توجهت الأنظار حالياً للشأن الإثيوبي بعدما تفجر الصراع عسكرياً بين الحكومة الفيدرالية بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد في أديس أبابا وجبهة تحرير شعب تيغراي في شمال إثيوبيا. ولكي نتمكن من فهم مسببات الصراع والوقوف على مساراته وتوقع مآلاته، تأتي هذه الدراسة لكي تفصل المشهد منذ بدايته.
أولاً: التاريخ
سنعود بالتاريخ الإثيوبي إلى عام 1889 التي تولى فيها الإمبراطور منليك الثاني حكم بلاد الحبشة و الذي كان ينتمى لقومية الأمهرة. نافست إثيوبيا القوى الاستعمارية الأوروبية في التوسع بمنطقة القرن الإفريقي، والإمبراطور تبنى سياسة توسعية كبيرة ضمت إليها عن طريق القوة والمناورات والتعاون مع القوى الاستعمارية أراضي بلغت ضعف مساحة الحبشة التاريخية مرتين.
استغل الإمبراطور ضعف الدولة السودانية، وقام باحتلال إقليم بني شنقول الذي يوجد به سد النهضة ومنطقة المتمة التي تقع بالقرب من القلابات ومن السودان إلى إقليم أوجادين الكبير، الذي إحتلته إثيوبيا من الصومال.
ثم الإمبراطور هيلاسلاسي والذي تولى الحكم في عام 1930 حتى 1974 وأكمل على نفس السياسة التوسعية من الجيران. كان إقليم الأوغادين والذي إحتلته بريطانيا، لكن في عام 1954 تسلمت إثيوبيا إقليم أوغادين من الاحتلال البريطاني، وهي أرض تابعة للصومال والتي تشترك مع إثيوبيا في حدود تبلغ 2800 كيلومتر، وسلمت إرتيريا بالكامل لأثيوبيا. لم تتوقف التوسعات الإثيوبية منذ ذلك الوقت القديم، فإلى يومنا هذا هي لازالت تعيش أحد مراحل التوسع الحبشي على حساب الأراضي العربية والجيران الأفارقة.
الحكم العسكري
إنتهى حكم الأباطرة ودخلت إثيوبيا في نظام عسكري شيوعي، الذي كان يطلق عليه اسم حكم “الدرج”، بعد ثورة شعبية كبيرة بزعامة الضابط مينغستو هيلا ميريام والذي ينتمي أيضاً للأمهرة. في عام 1977 نشبت مواجهة عسكرية بين الصومال وإثيوبيا وتمكنت القوات الصومالية من استعادة جزء من الإقليم المحتل، لكنها أجبرت بعدها على الانسحاب، وصفه المحللين بتواطؤ دولي مع إثيوبيا، ورصدوا تعمد إثيوبيا لإضعاف الصومال، نظراً لأن الصومال القوي يعنى بالضرورة دعم للحركات والعرقيات المختلفة داخل اثيوبيا والتي تعاني التفرقة على أساس عرقي. وفي عام 1988 حاولت جبهة تحرير إرتيريا بالاتحاد مع جبهة تحرير شعوب تيغراي تحقيق الانفصال عن إثيوبيا وبالفعل كبدت الحكومة المركزية الأثيوبية خسائر كبيرة لكن لم تحصل على الإستقلال.
الحكم الفيدرالي
في عام 1991 قامت دولة فيدرالية جديدة بعد إسقاط العسكرين والتي إتحدت فيها شعوب إثيوبيا بقيادة جبهة التيغراي و تولى ميليس زيناوي المنتمي لقومية التيغراي رجل إثيوبيا القوي (The big man of Ethiopia) وأسسوا الجبهة الديموقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا والتي حكمت البلاد من عام 1991 حتى 2019. يقوم نظام الحكم الإثيوبي على الفيدرالية الإثنية، حيث تقسم البلاد إلى 10 أقاليم وإدارتين واحدة للعاصمة هرر وأخرى لهرر، بناء على التوزيع الجغرافي للقوميات السكانية، ويتمتع كل إقليم بحكم شبه ذاتي، مع امتلاكه لجيش خاص، بخلاف الجيش الفيدرالي الذي لا يتدخل في أي إقليم من أقاليم إثيوبيا العشرة، إلا بإذن من حكومة الإقليم، وذلك وفقاً لنظام الحكم الفيدرالي.
حتى الحكم الفيدرالي إستكمل نهج التوسع، فبعد حرب وأعمال عنف واسعة وكر وفر ومساعي دولية كثيرة قررت الجبهة عمل إستفتاء شعبي كنوع من التهدئة لإرتيريا ونتيجته ظهرت بإنفصال إرتيريا عام 1993 وبالفعل تم الانفصال لكن استمرت الحرب بسبب النزاع على الحدود وحكمت محكمة لاهاي الدولية بأحقية إرتيريا في منطقة بادمي المتنازع عليها ولكن إثيوبيا لم تنفذ إلى يومنا هذا بالرغم من أن آبي أحمد قد حصل على جائزة نوبل للسلام بسبب توقيعه معاهدة السلام مع إرتيريا على أساسها. لم تقف أحلام إثيوبيا التوسعية عند محطة إرتيريا بل نشرت الحكومة الإثيوبية على صفحة وزارة خارجيتها خريطة ضمت فيها أغلب أراضي دولة الصومال إلى أراضيها في 2019. إضطرت الحكومة للإعتذار الرسمي ولكن هذا يفسر أن السياسات التوسعية موجودة بالمطبخ السياسي الإثيوبي.
فما تبقى من تلك التوسعات هو ما أسس لما نراه اليوم من تنوع في العرقيات، وسنقوم بتعريف أهم القوميات الأثيوبية التي تشكل خريطة الصراع الحالية.
ثانياً: القوميات
الأورومو
تتركز قومية الأورومو في أوروميا بوسط إثيوبيا ويشكلون 40 % من السكان البالغ عددهم نحو 110 ملايين نسمة، يتحدثون اللغة الأورومية، ويعملون بالزراعة والرعي و80% ديانتهم الإسلام والـ 20% مسيحيون. يعملون بالزراعة والرعي ولا يتمتع الإقليم بالكثير من الصلاحيات ولا الخدمات. عانى أبناء تلك العرقية من التهميش السياسي والحرمان الإقتصادي والإستبعاد من الخدمات مثل التعليم والصحة وبالطبع المناصب الحيوية بالحكومة الفيدرالية.
كانت احتجاجات الأورومو المناهضة للحكومة قد بدأت في عام 2015 بسبب نزاع بين مواطنين غالبيتهم من عرقية أورومو والحكومة حول ملكية بعض الأراضي، ولكن إرتفع سقف المطالب وإتسعت رقعة المظاهرات لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وأدت لمقتل المئات واعتقال الآلاف. وقادت احتجاجات مناهضة للحكومة السابقة على مدار 3 سنوات وتم إسقاطه. فلجأ الائتلاف الحاكم في نهاية المطاف إلى تعيين آبي رئيساً للوزراء عام 2018 بديلاً عن هايلي مريام ديسالين. أتت هذه الإحتجاجات برئيس الوزراء الحالي آبي أحمد.
كان تولي أحد أبناء العرقية الأكبر في إثيوبيا حلماً بعيد المنال، نظرا لأنها العرقية الأكثر تهميشاً على مر العصور والأضعف من الناحية التنظيمية. جاء توليه السلطة أشبه بالمواءمة السياسية لإحتواء المشهد السياسي الساخن في البلاد. ومع قدومه تعلق على كاهله الكثير من الآمال التي لم يستطع تحقيقها. حيث إنتقده الكثيرون وكان أشهرهم المغني الشهير هاشالو هونديسا (34 عاما) الذي إنتقد القيادة الإثيوبية في مقابلة مع شبكة إعلامية مملوكة لقطب الإعلام الإثيوبي جوهر محمد الذي أصبح بدوره منتقداً قوياً لآبي بعد أن كان من أقوى أنصاره وأصبح أيضاً منافسه الأكبر على السلطة في حال تمت الإنتخابات التي كانت مقررة في العام 2020.
قُتل هونديسا بالرصاص، وأشعل قتل المغني احتجاجات دامية في عدة مدن للأورومو، كما هزت العاصمة أديس أبابا 3 انفجارات، مما أسفر عن عشرات القتلى والجرحى، كما اعتقلت الشرطة جوهر، وزعيم حزب سياسي معارض ينتمي لقومية الأورومو .وكانت أغاني هونديسا، تركز على حقوق عرقية الأورومو، وتحولت إلى هتافات في موجة الاحتجاجات التي قادت إلى سقوط رئيس الوزراء السابق في عام 2018. وينتمي كل من آبي أحمد وجوهر محمد والمغني هونديسا للأورومو.
وما زالت إحتجاجتهم قائمة وتم ربطها بالحرب الدائرة على إقليم التيغراي برفع مذكرة للأمم المتحدة عن طريق إتحاد محامين الأورومو الدولي بتاريخ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني للعام الجاري 2020. طالب الإتحاد المجتمع الدولي في المذكرة، إنقاذ كافة أقاليم إثيوبيا من حكومة آبي أحمد وحمله المسؤولية عن تشريد الملايين في المرحلة القادمة وقتل الآلاف في التيغراي وحبس الكثيرين من الأورومو. كما نوه البيان أيضاً إلى نية الأورومو مواصلة التصعيد ضد الحكومة الفيدرالية المنتهية الشرعية.
الأمهرة
ثاني أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا يتحدثون اللغة الأمهرية، وهي اللغة الرسمية للجمهورية الإثيوبية، يبلغ عددهم تقريباً 27 %من عدد السكان وهم مسيحيون أرثوذكس. وبحسب المعتقد التقليدي فإن أصول الأمهرة ترجع إلى سام الابن الأكبر لنوح الذي وردت قصته في العهد القديم. حكموا البلاد لقرون وكان منهم الأباطرة وأيضاً مينغستو هيلا مريام ، حيث قبعوا على عرش أثيوبيا إلى عام 1991.
