موسكو – (رياليست عربي): أثار حضور الرئيس الأوكراني للقمة العربية في جدة العديد من التساؤلات عند المتابعين، كما أن الجدل بين الناس حول الموضوع لم يتوقف منذ نهاية القمة حتى هذه اللحظة.
في هذه المسألة يوجد ثلاثة لاعبين، وهم: المملكة العربية السعودية، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ولا بد من التوقف عند كل واحد منهم لرسم الصورة الصحيحة لما حدث.
بالنسبة للمملكة العربية السعودية، أعتقد أنها قامت بخطوة صحيحة؛ فأوكرانيا هي الطرف الأضعف في الحرب الدائرة هناك؛ فالقتل والدمار يقع بشكل أساسي بالشعب الأوكراني ومنازل الأوكرانيين وليس بالقيادات الأوكرانية، التي قادت أوكرانيا إلى هذه المصير الأسود. تمكنت الدول الغربية من تحويل أوكرانيا للأسف إلى ساحة لتصفية حساباتها مع روسيا من جهة، كما أنها تحولت إلى حقل تجارب للأسلحة الناتوية من جهة ثانية، وتحولت أيضاً إلى مختبر جيوسياسي فريد من نوعه لاختبار الفكرة القائمة على التصالح الليبرالي-النازي من جهة ثالثة. هذا علاوة على بروز العديد من شبكات الفساد والتجارة غير المشروعة وشركات غسيل الأموال والإتجار بالبشر والمخدرات والدعارة.
لذلك، في ضوء هذه المعطيات، يعتبر موقف السعودية موقفاً أخلاقياً إنسانياً، قد يساهم في مساعدة أوكرانيا على الخروج من هذه المحنة. خاصةً أن الغاية المعلنة من هذه الدعوة هي الاستماع إلى وجهة نظر كييف، ومحاولة بناء موقف عربي ما حيال هذه المسألة.
بالرغم من أن دعوة ضيف القمة هو حق تتمتع به الدولة التي تستضيف القمة، إلا أننا نعتقد أن الرياض استشارت موسكو وواشنطن في ذلك؛ فعلاقة السعودية مع الطرفين ما زالت جيدة. وعلى ما يبدو أن كل طرف وافق على حضور زيلينسكي لأسباب مختلفة. زيلينسكي نفسه، ما كان ليلبي الدعوة إلى بعد استشارة الدول الغربية المؤثرة في الملف الأوكراني، وعلى رأسهم بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأمريكية.
بالنسبة لروسيا، لم تبرز منها أي إشارات سلبية تجاه السعودية، عندما زار وزير الخارجية السعودي كييف وقدم مساعدات إنسانية لأوكرانيا؛ بل كان الموقف الروسي المعلن أنه لا يوجد عندنا أي مشكلة مع أي طرف يقدم مساعدات إنسانية لأوكرانيا، هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية، روسيا تؤيد أي جهد يساعد في حل الأزمة الأوكرانية، لأنه لم تخض هذه الحرب حباً بالحرب، بل خاضتها لأسباب سياسية معينة، أعلنتها باستمرار في مناسبات متعددة.
النقطة الثالثة، تدرك روسيا أن القرار الأوكراني رهين الإملاءات الغربية، والقيادة الأوكرانية في الحقيقة تنصت لما يقال لها في الغرب، والثقة الآن بين الغرب وروسيا معدومة تماماً. أصبحت أهداف الدول الغربية واضحة للجميع؛ فهم أنفسهم أعلنوا أن الهدف من دعم أوكرانيا هو تحقيق نصر استراتيجي على روسيا. والحقيقة أن الدول الغربية تستغل ضعف الدول الأوكرانية بهدف توقيد الحرب هناك، لأن هذه الدول غير قادرة على الدخول بمواجهة مباشرة مع روسيا، لذلك يستغلون أوكرانيا لهذا الغرض.
لذلك يحظى اللاعبون الآخرون، سواء كانوا آسيويين أو أفارقة أو عرب أو مسلمين أو أمريكيين لاتينيين، بقبول روسي أكبر، وقد يساعد حضورهم في هذه الأزمة بتحرير القرار الأوكراني من الأسر الغربي.
بناءً على ذلك، فإن روسيا ما كانت لتمانع دعوة زيلينسكي إلى القمة العربية إذا لم يكن ذلك ضاراً بمصالحها وعلاقاتها مع الدول العربية.
بالنسبة للأطراف الغربية، فإن موقفها في الحقيقة مثير للاهتمام!
