بغداد – (رياليست عربي): لم تعد الثقافة مجرد تعبير عن هوية الشعوب، بل أصبحت أداة استراتيجية تستخدمها الدول في بناء علاقاتها الدولية.
حين تدرك الدول أن قوتها لا تكمن فقط في اقتصادها وجيشها، بل أيضًا في قدرتها على التأثير الثقافي، فإنها تبدأ في صياغة سياسات ثقافية تضمن لها حضورًا فاعلًا في المشهد العالمي. هذه السياسات لا تقتصر على الحفاظ على التراث الوطني، بل تمتد إلى الترويج له وتصديره كوسيلة لتعزيز مكانة الدولة وتقوية نفوذها الناعم.
السياسات الثقافية كجسر للتواصل بين الأمم
حين تنخرط الدول في برامج ثقافية دولية، تتاح لها فرص لتعزيز الحوار مع الشعوب الأخرى، فتبدأ الجسور تتشكل من خلال الفنون والآداب والتعليم والتبادل الأكاديمي، مما يساعد على تلاشي الصور النمطية وتحطيم الحواجز النفسية التي تحول دون التقارب الحقيقي.
على سبيل المثال، فرنسا تعتمد على الفرنكوفونية كأداة دبلوماسية لتعزيز نفوذها، حيث تجمع الدول الناطقة بالفرنسية ضمن إطار تعاون ثقافي وتعليمي واقتصادي. كما أن معاهد “أليانس فرانسيز” المنتشرة حول العالم تعمل على نشر اللغة والثقافة الفرنسية، مما يضمن لها تأثيرًا طويل الأمد.
أما المملكة المتحدة، فتستخدم المجلس الثقافي البريطاني (British Council) لنشر الثقافة الإنجليزية عبر التعليم والفعاليات الثقافية، كما أن انتشار اللغة الإنجليزية في الأوساط الأكاديمية والتجارية يمنح بريطانيا تأثيرًا عالميًا مستدامًا.
أدوات التأثير الثقافي في العلاقات الدولية
لا تكتفي الدول بحضورها الدبلوماسي التقليدي، بل تلجأ إلى أدوات أكثر تأثيرًا مثل دعم الأفلام والمهرجانات السينمائية، تقديم منح دراسية، والاستثمار في الصناعات الإبداعية التي تجعل ثقافتها جزءًا من المشهد اليومي لشعوب أخرى.
أحد أبرز الأمثلة هو الولايات المتحدة الأمريكية، التي نجحت في نشر قيمها عالميًا عبر السينما والموسيقى والإعلام. أفلام هوليوود لم تكن مجرد أعمال ترفيهية، بل أصبحت وسيلة لصياغة تصورات العالم عن الحرية والديمقراطية والقيم الاستهلاكية الأمريكية. كما أن دعمها لبرامج مثل “فولبرايت” للتبادل الأكاديمي يعزز مكانتها كوجهة علمية وثقافية.
أما الصين، فقد أطلقت استراتيجية القوة الناعمة الخاصة بها عبر معاهد كونفوشيوس المنتشرة عالميًا، والتي تعمل على نشر اللغة والثقافة الصينية. كما أن استثماراتها في الأفلام والفنون والمهرجانات الثقافية تُظهر كيف تستخدم بكين الثقافة كأداة لبناء صورتها العالمية وكسب الحلفاء.
التنافس الثقافي بين الدول وصراع النفوذ الناعم
في عالم السياسة الدولية، لا يقتصر التنافس على القوة العسكرية والاقتصادية، بل يمتد ليشمل التأثير الثقافي، الذي أصبح رهانًا أساسيًا في الصراع على النفوذ. بعض الدول تنجح في جعل ثقافتها نموذجًا جذابًا يسعى الآخرون لتبنيه، بينما تفشل دول أخرى في الحفاظ على خصوصيتها بسبب غياب استراتيجيات واضحة تضمن لها مكانة في هذا السباق الثقافي.
على سبيل المثال، كوريا الجنوبية استطاعت أن تجعل من ثقافتها الشعبية أداة دبلوماسية فعالة عبر الموجة الكورية (Hallyu)، حيث انتشرت موسيقى K-Pop والمسلسلات الكورية عالميًا، مما ساهم في تعزيز اقتصادها السياحي وتحسين علاقاتها الدبلوماسية
.
وبالمثل، اليابان جعلت من الأنمي والمانغا أدوات لنشر ثقافتها عالميًا، مما دفع العديد من الشباب حول العالم إلى تعلم اليابانية والانخراط في الثقافة اليابانية، وهو ما ساعد في تحسين صورتها الدولية.
كيف يمكن تحقيق التوازن في السياسات الثقافية؟
التوازن هو المفتاح الذي يجعل السياسات الثقافية أكثر فاعلية. لا ينبغي أن تقتصر هذه السياسات على الترويج للثقافة الوطنية فقط، بل يجب أن تتضمن أيضًا الانفتاح على الثقافات الأخرى، بما يسمح بالتفاعل المتبادل الذي يثري المشهد الثقافي الداخلي ويجنب الدولة الوقوع في فخ العزلة أو الانغلاق.
كذلك، لا يمكن فصل السياسات الثقافية عن باقي استراتيجيات الدولة، فهي يجب أن تكون جزءًا من رؤية متكاملة تعزز القوة الناعمة للدولة وتوظفها لخدمة مصالحها الاستراتيجية، مثلما تفعل الدول الكبرى التي تستخدم الثقافة كأداة تأثير طويلة الأمد.
خاتمة تأملية
العلاقات الدولية لم تعد تُحسم فقط في قاعات المفاوضات السياسية، بل أصبحت تتشكل أيضًا في دور السينما، المسارح، الجامعات، ومراكز الأبحاث. الدولة التي تفهم أن تأثيرها لا يتوقف عند حدودها الجغرافية، بل يمتد عبر ثقافتها، هي الدولة التي تستطيع أن تترك بصمة دائمة في وعي الشعوب الأخرى. لذلك، فإن مستقبل العلاقات الدولية لن يكون فقط لمن يمتلك القوة الاقتصادية والعسكرية، بل لمن يستطيع أن يجعل ثقافته مصدر إلهام وتأثير عالمي.
خاص وكالة رياليست – عبدالله الصالح – كاتب، باحث ومحلل سياسي – خبير في العلاقات الثقافية الدولية.