كانت لهم احتجاجات في الإقليم على أساس عرقي، واتهامات للحكومة الإثيوبية بإنتهاك حقوق الإنسان، دفعت السلطات أن تبدأ تحقيق خاص، في يونيو 2019، بشأن انتهاكات حقوقية في الإقليم، على خلفية تقرير منظمة العفو الدولية، الذي زعمت فيه أن الحكومة ارتكبت انتهاكات جسيمة في إقليمي أوروميا وأمهرة. كما كانت هناك مناوشات بينهم وبين التيغراي. في 24 يونيو/ حزيران، حدثت محاولة انقلاب فاشلة على حكومة إقليم أمهرة، وأعلن مكتب رئيس الوزراء، مقتل قائد الجيش، الجنرال سياري ميكونين، خلال حادث إطلاق نار في العاصمة أديس أبابا وتوفي الجنرال ميكونين وضابط آخر لدى تدخلهم لمنع محاولة انقلاب ضد الإدارة في منطقة أمهرة شمال إثيوبيا.
تتبنى الحكومة الفيدرالية برئاسة آبي أحمد إستبدال التيغراي في المناصب والوظائف بعناصر من الأمهرة، في شكل تحالف معلن وغير خفي عن أعين المحللين بالداخل الإثيوبي. ظهر هذا الإحلال منذ بداية توليه السلطة في إبريل/ نيسان من العام 2018. كما أن دخول الأمهرة بميليشياتهم في إقليم التيغراي قد يحدث نقلة في مسيرة الأحداث الميدانية عسكرياً وعلى صعيد الخطاب السياسي الداخلي والخارجي. وكان رد التيغراي بصواريخ لأكبر مدن إقليم الأمهرة بحر دار.
الصوماليون
يقع إقليم الصومال الغربي أو الصومال الإثيوبي (أوغادين) في المنطقة الداخلية من القرن الإفريقي، ويتخذ هيئة مثلث إحدى زواياه الحادة عند نقطة التقاء الإقليم الشمالي بالإقليم الجنوبي لجمهورية الصومال، يحده من الشمال الشرقي والجنوب الشرقي جمهورية الصومال، ومن الجنوب منطقة الحدود الشمالية لكينيا ويحاذي اقليم العفر من الشمال وإقليم الأورومو من الغرب ويعتبر ثاني إقليم من حيث المساحة بعد إقليم الأورومو، ويقدر عدد سكانه 7مليون نسمة، يشكلون نحو 6.1 في المائة من تعداد الشعب الإثيوبي، ،سمي إقليم أوغادين وهو الاسم الأكثر تداولاً لإرتباطه بقبيلة الأوغادين، تشكل قبيلة الأوغادين غالبية سكان الإقليم وهي أحد فروع قبيلة الداروت أكبر القبائل الصومالية، ويتشكل الجزء الآخر الأقل عدداً من خليط من قبائل الأيساق والمريحان والعيسي وهي كلها قبائل صومالية.
.
في أغسطس/ آب من عام 2018، كان إقليم أوغادين مسرحاً لاضطرابات واسعة راح ضحيتها عشرات القتلى. قامت مظاهرات معارضة لرئيس الإقليم عبدي محمود عمر، واتهم بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في حق أبناء الإقليم، ووصفه أبناء الإقليم بأنه موالٍ للحكومة الإثيوبية على حساب أبناء قوميته. رفض عبدي عمر التنحي، مما أدى إلى اضطرابات أمنية وأحداث عنف قررت الحكومة المركزية على إثرها إرسال قوات الجيش الفيدرالي إلى الإقليم لضبط الأوضاع. واضطر رئيس الإقليم عبدي محمود عمر بعد حراك شعبي راح ضحيته 29 قتيلاً في مدينة جكجكا إلى الإستقالة.
كما هاجمت التيغراي الإقليم وإرتكبت بها مجازر كبيرة منذ عام 2008 وتدخل الكثيرين للوساطة من بينهم السيد عمرو موسى بصفته الأمين العام للجامعة العربية ولكن التيغرانين كانوا يرفضون الوساطة. وعندما جاء آبي أحمد للسلطة أعاد للإقليم الهدوء ولكن الإقليم ما زال يضع نصب عينيه الأحداث في التيغراي أملاً في الحصول على الإنفصال.
إقليم عفر
تعتبر قومية عفر من القوميات التي لها تداخل في عدة دول وذلك فيما يسمى بمثلث العفر والتي تمتد في ثلاث دول هي إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا، لكن العدد الأكبر من هذه القومية يوجد في إثيوبيا. ويطل الإقليم على الحدود الشرقية وله حدود مرتبطة مع كل من إريتريا وجيبوتي، وهو رابط لمختلف المناطق الشرقية والأقاليم الإثيوبية. وتقدر بعض الإحصائيات تعداد العفر بنحو 5 ملايين نسمة أي نحو 4% من سكان إثيوبيا.
تطورت الأحداث في الشرق الإثيوبي، بعد أن اندلعت صراعات قبلية بين قومية عفر في الإقليم، ومسلحين من إقليم الصومال الإثيوبي، وزادت تعقيدات المشهد بعد تدخلات من دول الجوار، تواجدت قوات جيبوتية في المنطقة، لدعم المجموعات الصومالية المسلحة التي عملت على اختراق بعض المناطق في الإقليم. الصراع القائم بين العفريين والمليشيات العيساوية المدعومة من النظام الجيبوتي في الإقليم العفري هو صراع قديم. المنطقة تشهد صراعاً وحراكاً كبيراً، خاصة أن للعفريين مطالب بخصوص إعادة الأمن الخاص بالإقليم.
الأمن الخاص (عبارة عن مسلحين من الإقليم نفسه) يدافع عن الإقليم ضد أي تدخل، ولكن هنالك مطالب قدمت للحكومة الفيدرالية، وهذا هو السبب وراء أحداث قطع وتعطيل الطريق العام الذي يربط العاصمة الإثيوبية أديس أبابا وجيبوتي. يعاني الإقليم من التهميش وسوء علاقته بالحكومة الفيدرالية ويسعى هو الآخر للإنفصال وتردد في الأوساط الإثيوبية مطالبات النشطاء السياسيين بدعم التغراي تمهيداً لإنفصال العفر.
بني شنقول
يشتمل الإقليم على المنطقة التي يقام عليها سد النهضة الإثيوبى، ويعيش فيه قرابة 4 ملايين نسمة، معظمهم ذو أصول سودانية، وأكثر من نصفهم مسلمون، وما زالت عاداتهم وملامحهم سودانية النزعة رغم محاولات إثيوبيا الدفع بسياسات التغيير الديموغرافي، وتبلغ مساحة الإقليم حوالى50 ألف كيلومتر مربع وبعد ضم إقليم بني شنقول إلى الإمبراطورية الحبشية، لم يجدوا الترحيب الكافي من السلطات واعتبروا مواطنين من الدرجة الثانية، وفي عام 1931، خاضوا أول تمرد رسمي على الأحباش، مطالبين بالعودة للأراضي السودانية وبحكم ذاتي، وقوبل بالرفض، وكان إقليم بني شنقول تابعاً للسودان ولكن تفاوض الإنجليز مع الأحباش على اتفاق بضمه لبلاد الحبشة قبل استقلال السودان.
شهدت المنطقة مؤخراً سلسلة هجمات دامية ضد مدنيين، وقتل على يد مسلحون راح ضحيتها 34 شخصاً، أتت هذه المعارك إثر الهجوم العسكري علي منطقة تيغراي الشمالية المضطربة، ووردت أنباء أيضاً بدعم الإقليم لإنفصال التيغراي للحصول على إستقلالهم.
السيداما
خامس أكبر مجموعة عرقية بالبلاد إنفصلت حديثاً عن إقليم “شعوب الجنوب”، ويمتد إقليم “شعوب جنوب إثيوبيا” جنوب البلاد متاخماً لدولة كينيا، فيما تحده دولة جنوب السودان من جنوبه الغربي، وتنتهي حدود الإقليم مع إقليم جامبيلا الإثيوبي في الشمال الغرب، فيما يحاذي إقليم أوروميا من شرقه وشماله.
ويضم الإقليم أكثر من 50 قومية أبرزها (سيداما، ولايتا، الهديا، قوراقي، جامو، وسيليتا) عدد سكان الإقليم الذي يقدر بـ17 مليون نسمة وهي من الشعوب الكوشية (شعوب مملكة كوش) تشكل السيداما 4% تقريباً من إجمالي سكان إثيوبيا. صوتت في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019 على الانفصال تأييداً لإقامة منطقة حكم ذاتي لها في ظل إصلاحات قام بها آبي أحمد ويمنحها الدستور الأثيوبي، لتصبح السيداما الولاية العاشرة في الجمهورية الأثيوبية. لا يعتبر الإقليم من المرشحين لدخول الصراع الدائر بين الحكومة الفيدرالية والتيغراي نظراً لبعد المسافة وقلة العدد.
ثالثاً: أسباب تفجر الصراع
الصراع له أبعاد تاريخية أهمها إن الجبهة الشعبية لتحرير شعب تيغراي التي تأسست عام 1975 كانت قائمة في الأساس بهدف الإنفصال عن حكم إثيوبيا بشكل نهائي وإقامة دولة مستقلة ولكن تم الضغط عليها من باقي الحركات المعارضة حلفاءها في التخلص من حكم الدرج “العسكري” بالبقاء من أجل النجاح في تحقيق هدفها والحصول على دعمهم. وجدت الجبهة فرصتها الأكبر في تأسيس الجبهة الأكبر والاستئثار بالحكم.
فكونت الجبهة تحالف “الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية”، من عدد من الحركات والأحزاب والجبهات الممثلة للجماعات الإثنية الرئيسية في إثيوبيا، وأبرزها “جبهة تحرير شعب تيغراي”، و”الحزب الديمقراطي الأمهري”، و”حزب الأورومو الديمقراطي”، و”الحركة الديمقراطية الشعبية لجنوب إثيوبيا”.
