذن مسبق منها، كما تشترط على السفن التي تسمح بمرورها أن يتواجد عسكريين روس على متنها،في حين أن الولايات المتحدة منذ بداية العام الجاري تطالب بجعل الممر البحري الروسي في القطب الشمالي ممرا دوليا،وهذا لن توافق عليه روسيا بأي حاللأن هذا الأمر مرتبط بالسيادة الروسية في هذه المنطقة، بالإضافة إلى أن الأمور مرتبطة بالصراع الأميركي الروسي في السنوات الأخيرة،فالصراع على هذه المنطقة في السنوات القليلة المقبلة سيكون على أشده، نظرا للثراوت التي بها و نظرا لأن الحيز الجغرافي لها يجمع الاتحاد الروسيبكل أعدائها في حلف الناتوو جمهورية الصين الشعبية .
مصادر:
- الولايات المتحدة تعترف بتفوق روسيا في النضال من أجل التفوق في القطب الشمالي. نيوز رو. 9 يوليو
- سفيتوسلاف كنيازيف. عزل القطب الشمالي – تقويض بقاء روسيا. كولوكول روسيا. 15 مايو
المصدر الأصلي للموضوع: معهد أوتاوا لدراسات الشرق الأدنى