فقمة مجموعة السبع انعقدت في نفس توقيت القمة العربية، ولو كانت هذه الأطراف معنية أو مهتمة بإيجاد حل دائم للأزمة الأوكرانية لكان الأجدر بها دعوة زيلينسكي لحضورها من البداية ووضع أسس واضحة للحل. أما الاستمرار بالقول بأننا سندعم أوكرانيا حتى تنتصر، فهو حيلة واضحة، الغاية منه الاستمرار باستنزاف روسيا على حساب الدولة الأوكرانية والشعب الأوكراني.
علاوة على ذلك، تدرك الأطراف الغربية جيداً أن حضور زيلينسكي للقمة العربية ما كان ليغير من واقع الحال شيئاً؛ فالعرب أنفسهم لا يستطيعون مساعدة أوكرانيا، سوى في بعض القضايا الإنسانية فحسب.
لذلك فإن الموقف الغربي، وفق تصوري، يتضمن شكلاً من أشكال المناكفة السياسية لروسيا من جهة وللقيادة الأوكرانية من جهة ثانية.
في تلك القمة، كان الرئيس بشار الأسد حاضراً، وجاء هذا الحضور بعد غياب طويل، ونحن نعلم أن روسيا كانت في مقدمة الدول الداعمة لسورية في أزمتها التي امتدت لـ 12 عاماً. بذلك كأن الولايات المتحدة ترسل رسالة مبطنة إلى روسيا بأننا سندعم زيلينسكي حتى ينتصر، كما دعمتم أنتم بشار الأسد حتى انتصر. فروسيا كانت السبب المباشر في تعطيل كل مشاريع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.
الرسالة الثانية، موجهة لزيلينسكي نفسه، لأن الأخير يتصرف في الواقع كالمراهق في الاجتماعات الرسمية؛ والعديد من أفراد النخبة الحاكمة في أوكرانيا يعتقد أنه يخوض حرباً مقدسة لـ (تحرير بلده) وبالتالي فكل شيء مباح له، وبالتالي هم كثيرو الإلحاح واللجاجة على الغرب. وكأنها تريد أن تقول له: إذا أردت أن تعرف كيف تُبنى الدول فعليك التعلم من التجربة السورية؛ فسورية مرت بظروف قاسية ومع ذلك صبر الشعب السوري على طول المدة وشدة المحنة. لذلك أمام أوكرانيا اختبارات صعبة، والطريق إلى بناء أوكرانيا سيكون معبداً بالدموع والآلام.
هذا الرأي الأخير، في الواقع، أنا سمعت بعض التلميحات إليه من بعض الأطراف الأوكرانية، إلا أنني صغته وفق سياق الأحداث المتسارعة، التي ترتبط بالأزمة الأوكرانية بشكل مباشر أو غير مباشر. لأنه بدأت في الداخل الأوكراني وفي بعض الدول الأوروبية تبرز أصوات مشككة بقدرة زيلينسكي على إدارة هذه المرحلة الصعبة والمعقدة في أوكرانيا، وبولونيا دعت صراحة إلى إعداد سيناريو لاستبعاد زيلينسكي من المشهد السياسي الأوكراني. والحقيقة أن زيلينسكي نفسه يعيش حالة انفصال عن الواقع، والدولة الأوكرانية تتآكل من الداخل رويداً رويداً، وقد تنهار في أي لحظة، وهناك الكثير من المؤشرات التي تدعم هذه الطرح، قد نعود إليها في سياقات أخرى.
ثمة مسألة أخيرة، يجدر التطرق إليها، وهي أن الولايات المتحدة ضغطت على السعودية لكي تقبل بحضور زيلينسكي للقمة العربية نكاية بالعرب الذين وافقوا على عودة سورية إلى الجامعة العربية!
أعتقد أن هذا الرأي يجانب الصواب؛ لأن السعودية هي من قادت جهود المصالحة العربية، فإذا ما شعرت بوجود مقترحات مناوئة لجهودها فلن تقبل بذلك هذا من جهة، كما أن المملكة أبدت قدرة واضحة على صيانة قرارها السياسي في مواجهة الضغوط الخارجية الأمريكية من جهة ثانية، وزيلينسكي نفسه ألقى خطابه وغادر القمة، فحضوره كان بصفته ضيف شرف، أما سورية فهي عضو في الجامعة العربية تابع وفدها كل الأعمال المرتبطة بتلك القمة من جهة ثالثة.
ختاماً، هذا ما استطعت تجميعه من أفكار وآراء حول هذه المسألة، وسأكون في غاية السعادة بالاطلاع على الآراء التي قد فاتتني حول الموضوع، والتي ستساهم، بكل تأكيد، في إغنائه وفهم جميع ملابساته واستجلاء كل جوانبه.
خاص وكالة رياليست – الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي إس إم للأبحاث والدراسات – موسكو.