تمتعت بكافة الإمتيازات والخدمات للإقليم وأبنائه من مناصب وتعليم وهيمنة على مفاصل الدولة في الجيش والقضاء والوزارات. حتى مع تولي هيلا ميريام ديسالين والذي كان ينتمي إلى أقاليم الجنوب، السلطة في 2012 بعد وفاة ميليس زيناوي، كان التيغراي هم المسيطرون على مقاليد الحكم. ظل الوضع مستمراً حتى قيام ثورة شباب الأورومو في 2015 والتي استمرت 3 سنوات، إضطرت ديسالين إلى تقديم استقالته ليأتي آبي أحمد للحكم بتصعيد من الأورومو و الأمهرة ولأهداف سياسية غرضها تهدئة الشارع.
آبي أحمد والذي بدأ خطوات سريعة وصفت بـ”الخطيرة” تحت مسمى “الإصلاحية” وهي حل الجبهة الديموقراطية الثورية التي كانت حاكمة واستبدالها بنظام حكم يتسم بالحكم المركزي تحت حزب واحد من صنعه وهو حزب الإزدهار. وروج للحزب في كتاب من تأليفه أسماه “التناغم” والذي يشرح فيه فكرة التوحد تحت العلم الإثيوبي والبعد عن الإثنيات والعرقيات. وبدأ في تشكيل حزبه برغم المعارضة الشديدة من بعض الأقاليم وعلى رأسها التيغراي الذي شرع في تقليم أظافرهم بإستباعدهم من كافة المناصب القيادية تقريباً. وأطلق العنان لحملة إعتقالات لرموز التيغراي بتهم تتعلق بالفساد. كما سحب تراخيص أكبر 34 مجموعة إقتصادية تيغرانية، بالإضافة إلى فصل كل من يتبع عرقية التيغراي في كافة وظائف الدولة. إعتبرت الجبهة تصرفات رئيس الوزراء خرق للنظام الفيدرالي وإنقلاب على السلطة التي أتت به في جلد ناعم.
وفُرض الحزب على أحزاب الأقاليم التي لم يكن لديها خيار الرفض، بل إن رؤساء الأحزاب التي ألغيت ودمجت بصورة شبه قسرية، لم يتسنَ لهم الإطلاع الكامل على اللائحة الداخلية وأهداف الحزب الذي صادقوا عليه، فعرضت عليهم اللائحة لدقائق أثناء الاجتماع وسحبت منهم قبل الخروج منه. ألغيت جميع الأحزاب التي تحكم الأقاليم ما عدا حزب التيغراي الذي نأى بنفسه عنهم، ومن الأمور التي أثارت الغضب الداخلي، لأنه سيكون لآبي أحمد وحزبه صلاحية التصرف بمصير الأقاليم من خلال تعيين من يناسبهم لأن الذي يحكم الإقليم هو حزبه بطريقة مباشرة وبأشخاص محليين مرتبطين به. ظهر تباين في توجهات أحزاب المعارضة، وظهرت تحديات كبيرة لحكومة آبي أحمد، أوقعته في أخطاء قانونية ودستورية بحسب معارضيه. أدى هذا التحول الحزبي والدستوري لمعارضة داخلية ضارية من التيغراي والأورومو وبعض الأقاليم الأصغر مثل الأوغادين وبني شنقول.
زاد التوتر ما بين الإقليم وآبي أحمد بإتفاقه مع عدوهم التاريخي حاكم إريتريا، إسياس أفورقى. بالرغم من أن ثلث عرقية التيغراي موجودين بإرتيريا إلا أنه هناك عداء ممتد وعنيف بسبب سيطرة جبهة التيغراي على منطقة بادمي التي حكمت بأحقيتها المحكمة الدولية لإريتريا في 2008 ورفضت التيغراي تسليمها لإريتريا، حتى بعد وعد آبي أحمد لأفورقي بتسليمها بموجب إتفاقية السلام التي حصل بسببها على جائزة نوبل. لم يستطع آبي أحمد إقناع قادة التيغراي بتسليم بادمي لإريتريا. رفع رئيس الوزراء مؤشر المكايدة السياسية عندما إحتفي بوجود أفورقي في أديس أبابا بشكل مبالغ فيه في حضور كافة الأقاليم ما عدا التيغراي الذي تعمد تجاهلهم ورفض توجيه الدعوة لهم. رصد المحللون الأثيوبين تعمد آبي أحمد إستعمال جمل إستفزازية تحمل رسائل عداء للتيغراي في وجود أفورقي. تحول العداء بين التيغراي وآبي أحمد إلى صراع مفتوح لأنهم إتهموه بالخيانة والإستقواء بالخارج. كان رد آبي أحمد أكثر قسوة بأنه إتبع نظام تطهير عرقي في الهيئات والمؤسسات وحرم الكثير من التسغرانيين من مناصبهم واستبدلهم بالمنفيين من الأمهرة والأورومو وأكمل في طريق التحول للمركزية.
على الرغم من أن دكتور دبريصيون رئيس إقليم تيغراي بالإنابة يعد من حمائم الحزب، والذي أبدى مرونة كبيرة للتعامل، مع كل من آبي أحمد وإسياس في بادئ الأمر، لكن التخطيط لتفكيك الحزب بالكامل، وتقديم بعض الشخصيات للمحاكمة على الرغم من إعلان التسامح العام منذ بداية الحقبة الجديدة. دبريصيون جبر مايكل: زعيم جبهة تحرير شعب تيغراي وحاكم الإقليم ونائب رئيس الوزراء السابق. وقد صعد دبريصيون اللهجة الانفصالية منذ إبعاده عن الحكومة الوطنية في إبريل/ نيسان من العام 2018، أي بعد تولي آبي أحمد السلطة مباشرة. وأكد بعد القصف استعداد قوات التيغراي لخوض الحرب.
إن تعنت الحكومة الفيدرالية في تعقبها لكبار رجال الأمن التيغرانيين عقد الأمور وعلى رأسهم رئيس جهاز الأمن ورئيس المخابرات السابق أهم الشخصيات رفض الإقليم تسليمها. والذي يعتبر من صقور الحزب بالداخل، هذا الرجل جيتاشو أسفا، مدرسة نادرة إذ لا يُعرف من هو، ولا توجد له صورة ولم يقابله أحد، لا نعرف حتى لو كان رئيس الإقليم دبريصيون هو نفسه جيتاشو. والعجيب هو أن آبي أحمد، وهو ضابط أمن سابق، لم يقابل رئيسه يوماً ولا يعرفه. كل هذه المقدمات حولت التيغراي من داعم للدولة الإثيوبية بشكلها الفيدرالي الى التمسك بالإثنية التيغرانية على حساب الإنتماء الإثيوبي.
وصل الصراع للذروة عندما طلب آبي أحمد من البرلمان إستصدار قرار بتأجيل الإنتخابات البرلمانية، إستقالت على إثر هذا الطلب رئيسة البرلمان الأثيوبي ثريا إبراهيم والتي تنتمي لإقليم تيغراي. ثم توالت إستقالات أخرى لمناصب عديدة في الدولة تنتمي للإقليم. كان من المقرر إقامة الإنتخابات المزعومة في 29 أغسطس/آب 2020 ثم تم تأجيلها إلى أجل غير مسمى بحجة جائحة كورونا، فقد نجح آبي أحمد من إقتناص قرار من البرلمان ينص على تمديد فترته لحين عمل الإنتخابات.
رأى التيغراي تلك الخطوة تحايلاً على الدستور وقرروا المضي في الانتخابات منفردين. قاموا أيضاً بإرسال وفد من إثنين وخمسين شخصية للحكومة الفيدرالية لمحاولة الوصول لحل ولكن آبي أحمد رفض الجلوس معهم، مما دفع الإقليم للمضي في الإنتخابات. والنتيجة أن الحكومة لا تعترف بإنتخابات التيغراي والإقليم لا يعترف بالحكومة. فكلاً منهم قد أسقط شرعية الآخر.
أرسلت الحكومة الفيدرالية رئيساً للمنطقة الشمالية العسكرية لإقليم التيغراي ورفض قادة الجبهة تسليمه المنصب وعاد على متن نفس الطيارة التي أتى بها، في رسالة واضحة أنهم لن يعترفوا بالحكومة وأصبحت سلطتهم ذاتية. والحكومة ردت بقطع التمويل لإقليم التيغراي وتوزيعه على باقي الأقاليم ومنعت التعامل معها بأي شكل رسمي.
كان الوضع على صفيح ساخن ولكن لماذا القصف العسكري للإقليم من قبل الحكومة الفيدرالية؟
بناءً على ما أعلنته الحكومة، إن التيغراي حاولوا الإستيلاء على قطع عكسرية بالهجوم على القاعدة العسكرية بالشمال الإثيوبي داخل الإقليم وبحسب البيان قال “لقد تخطيتم ما بعد الخط الأحمر” وقصف مواقع عسكرية بالإقليم وقطعت عنه الإتصالات وأصبح في عزلة تامة بعد حظر عبور الطيران مجاله الجوي بعد قرار آبي أحمد ، و توعدت الجبهة بالرد العنيف أيضاً ثم أعلنت القيادة الشمالية للجيش الاتحادي انشقاقها عنه وانضمت لقوات تيغراي. وقال رئيس إقليم تيغراي، دبريصيون جبر ميكائيل، في مؤتمر صحفي، إن حكومة آبي أحمد كانت تخطط لمهاجمة المنطقة لمعاقبتها على إجراء انتخابات سبتمبر/أيلول. ولا يوجد أي تأكيد على صحة أي إدعاء من عدمه نظراً لأن ما يأتي من داخل التيغراي محدود جداً والمصادر الإخبارية تعاني من إنقطاع التواصل مع الإقليم ماعدا قناة الجزيرة التي ما زالت قادرة على البث من داخل المناطق العسكرية الشمالية لأنها تتمتع بمساندة حكومة آبي أحمد.
خطورة تهديدات التيغراي بحسب المحللين أنها تمتلك ما يقرب من نصف مقدرات الجيش الإثيوبي وتحتكم الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي أيضاً على 250 ألف مقاتل غير أن بحكم توليها الحكم في السنوات الطويلة الماضية لديها كوادر عسكرية مدربة وتستطيع القتال لمدد غير محدودة وقادرة على وضع خطط للهجوم على مسافات بعيدة. هدد قائد الجبهة قائلا “لدينا إمكانيات أن نضرب مسافات بعيدة مثل أديس أبابا أو أسمرة”، بالفعل ضرب الإقليم صواريخ على مطار أسمرة في العاصمة الإرتيرية بعد تسلل بعض عناصر من الجيش الإريتيري لحدود إقليم التيغراي بحسب زعمه. الخطورة في إستدعاء إرتيريا سيخرج الصراع من كونه صراع داخلي بين إقليم وحكومة فيدرالية إلى صراع إقليمي يهدد أمن القرن الإفريقي ويهدد سلامة الملاحة في البحر الأحمر.
إقليم تيغراي ليس لقمة سائغة، وهذا سيكون عامل مهم في موقف أديس أبابا، لأن الكثير من التوقعات تشير إلى اتساع تلك التوترات خلال الفترة القادمة وقد تنضم إليها إثنيات أخرى، لأن التيغراي كانوا قد بدأوا في الفترة الأخيرة تكوين تحالفات مع عناصر معينة من الأورومو ومع الإقليم الصومالي ومجموعة العفر المجاورة لهم، ويحاولون تكوين جبهة ضد ما يعتبروه تغول رئيس الوزراء آبي أحمد وإقامة ديكتاتورية جديدة على حسابهم.
من الإستعراض السابق للأقاليم الأثيوبية يتضح أن المشهد الإثيوبي بالداخل يتأجج بالمواجهات العنيفة التي وفقاً للدستور يتبقى لها خطوة لإعلان الانفصال رسمياً، لأن الدستور الإثيوبي الفيدرالي بالأساس يسمح للأقاليم بالإنفصال طبقاً لمادته الشهيرة رقم 39 ، لذا يحاول رئيس الوزراء الحالي إجهاض مشاريع الإنفصال خصوصاً للأقاليم الكبيرة أو القوية مثل التيغراي، واستخدم الجيش الإثيوبي لضرب الإقليم ومنشآته، واصطدم برفض وزير الخارجية وقائد الجيش وقائد المخابرات، الأمر الذي دعا الكثير من المحللين إلى القول بأنه يواجه معارضة داخل حكومته وخصوصاً لدى المؤسسات الأمنية و العسكرية والتي تتكون من مختلف العرقيات لكن تسيطر على الجزء الأكبر بها عرقية التيغراي ولهذا أطاح بهم في الأيام الأولى لبداية هذه الحرب، وهو ما قد يعمق الصراع ويدخل البلاد في حرب أهلية.
رابعاً: دول الجوار
الصومال
الأقاليم التي تطالب بالإنفصال مثل الإقليم الصومالي ستزيد من ضغطها في الحصول عليه خصوصاً وأن الجيش الإثيوبي سحب قواته من الحدود الصومالية من أجل دعم جبهته العسكرية مع التيغراي. حيث سحبت الحكومة الفيدرالية بالفعل 3000 جندي من الحدود الغربية مع الصومال، وإن كانوا غير متصلين ببعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميسوم) إذا زاد الوضع تدهوراً واضطر آبي أحمد للإنسحاب من أميسوم فسيكون ذلك كارثياً، وسيمنح حركة شباب المجاهدين فرصة لإعادة النمو وتنظيم الصفوف من جديد الأمر الذي بالتبعية سيدخل الصومال للصراع بشكل مفتوح وهي أيضاً دولة رخوة نظراً للوجود الأجنبي الكثيف بها من تركيا وقاعدتها العسكرية وأيضاً قطر وإيران، بكل أجنداتهم التي ساعدت على إبقاء الصومال يسبح في الدمار. ومع استمرار الأزمة في الصومال، وتصاعد نفوذ كل منهم مع تعاظم دور الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية، وتحولها لمكان آمن لعناصرهم الإرهابية، وهو ما وجدت فيه الدول الداعمة للإرهاب إستثمار سياسي أمني، يخدم أهدافها. “في مثال لحجم النفوذ القطري بالصومال تم فرض تعيين مراسل قناة الجزيرة القطرية كرئيس للمخابرات الصومالية!”. الأحداث الإثيوبية ستؤدي بلا شك لإضعاف الجبهة الداخلية الصومالية داخل إثيوبيا وبالتبعية داخل الصومال. بالإضافة لإفشال خطط أمنية دامت لسنوات في محاولات لحصار البؤر الإرهابية في القرن الإفريقي.
إريتريا
مسرح العمليات في إقليم تيغراي، وتحديداً في منطقة حُمرا الإثيوبية، ويعتبر نقطة رابطة بين المثلث الحدودي للسودان وإريتريا وإثيوبيا، تقع تلك المنطقة بجوار منطقة “أم حجر” الإريترية ومدينة “حمداييت” السودانية. التداخل الديمغرافي بين إثيوبيا وإريتريا بالإضافة للتدخلات الإثنية الكبيرة بينهما، يتيح فرصاً كبيرة لسهولة تحرك العناصر المسلحة من وإلى إريتريا. هذا الأمر دفع الجيش الإرتيري لنشر عناصر إستطلاع على حدوده مع التيغراي. ما دعا جبهة التيغراي للرد بإسقاط ثلاثة صواريخ أطلقتها على العاصمة الإرتيرية أسمرة.
بالرغم من إتفاق السلام الهش الذي تم توقيعه بين آبي أحمد وأسياس أفورقي بخصوص منطقة بادمى المتنازع عليها والتي تسيطر عليها التيغراي إلا أن التقارب بين آبي أحمد وإريتريا أغضب قيادة الإقليم. بات الموقف الإرتيري تجاه الإقليم واضحاً عقب قيام الإقليم بإجراء الانتخابات الداخلية، حيث أعلنت الحكومة في بيانها الصادر في 31 من أكتوبر/ تشرين الأول رفضها لتلك الانتخابات، وترى في حكومة تيغراي بأنها مهددة للأمن والفيدرالية. وأشارت بعض المصادر إلى تسليم أديس أبابا بعض رموز المعارضة الإرتيرية لأسمرة في الأيام الأولى للحرب. إشارة واضحة على حجم التنسيق بين آبي أحمد وأسياس أفورقي على مراحل تلك الحرب وإعتبارها إختياراً لثقة كلاً منها في الآخر للتخلص من عدوها المشترك “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي”. جاءت هذه الحرب لتسيل لعاب أفورقي لتذوق عسل الإنتقام من عدوه اللدود الإثيوبي متمثلاً في “جبهة تحرير شعب تيغراي” بحجة رد العدوان عن حليفه آبي أحمد. الأمر الذي ينذر بطول وتشعب أمد الحرب ورقعتها في الإقليم.
السودان
السودان أكبر وأهم الدول المتأثرة سلباً، حيث أن النزاع بصورته الحالية يمثل ضغطاً أمنياً على الحدود الإثيوبية – السودانية، وذلك للطبيعة الجغرافية المتقاربة لإقليم تيغراي الإثيوبي وولاية كسلا السودانية، مما دفعه لإغلاق حدود ولايتي القضارف وكسلا الأقرب لإثيوبيا.
وتواجه حكومة الخرطوم بالفعل تحديات أمنية كثيفة ومتفرقة، لتأتي حالة التصعيد الداخلي في أثيوبيا وتُشكل ضغطاً متفاقماً عليها، في ضوء الحدود الهشة بين الدولتين، مما جعل السودان ترسل تعزيزات عسكرية كبيرة شرق البلاد مع الحدود مع إريتريا وإثيوبيا، تحسباً لانتقال المقاتلين الإثيوبيين داخل السودان، الذي يتسم بالهشاشة الكبيرة خاصة في ظل حالة الاستقطاب الكبير بين المكونات الإثنية داخله. وهو ما تجلى فيما أعلنه الجيش السوداني في الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، عن إحباط الفرقة الثانية مشاة التابعة له لمحاولة لتهريب ذخائر وأسلحة إلى إقليم تيغراي بلغت نحو (95 ألف) طلقة من عيار (9ملم) إلى جانب كميات كبيرة من المخدرات.
هذا ولن يقف الصراع بتداعياته عند هذا الحد، فإن العمليات العسكرية أدت إلى نزوح الآلاف من اللاجئين حسب آخر تقدير وصل عددهم إلى 45 الف لاجئ إلى العمق السوداني مما يُشكل ضغطاً آخر وتحدياً أمام حكومة الخرطوم التي تعاني تحديات إقتصادية وإنسانية كبيرة، ناشدت الحكومة السودانية المجتمع الدولي بسرعة التدخل لمساعدتها على إعاشة تلك الأعداد الغير مسبوقة من موجات النزوح إليها. وبحسب توقعات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة، فإن الأرقام مرشحة إلى أن تصل لرقم يقارب الـ 200 ألف لاجئ. وقد تؤول الأحداث إلى اندلاع تصعيدات إثنية داخل دول الجوار، خاصة وأن الخرطوم لا تزال تعاني من صراع سياسي ذي طبيعة قبلية وخرجت من ثورة شعبية أطاحت بنظام وأتت بسلطة مؤقتة.
وبالتالي يبدو أن الحكومة الإنتقالية في الخرطوم تتمتع بعلاقات جيدة مع حكومة أديس أبابا، خصوصاً بعد نجاح الوساطة الإثيوبية في الثورة السودانية، لكن الملفات الشائكة كثيرة ومازالت ملحة وتجعل الأمور قابلة للتغير وفق مقتضيات المصلحة ومجريات الأحداث. فبرغم عدم تدخلها المباشر حتى الآن في الصراع المسلح، إلا أنها بدأت تلوح بملفات، منها منطقة الفشقة السودانية وسد النهضة الإثيوبي، حيث تأمل في الحصول على تنازلات من أديس أبابا مقابل دعم الخرطوم لها في الحرب على الإقليم القوي عسكرياً والذي لا يبدو أن جيشها الفيدرالي قادر على مواجهته منفرداً.
والفشقة منطقة سودانية حدودية، تبلغ مساحتها 251 كيلومتراً، وتشهد خلال فترتي الإعداد للموسم الزراعي والحصاد هجمات دموية تشنها جماعات إثيوبية مسلحة غير خاضعة لسلطة أديس أبابا. حدثت بسبب الفشقة مناوشات عسكرية على الحدود تدخل فيها الجيش السوداني وأدت إلى وقوع خسائر بين صفوفه في يونيو/ حزيران الماضي.
السودان الذي بدأ يتلمس مؤخراً خطورة سد النهضة على مصالحه ويرى حجم التهديد الحقيقي لوجوده، أبدى ميلاً في هذا الملف مؤخراً صوب القاهرة. بزغ هذا التحول في مواقفه بحسب مراقبون في توقيت المناورات العسكرية الراهنة بين السودان ومصر كإشارة إلى أديس أبابا بأن الخرطوم قادرة على تحقيق مصلحتها بتحالفات مع حليف قوي. حيث يجري الجيشان المصري والسوداني مناورات عسكرية “نسور النيل” هي الأولى من نوعها في قاعدة جوية في منطقة مروي السودانية . وتأتي هذه المناورات في ظل توقف مفاوضات سد النهضة بعد تعنت ومراوغة إثيوبيا الطويلة على مدار تسع سنوات.
خامساً: القوى الإقليمية (إسرائيل و تركيا)
إسرائيل
تتبنى إسرائيل سياسة حملت عدة عناوين كان من أبرزها سياسة “شد الأطراف” والتي تنطوي على محاربة خصومها في المنطقة العربية والشرق الأوسط من خلال العمل على توسيع وتعزيز علاقتها مع دول الجوار غير العربية والقائمة على مجموعة من الركائز العسكرية والإستراتيجية والإستخباراتية والأمنية والإقتصادية وبالطبع السياسية. على أن تساعد تلك العلاقات إسرائيل على خلق منافذ لتصدير سياسات توجه تلك الدول للعمل فقط صوب مصلحة إسرائيل على حساب مصالح دول الجوار. وبذلك تستطيع أن تجذب تلك الدول من أطرافها وقتما شاءت، وتكون بعيدة كل البعد عن المواجهات العسكرية المباشرة التي قد لا تتسنى لها بحكم إتفاقيات السلام. وأبرز مثال على هذه العلاقات هي علاقتها بإثيوبيا التي تعتبر مصر معتدية على حقوقها في النيل.
تعود العلاقات الإسرائيلية – الإثيوبية إلى عام 1952، وكان نشاطها الإستخباراتي حاضراً بقوة تحت ستار تجارة البقر.عرفت إثيوبيا في علاقتها بإسرائيل نوع من الإتفاقيات المؤامراتية بعنوان “اتفاقية الرمح الثلاثي”، التي وقعتها إسرائيل مع إثيوبيا في عام 1956، كان الهدف منها، هو السيطرة على المياه الإقليمية، وفرض نفوذ في منطقة الشرق والقرن الأفريقي من جهة، وإفساد أي توجه مصري لأفريقيا من جهة أخرى وفي أواخر الخمسينيات، بدأت إسرائيل منح مساعدات لإثيوبيا، عبر مشروعات في مجالات الزراعة والصحة والتعليم وتدريب وتأهيل العمال. وفي 1966، أصبح لإسرائيل وفداً عسكرياً يتواجد بشكل دائم في إثيوبيا، يتكون من 100 ضابط وقائد عسكري إسرائيلي. وكان هذا الوفد هو الأكبر عدداً في إثيوبيا بعد الوفد العسكري الأمريكي. وفي تلك الفترة حصلت إثيوبيا على مساعدات إسرائيلية أكثر من أي دولة أخرى.
وقامت إسرائيل بتدريب وتأهيل القوات الخاصة للجيش الإثيوبي، خاصة في صراعها مع قوات الحركة الوطنية الإرتيرية، وكان لها منفذ خاص بميناء مصوع الإرتيري على البحر الأحمر، وكانت السفن الإسرائيلية تتوجه للصيد في البحر الأحمر أمام سواحل إثيوبيا، بسبب الأزمات والمواجهات التي كانت تتعرض لها بسبب انتشار القوات البحرية المصرية في البحر المتوسط.
كان هيلا سيلاسي، آخر أباطرة إثيوبيا حليفاً قوياً لإسرائيل، التي ردت الجميل بإجهاض 3 محاولات للانقلاب عليه. لكن في 1973 وبعد انتصار مصر في حرب أكتوبر، وبضغوط من منظمة الوحدة الأفريقية، قطعت إثيوبيا علاقاتها العلنية بإسرائيل، وفي عام 1991 تم تنفيذ عملية “شلومو” لتهجير يهود إثيوبيا إلى إسرائيل، وحصلت أديس أبابا في المقابل على مساعدات قيمتها 35 مليون دولار.
و كنوع من إثبات الولاء لإسرائيل، امتنعت إثيوبيا عن التصويت على مشروع قرار في الأمم المتحدة يعتبر الصهيونية نوعا من العنصرية في خضم حرب الأفارقة والعرب لتخليص جنوب إفريقيا من الفصل العنصري و ي الدولة مقر الإتحاد الإفريقي. وتعترف إسرائيل دوماً بمصلحتها الاستراتيجية في التواجد بإثيوبيا لوقوعها على مقربة من العالم العربي، “مصر والسودان”، وتبدي إهتماماً كبيراً بها، خاصة أن أكثر من 150ألف إثيوبي يعيشون في إسرائيل الآن.
أهداف الإسرائيليين من التغلغل داخل إثيوبيا والتحكم في مراكز القرار السيادية هناك متعددة، لكن أبرزها تلك المتعلقة بمياه نهر النيل، فأهم الأهداف التي تطمح إليها في وجودها بإثيوبيا هو الرغبة في الحصول على مياه النيل، حيث تسيطر إثيوبيا على أكثر من 80% من مياه النهر. بناءً على الأساطير الدينية اليهودية التي ترتكز على دعوى أرض الميعاد، فهم يزعمون أن كتابهم المقدس “التوراة” جاء فيه أن الله قطع العهد لإبراهيم وأولاده بأن يأخذوا الأرض الممتدة من نهر النيل إلى نهر الفرات.
نتيجة ذلك تلعب إسرائيل دوراً غير مباشر في صراع المياه بين دول حوض النيل، حيث دعمت إثيوبيا في بناء عدد من السدود الكبيرة على نهر النيل بهدف حجز مياهه، ثم تحويلها إليها للاستفادة منها.
من ضمن أدوات السياسة الإسرائيلية في إفريقيا عموماً هي توظيف المعرفة في المشروعات المائية والكهربائية كخبير ري وكهرباء وأيضاً خبير زراعي. هذا التعاون قائم بين إسرائيل وكل دول إفريقيا طبقا لتكليف الأمم المتحدة لإسرائيل بتطوير نظم الري واستخدامات المياه والأمن الغذائي في إفريقيا منذ عام 2010. ومع إثيوبيا بالخصوص فعلت هذه الأداة بكل ما أوتيت من إمكانيات لكي تكون المتحكم الأساسي في مياه النيل ودول الحوض بالكامل، تمهيداً للتوصل لخطوة نقل مياه النهر لـ”إسرائيل”، وسبق أن وعد نتنياهو خلال الجولة الأخيرة في عام 2016 بمساعدة إثيوبيا على الاستفادة من مواردها المائية في تطوير الزراعة وتزويد إثيوبيا بالتكنولوجيا الإسرائيلية.
وتسعى “إسرائيل” للحصول على جزء من مياه النيل عبر قناة السويس، وهو المشروع الذي يعرف باسم “إليشع كالي”، ويستهدف حصولها على ما يعادل 1% من مياه النيل، أي ما يعادل 550 مليون متر مكعب سنوياً عبر أنابيب ناقلة لصحراء النقب مروراً بمصر “من خلال سحارات أسفل قناة السويس” وقطاع غزة شمالاً. أدركت الحكومات الإسرائيلية أن السيطرة على نهر النيل يهدد مصالح مصر الإستراتيجية وأمنها القومي، لذلك عملت جاهدة للسيطرة عليه، فبالإضافة لحاجتها لمياه النيل، تسعى للإضرار بمصالح القاهرة مهما كلفها الأمر وخصوصاً أن هذا الهدف تلاقى مع أهداف إثيوبيا لتحدي القاهرة والإنتصار على نفوذها وتأثيرها السياسي في القارة. بينما عززت “إسرائيل” مكانتها في المنطقة وخاصة في إثيوبيا، كانت المكانة المصرية هناك في تراجع مستمر الأمر الذي يهدد أمن القاهرة القومي، وما يشرح تحالف الإثنتين الشرس ضد مصر هو مبدأ “عدو عدوي صديقي”.
وعلى المتعمق في النهج السياسي الإثيوبي ملاحظة إتخاذها سياسات إسرائيل كنموذج تتبعه في سياساتها الخارجية و خصوصاً سياسة فرض الأمر الواقع. فقد فرضت أثيوبيا تلك السياسة مسبقاً في مفاوضتها المائية مع كينيا والصومال لإنشاء سدود تحقق لها فائضاً من المياه على حساب حصص الدولتين. وإتبعت نفس السياسة مع مصر والسودان عندما فرضت الملئ الأول دون إتفاق ضاربة بعرض الحائط مبدأ الإستخدام العادل لمياه النيل. مما وصفه الخبراء بإجراء يتنافى مع القانون الدولي والإتفاقيات الموقعة بينها وبين دول المصب وينزع الثقة عن مدى جديتها في المفاوضات الدائرة بخصوص الملئ والتشغيل.
ومنذ بداية العمليات العسكرية ضد إقليم التيغراي لم يتوقف التنسيق الإسرائيلي -الإثيوبي العسكري. فقد أعلنت كلاً من الدولتين عن وصول 27 طائرة حربية إسرائيلية إلى إثيوبيا، بزعم مكافحة إنتشار الجراد، مما أثار تساؤل المراقبين عن مدى صحة هذه التصريحات و جاءت الإجابة “أن مكافحة الجراد حرب هي الأخرى”. فمن الواضح أن تل أبيب هي شريك عسكري لأديس أبابا في هذه المعركة. وأوضحت “القناة الـ12” الإسرائيلية، في تقرير نشرته أن 9 إسرائيليين كانوا يعملون في تيغراي وجدوا أنفسهم في فخ مع بدء التصعيد العسكري الأخير في المنطقة التي حيث قامت وزارة الخارجية الإسرائيلية بعملية خاصة في تيغراي، بالتعاون مع الجيش الإثيوبي، لإنقاذ المواطنين الإسرائيلين.
تركيا
أخذت السياسة الخارجية التركية في الاهتمام بأفريقيا منذ عام 2009، دعمت ذلك الإهتمام بعدد لا محدود من أدوات التأثير والتوغل، تراوحت ما بين السياسية والإقتصادية والعسكرية والثقافية. وكان أبرز دليل على نجاحها في توسعها داخل القارة، وصول عدد السفارات التركية في أفريقيا إلى 42 سفارة، بعد أن كانت 12 سفارة قبل هذا التاريخ. وأعلنها الإتحاد الإفريقي شريكاً في 2008 بوساطة إثيوبية. وأقامت العديد من المنتديات الإقتصادية التركية – الإفريقية والتي ساهمت بشكل كبير في زيادة الأرقام الإقتصادية بالبلدان الإفريقية وعلى رأسها إثيوبيا التي خصصت لها تركيا منتدىً إقتصادياً منفرداً في عام 2018 وبلغ حجم الأعمال والاستثمارات التركية في إثيوبيا نحو 2.5 مليارات دولار، وتتطلع أنقرة إلى زيادتها لتصل إلى 10 مليار دولار بنسبة زيادة تبلغ 300% ورفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 420 مليون دولار ليبلغ مليار دولار بنسبة زيادة تبلغ 138% خلال الاشهر القادمة. وتعتبر الاستثمارات التركية هي الأكبر بين الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إثيوبيا مشًكلة نصف الاستثمارات الأجنبية، متفوقة بذلك على الصين والهند عبر 350 شركة تركية أتاحت نحو 10 آلاف فرصة عمل. إضافةً إلى محاولات إنشاء القواعد العسكرية على الساحل الأفريقي؛ حتى يصبح لها مخلب قط في المنطقة؛ لتنفيذ مخططاتها.
عمل النظام التركي الحالي على التقارب العسكري مع إثيوبيا؛ لعدة أسباب، أهمها بالنسبة لأردوغان، تقويض دور مصر، والتضييق عليها مائياً؛ لفرض أجندات تركية وإثيوبية سياسية واقتصادية، على غرار التعاون “الإسرائيلي – الإثيوبي”، والسيطرة على منطقة القرن الأفريقي؛ لما تتمتع به من أهمية كبيرة، جعلتها محط أنظار القوى الدولية والإقليمية؛ لتحقيق أهداف إستراتيجية عدة من بينها، التحكم في خطوط الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج عدن.
هناك حرص من الجانب التركي على التقارب مع دول الرباعي “إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي”، وارتكز أردوغان في تحركاته نحوها على أسانيد كاذبة؛ حيث يدعي أن الأتراك أحق بحكم التاريخ والجغرافيا. كما أنه يزعم تحلل تركيا من إستعمار القرن الإفريقي ويؤكد على أنها جريمة بدأها العرب بتجارتهم في الرقيق وأكملها الغرب بإحتلالهم للأرض. أما تركيا فهي بريئة من أي ميراث إستعماري.
استغل أردوغان رغبة إثيوبيا، في الانفتاح على العالم الخارجي؛ بسبب إنحسارها الداخلي وأزماتها الاقتصادية، والنزاعات العرقية، فقدم بلاده بوصفها الداعم الأول لأديس أبابا، ورفع مستوى العلاقات سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بتمويل سد النهضة، مستغلاً رغبة أديس أبابا في استعادة دورها كلاعب أفريقي مسيطر على أكبر مورد من موارد المياه في القارة. فنجحت تركيا في السيطرة على إثيوبيا؛ أملاً منها في أن تتحكم بمنابع النيل الأزرق؛ ما يجعل جميع دول حوض النيل البالغة 11 دولة، مرهونة بموقف أديس أبابا من بناء السدود المائية، وهو ما ظهر بوضوح في أزمة سد النهضة.
كما عقدت مع الجيش الإثيوبي العديد من اتفاقيات التعاون المشترك؛ لاستخدامه كأداة للتوغل في العسكرية الإثيوبية، بدلا من اللجوء إلى إنشاء القواعد، ووقَّعت أنقرة اتفاقية دفاع مشترك مع أديس أبابا في مايو/ أيار العام 2013، وتنص على تدعيم التعاون في مجال الصناعات الدفاعية، وأن تقدم تركيا دعماً فنياً ولوجستياً؛ لزيادة قدرات إثيوبيا العسكرية، ونقل التكنولوجيا الدفاعية، بأن تحصل تركيا على الدعم الفني والعسكري واللوجستي من إثيوبيا، مقابل إمدادها بالتكنولوجيا الدفاعية.
وجاء في إعلان البيان الختامي لاتفاقية الدفاع المشترك: “تركيا تنقل خبرتها في بناء السدود وتساعد في الدفاع عن السد ضد أي تهديد”؛ ما يؤكد أن مصر هي المقصودة من هذه الاتفاقية؛ نظراً لبعد المسافة بين البلدين؛ مما يجعلنا أمام مشروع تركي – إثيوبي لإضعاف الدور المصري. تعهدت تركيا في إطار تعاونها العسكري مع إثيوبيا، بحماية إنشاءات السد، بواسطة أجهزة رادارات تركية، تستخدم للإنذار المبكر، ومد إثيوبيا بنظام صواريخ “تركية – إسرائيلية” مشتركة الصنع.
لكن حدث تحول حذر في العلاقات ما بين الدولتين عندما إستشعرت إثيوبيا منافسة تركيا لها على النفوذ والهيمنة في القرن الإفريقي. كانت مظاهر هذا الحذر ظاهرة في عدة مواقف أبرزها: زاحمت تركيا أثيوبيا علي الحصة التي كانت تحلم فيها في ميناء جيبوتي، مما إستفز حكومة آبي أحمد. كما إستشعرت الحكومة الإثيوبية الخطر من تكثيف الوجود التركي في القرن الإفريقي بعد بناء الأخيرة لقاعدتها العسكرية بالصومال، الأمر الذي هدد توازن القوى في المنطقة خاصماً من رصيد أديس أبابا. و أخيراً ضاقت إثيوبيا ذرعاً بكم الأسلحة التي تساهم تركيا في تهريبها إلي الداخل الإثيوبي لتغذية الأقاليم المختلفة بهدف تأجيج الصراعات الداخلية. ووصل الأمر الى إعلان المخابرات الإثيوبية عن إحدى محاولات التهريب التي إستطاعت تتبعها من ميناء أرسين إلى ميناء جيبوتي وكشفت عن تنسيقها مع الجانب التركي لمنع تصدير أسلحة تركية الصنع للبلاد.
وكان دلالة هذا التحول هو عدم رغبة إثيوبيا في إشراك الجانب التركي بالعمليات العسكرية على إقليم التيغراي بالرغم من إتفاقية الدفاع المشترك فيما بينهما وظهر للمشهد بعضاً من البرود الدبلوماسي الذي لا يتماشى مع تاريخ التعاون العسكري والإقتصادي أيضاً. إلا أن أردوغان لن تسنح له فرصة أكبر من هذه الحرب لكي يمارس سياسته المعهودة في دعم المليشيات المسلحة مثل شباب المجاهدين في الصومال والأقاليم التي قد تطالب بالإنفصال بالداخل الإثيوبي لبيع المزيد من السلاح. خصوصاً في خضم إنشغال الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا وإضطرارها لسحب بعض القوات المهمة من الحدود مثلما فعلت مع حدودها في الصومال مثلاً، لتفسح مجالاً أوسع لتمدد السلاح التركي في القرن الإفريقي.
سادساً: القوي الدولية
الولايات المتحدة الأمريكية – الإتحاد الأوروبي- الأمم المتحدة – الإتحاد الإفريقي
الولايات المتحدة الأمريكية
كانت العلاقات الأمريكية – الإثيوبية قد تأثرت بعد إنسحاب أديس أبابا من تسوية واشنطن بخصوص إتفاق على سنوات الملئ لسد النهضة في فبراير/ شباط الماضي والتي كان يشرف عليها مباشرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب و الذي رد بدوره على التصرف الإثيوبي بقطع بعضاً من المنح لإثيوبيا. إستغل آبي أحمد فرصة إنشغال الولايات المتحدة بالإنتخابات الرئاسية وقام بالهجوم على التيغراي حتى يتمتع بفرصة تغيب الإعلام العالمي عن المشهد بالداخل الإثيوبي. حظي آبي أحمد بالإنشغال المشهود من الإدارة الأمريكية الذي تأخر رد فعلها الرسمي علي الأحداث الدامية بصدور رد فاتر من الكونغرس الأمريكي بعد عشرة أيام منذ إندلاع الحرب، مطالباً بضرورة وقف إطلاق نار فوري ومناشداً جميع الأطراف للحوار والتفاوض. لم يعرض الجانب الأمريكي وساطة ولم يدعوا لعقد جلسة طارئة بمجلس الأمن ولم يحرك وزير خارجيته لتفقد الأمر، علماً بأن إثيوبيا هي أكبر حلفاء الولايات المتحدة في إفريقيا.
الإتحاد الأوروبي
دعا جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، إثيوبيا إلى خفض التوتر والعودة إلى الحوار لتأمين سيادة القانون في جميع أنحاء إثيوبيا. أعلن الاتحاد الاوربي عبر المفوضية الاوربية تحريك 4 ملايين يورو كمساعدات طارئة للاجئين الاثيوبيين الذين فروا الى السودان هرباً من القتال الدائر في إقليم التيغراي في إثيوبيا.
وحتى الآن عبر ما يناهز الـ 50 ألف لاجئ من إثيوبيا إلى السودان منذ بداية الشهر الجاري ومعهم آليات وسيارات وعائلات وقطعان من الماشية. ونقل مكتب الاتحاد الأوروبي عن مفوض إدارة الأزمات بالاتحاد الاوربي جانيز لينارتشيتش، إشارته لوجود “أزمة إنسانية حقيقية” وأفاد أن هذا التمويل الأولي، سيستخدم لعون اللاجئين الإثيوبيين الذين اضطروا إلى مغادرة وطنهم واللجوء للسودان، لافتاً إلى أن الحل الدائم للازمة يظل في أيدي الإثيوبيين الذين يجب عليهم إيقاف العمليات العسكرية في بلادهم. واشار المسؤول الأوروبي إلى أن الدعم الذي أعلنته المفوضية سيساعد المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم. المتحدة في ولايتي كسلا والقضارف لمعالجة التدفقات المفاجئة الآنية في شرق السودان.
الأمم المتحدة
حذرت الأمم المتحدة مما قالت إنه قد يرقى إلى “جرائم الحرب”، في إشارة إلى ما رصدته تقارير من عمليات قتل جماعي تعرض لها مدنيون في إقليم تيغراي. ودعت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليت إلى إجراء تحقيق استناداً إلى تقارير تفيد بأن مئات الأشخاص تعرضوا للطعن حتى الموت في إحدى القرى.
وقالت منظمة العفو الدولية الخميس إن عشرات المدنيين قتلوا على أيدي قوات داعمة لجبهة تحرير شعب تيغراي التي اعتبرت الاتهامات “باطلة”. وعبرت باشليه عن القلق إزاء تقارير عن قطع إمدادات المياه والكهرباء ودعت الطرفين إلى بدء محادثات سلام قائلة “لن يكون هناك فائز” في حال استمر القتال. وقالت إن “نزاعاً داخلياً طويل الأمد سيلحق أضراراً مدمرة بكل من تيغراي وإثيوبيا ككل، ويقضي على سنوات من التقدم الحيوي في مجال التنمية ويمكن أيضاً أن يمتد بسهولة عبر الحدود، ما قد يؤدي إلى زعزعة منطقة جنوب الصحراء بأكملها”. ولم تتقدم المنظمة الأكبر بأكثر من التصريحات والإعراب عن القلق عن بديل بالرغم من حالة النزوح الكبيرة التي حدثت منذ اليوم الأول للحرب وخسارة المئات من الأرواح داخل إقليم التيغراي سواء بالقصف أو بإستخدام المليشيات من مختلف الأقاليم و العرقيات.
الإتحاد الإفريقي
كان وجود مقر الإتحاد الإفريقي بأديس أبابا هو مصدر للفخر وداعم لملفاتها الخارجية على طول الخط. وكان من المتوقع أن تتقبل إثيوبيا الوساطة من الإتحاد ورئيس دورته الحالية الرئيس سيريل رامافوسا رئيس جنوب إفريقيا والذي يتمتع بعلاقات طيبة مع رئيس الوزراء الإثيوبي. كما أن لإثيوبيا عدة مواقف خارجية كانت ترفض فيها أي وساطات خارجية إلا من البيت الإفريقي، ظهر ذلك جلياً في مفاوضات سد النهضة عندما أصرت إثيوبيا على أن السد شأن إقليمي إفريقي ولا شأن للدول الكبرى به! أما اليوم والشأن إثيوبي – إقليمي كما شرحنا هي ترفض كافة المناشدات الخارجية بما في ذلك مطالب الرئيس الأوغندي يوري موسيفينى ورئيس نيجيريا السابق أولسيجون أوباسانجو الذي زار أديس أبابا.
الرئيس الحالي للإتحاد الأفريقي التقى رئيسة إثيوبيا ساهلى وورك زودى التي تزور جنوب أفريقيا في مهمة يبدو أنها لصالح رئيس الوزراء أبى أحمد. وعين رامافوزا ثلاثة مبعوثين للإتحاد الأفريقي للوساطة في إثيوبيا وهم جواكيم تشيسانو، الرئيس السابق لجمهورية موزمبيق، وإلين جونسون سيرليف، الرئيسة السابقة لجمهورية ليبيريا، وكجاليما موتالنثى، الرئيس السابق لجمهورية جنوب أفريقيا. إلا أن أديس أبابا على لسان آبي أحمد رفضت كل أشكال وسبل الوساطة بالرغم من الترحيب الدولي الذي صاحب مبادرة الإتحاد الإفريقي والآمال التي كانت معقودة على قبول إثيوبيا بتلك الوساطة.
خلاصة المواقف الدولية
أتت المواقف الدولية مجتمعة بشكل هزيل لا يتناسب مع حجم الأحداث الدامية وأعداد اللاجئين المتزايدة والمرشحة لأحداث معاناة حقيقية على الأرض يعيشها أبناء إثيوبيا من إقليم التيغراي وربما أبناء أقاليم أخرى. فقد جاءت جميع ردود الفعل الدولية كلامية إلا القليل منهم.
ربما جاءت تلك الردود بسيطة ومتأخرة لإنشغال العالم بالإنتخابات الأمريكية من ناحية وإنشغال القوى الدولية في الغرب بالحرب على الإرهاب بعد موجة الأحداث العنيفة التي شهدتها بعد العواصم الأوروبية مؤخراً مثل فرنسا والنمسا. حتى المستويات التي تحدثت من الولايات المتحدة الأمريكية لم ترتقِ لمستوى رئاسي مثلاً، فقد جاء رد الفعل الأمريكي على لسان مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية بعد عشرة أيام كاملة من إندلاع الحرب. مما يثبت أن الحرب وتداعيتها الخطيرة بعيدة كل البعد عن مجال الحل أو الضغط الأمريكي المحتمل. الأمر الذي لا يتماشى مع حجم الإهتمام والثقل الذي تمتعت به إثيوبيا في العقدين الماضيين على الأقل.
إستفاق المجتمع الدولي عنوة على مشهد سحب الجيش الإثيوبي كافة الضباط والجنود التيغرانيين المتواجدين ضمن بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بالصومال وأوغندا وجنوب السودان، رهن الإعتقال داخل العاصمة أديس أبابا بعد إندلاع تلك الأحداث، مما أجبر الأمم المتحدة على إصدار تصريح بأن هناك مؤشراً خطيراً على وجود تصفية عرقية داخل الجيش الإثيوبي. كما تم تناقل إقتياد كافة العسكريين التيغرانيين مهما كانت رتبتهم قسراً إلى أديس أبابا. التطهير العرقي الذي طال حتى بعثات الجيش الإثيوبي خارج حدود الدولة الإثيوبية أجبر الأمين العام للمنظمة على عقد أول جلسة مجلس الأمن الدولي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني “بعد ثلاثة أسابيع كاملة” أول إجتماع له حول المعارك الدائرة، لكنه لم يتمكن من الاتفاق على بيان مشترك بشأن هذا النزاع . يرجع التردد الذي يهيمن على مجلس الأمن كما أكد المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك أن الإتحاد الأفريقي يتصدر الجهود الدولية الرامية لحل هذه الأزمة. فكيف للإتحاد الإفريقي أن يلعب دوراً وأديس أبابا رفضت كل حلول الوساطة التي طرحها الإتحاد علانية؟ تتوافق تلك المزاعم من الإتحاد الإفريقي مع هيمنة أديس أبابا على المنظمة الإقليمية وتكشف بما لا يدع مجالاً للشك قدرتها على التلاعب بالمشهد الدولي وإملاء أجندتها المتلاعبة.
وفي محاولة لفهم ذلك المشهد المتلاعب نطرح الآتي:
صدرت إثيوبيا نفسها للعالم على أنها نموذج قوي للتعايش والإندماج وطورت هذا التصدير إلى مستوى “إنتمائها سياسا للحضارة الغربية. عملت على تقديم النموذج الفيدرالي الغربي في ثوب على قياسها “الفيدرالية الإثنية” والذي تغنت بنجاحه وإستطاعت إقناع الدول الغربية بأنها حجر الزاوية لتجارب التعايش والإندماج القومي بالقرن الإفريقي. وحاز هذا التصدير على ثقة الجهات المانحة للدعم وأقنع المستثمرين للمغامرة داخل البلاد.
عضدت تلك الصورة بمظهرين من مظاهر السلطة التي تجتذب القوى الدولية في وجود شخصيتين على رأس السلطة الإثيوبية وهما رئيسة إثيوبيا ساهلى وورك زودى ورئيس الوزراء آبي أحمد. الأولى كونها إمرأة على رأس الدولة الإثيوبية، جعلت العالم يرى دولة تتمتع بمظهر من مظاهر الديموقراطية المنشودة في تمكين المرأة بالمعترك السياسي ولا سيما في منصب رفيع مثل منصب رئيسة الدولة. إلا أن هذه الصورة أيضاً تعد خادعة بشكل كبير حيث أنه منصب بلا صلاحيات ولا سلطات حقيقة تشارك في صنع السياسة الإثيوبية. فقد كان وجودها مفيداً لإستكمال الصورة التي رغبت أديس أبابا في نشرها دولياً عن بلد معروف عنه الإثنية والتناحر العرقي. فوجود إمرأة تمثل إثيوبيا في المحافل الدولية يعطي الجهات المانحة للدعم صورة تقترب من صورة ملكة إنجلترا، ما يعني بالضرورة تقارب أيديولوجي وسياسي مع التوجهات السياسية الغربية. أما وجود آبي أحمد على وجه التحديد وهو شاب في أوائل الأربعينات يستكمل تلك الصورة في تمكين الشباب والتداول السلس للسلطة بالداخل الإثيوبي. بذلك تكون إثيوبيا قد قدمت للعالم ثلاثة مظاهر مقنعة بنموذجها العليل ووضعت ستاراً يواري سوءة العرقية والإقتتال وهم: أولاً، تداول سلمي للسلطة، وثانياً، تمكين المرأة، وثالثاً، تمكين الشباب.
جاءت هذه الحرب بمثابة البخار الذي أرغم الغطاء على كشف ما يحويه الوعاء الإثيوبي من عدة حقائق لم تستطع محاولاتها الحثيثة على تخطيها. أولها كان حجم التلاعب بالسلطة وغياب مبدأ إنتقالها السلس والذي كان السبب المباشر لإنفجار الصراع العسكري الدامي الحالي. فالجزم دستورياً ببقاء آبي أحمد في السلطة لا يستطيع التكهن به أحد بعد التصعيد الأخير من الأقاليم الإثيوبية وليس التيغراي فقط. فالرجل منصبه أصبح على المحك بسبب إستمرار القمع لأبناء الأورومو وإرتفاع موجات الغضب لدى شعوب الجنوب والتصعيد العسكري ضد التيغراي وتحالفه مع الأمهرة الذي أثار حفيظة الكثيرين.
كل تلك الأحداث لا زال المجتمع الدولي لم يستطع التعاطي معها بشكل جذري نظراً لتفاقم الأزمة المفاجئ والتصعيد الدموي منذ يومها الأول. لكن من المتوقع أن الأمور مرشحة لمزيد من التداعيات التي قد تجبر القوى الدولية على إتخاذ خطوة أكثر جدية لإفساح الطريق لإيجاد مسار تفاوضي للخروج من الأزمة. بطبيعة الحال لن تضحي الصين والولايات المتحدة بإستثمارتها بإثيوبيا في مقابل الإبقاء على آبي أحمد والذي أصبح شخصياً طرفاً بالنزاع لن يقبل الكثيرين ببقائه إلا بشروط شديدة القسوة.
سابعاً: مصر
البلد الذي يتخذه كل رؤساء الوزراء الإثيوبيون عدواً لدودواً، حقق من وراء ذلك العداء مكاسب لم تحققها له السياسة ولا الحروب ولا حتى القروض. فبحسب ما قدمنا في هذا العرض المفصل تحتوي إثيوبيا على ثمانين عرقية مما جعلها توصف بـ “متحف للشعوب”، معظمهم متناحرون وعلى غير وفاق لعقود طويلة، الأمر الذي رشح مصر لتكون ضالة السلطات الحاكمة لتسويقها كعدو موحد لكافة العرقيات الأثيوبية. وعندما يتوحد الشعب خلف قيادته من أجل الإنتصار على هذا العدو، فإنه يصبح داجناً بما كان في يد السلطة. سوق الحكام الأثيوبيون سد النهضة للشعب الأثيوبي على أنه الأمل في الخلاص من الفقر والإنتصار على المستبد المستعمر المصري الذي يتمتع بماء نيلهم بلا مقابل ويترك إثيوبيا في غياهب الفقر والظلام بلا كهرباء.
الحلم الذي يتوارثه حكام أثيوبيا مهما إختلفت تصنيفاتهم من أباطرة، أو ملوك وثوريين وديموقراطيين. كلهم يحلمون بأن تنفتح الحدود الإثيوبية على البحر وأسياد للنيل، ولهذا السبب قامت الحروب والغزوات الإثيوبية سواء ضد الصومال، أو إرتيريا من أجل تحقيق هذا الحلم، ومهما اجتهد الباحثون في تسمية هذه الحروب العبثية، إلا أنها لم تكن سوى للزحف نحو البحر. ويصبحوا أسود النيل والمسيطر الأول عليه. حيث يشكل النيل بالنسبة للأثيوبيين منبع السيادة الأثيوبية التي يمارسوها على باقي دول الحوض. ولكن تبقى مصر هي العقبة في وجه السيادة الأثيوبية داخل القارة. بحسب ما قامت بإعلانه وزارة الخارجية الإثيوبية في وثيقتها المنشورة في عام 2002 والتي قالت “إنها تسعى لمنافسة القاهرة على السيادة في القارة الإفريقية”.
وظلت القاهرة حاضرة للإتهام في كل الحوادث الإثيوبية وحتى في إختيار آبي أحمد نفسه لمنصب رئيس الوزراء، بما فيها الحرب على إقليم التيغراي مؤخراً. فقد صرح معظم المراسلين الأثيوبيين لعدد من المواقع الإخبارية إلى عدم إستبعاد أيادي القاهرة من موقع إشتعال الأحداث. إلا أن الإدارة المصرية لا تعقب على تلك التصريحات التي إعتادت عليها سواء من المسؤولين الأثيوبيين أو من رئيس الوزراء نفسه منذ بداية الإعلان عن سد النهضة “إذا إستثنينا إجتماع الرئيس مرسي بقوى المعارضة المصرية في 2013 والذي وضع الدبلوماسية المصرية في حرج كبير”. بينما تستغل أديس أبابا كونها مقر منظمة الوحدة الأفريقية، وتشيع المغالطات عن مصر ومواقفها، وتحفز الدول الأفريقية لمعاداة القاهرة، لأنها تطالب بحقها المكتسب في مياه النيل والذي تصر على إنكاره، مستغلة وحدة اللون بينها وبين دول القارة. فهي إلى يومنا هذا، مازالت تستدعي المدرك السلبي القديم والمتعلق بوحدة اللون الأسود في مقابل اللون الأبيض للمصريين (والشمال الإفريقي عموماً) الذي يختلف عن عموم القارة السمراء. و لازالت الخطب الحماسية في القاعات وفي الساحات بإفريقيا تتعامل مع المصري على “المستعمر – الفرعوني – المغتصب”.
كانت المفاوضات بين القاهرة وأديس أبابا على مدار عقد كامل توصف بـ”حرث في النهر”، حيث أنها لم تزحزح موقف المفاوضين الأثيوبيين قيد أنملة عن مواقفها المتعنتة، بيد أن القاهرة أبدت إستعداداً كبيراً للتعاون وأظهرت مرونة من جانبها بتوقيعها على إتفاقية المبادئ في الخرطوم 2015. ولكن إثيوبيا لم تطرح على الطاولة أي مؤشر يدل على جديتها ، كما لم توقف بناء السد المتنازع عليه طوال فترة المفاوضات. تصدعت جل المفاوضات على صخرة سنوات الملئ في سنوات الجفاف وطريقة إدارة السد. ودخلت البلدين في حلقة مفرغة من المفاوضات المستعرة ليتضح أن كل إدارة جاءت لأثيوبيا كانت تحقق المكاسب السياسية المتلاحقة داخلياً كلما أرتفع سقف تعنتها مع مصر في تلك المفاوضات خارجياً.
لم تلوح القاهرة بالتعامل عسكرياً حيال أزمة سد النهضة وسارت في مسار تفاوضي طويل وظلت تؤكد عليه بكل إصرار، غير أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صرح به لرئيس الوزراء السوداني في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 وإعتبره الرأي العام العالمي “موافقة علنية لضرب السد وإشارة بإقتراب موعد التنفيذ بمباركة أمريكية” ونفت القاهرة نيتها لعمل ذلك وعادت للمفاوضات في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني. الإدارة الأمريكية أبدت إهتماماً كبيراً بخطورة سد النهضة على الأمن والسلم المائيين في القارة الإفريقية بناءً على تقارير من البنك الدولي والمؤسسات الدولية تحذر من خطورة الوضع الأمني للسد وعدم مراعاته لقواعد السلامة بالإضافة إلى مخاطره على دول الجوار. قدمت تلك الإدارة رعاية لأحد أشرس جولات المفاوضات والتي إنسحبت منها إثيوبيا بحجة إنشغالها بالإنتخابات والتي قامت بإلغائها فيما بعد أيضاً، و كانت سبباً مباشراً لإندلاع الحرب الآن. اللافت في الأمر أن أديس أبابا دخلت الحرب تزامناً مع إنشغال الإدارة الأمريكية الحالية بالإنتخابات الرئاسية، الأمر الذي يعكس منهج صانع السياسات الإثيوبي المراوغ والذي يتحين الأوقات لضرب وتهديد خصومه حتى ولو على حساب مصالح إثيوبيا نفسها.
تناسى آبي أحمد واقع آخر أن القاهرة لم تعلق على الأحداث لا وقت أحداث الأورومو الدامية في 2015 والتي أدت الي الإطاحة بدسالين والإتيان به ولا حتي في حربه على التيغراي في 2020. فمصر تعمدت النأي بنفسها بعيداً عن الأحداث الداخلية للدول وخصوصاً أثيوبيا. المحلل لموقف القاهرة من الحرب في أثيوبيا يجد جملة من الخسائر تتلخص في الآتي:
كان إختيار آبي أحمد حلاً أو حيلة سياسية للوضع المتأزم لموجة الإحتجاجات العنيفة التي شهدتها إثيوبيا من قوميته الأورومو، وكنوع من محاولات إحتواء المشهد سياسياً زج به لتولي المنصب، مع التغاضي عن إقامة حلول جذرية لمشاكل القوميات الإثيوبية القائمة. ومع تفاقم أزمة إقليم التيغراي الآن يثبت رئيس الوزراء أنه غير مؤهل لحجم المسؤولية السياسية لمستقبل بلد الـ 110 مليون إثيوبي. فمن المؤكد أنه إستطاع لبعض الوقت خداع الجميع بخطته المعلنة “تصفير الأزمات” والتي لم تدم طويلاً. فإدعائه بمحاربة الفساد مثلاً كان يعني: ملاحقة القادة التيغرانيين في السلطة وحرمان أبناء هذه العرقية بالخصوص من أية إمتيازات وتصفية حسابات قديمة تتعلق بحرمانه هو شخصياً. وإدعاءه بأنه يتعاون مع جميع العرقيات كان ينطوي على: تحالفه مع الأمهرة عدو التيغراي اللدود ومنافسه على السلطة ورهان على مليشياتهم العسكرية لكي تحارب لصالح آبي أحمد ضد التيغراي. أما إدعاءه بأنه سيعيد للأورومو نصيبهم المهدور تاريخياً من السلطة والموارد كان يحمل مزيداً من القمع الغير مسبوق لأبناء جلدته و من الواضح أن ذلك النصيب المأمول ذهب حصرياً لصالح رئيس الوزراء. كما أن السلام “النوبلي” الذي حاز عليه جراء توقيعه على معاهدة سلام مع إرتيريا، لم يأتِ إلا بـ: مكايدة التيغراي وتبادل الزيارات بينه وبين الرئيس الإيريتري والأهم التحالف والتنسيق عسكرياً الآن لهزيمة عدوهم المشترك “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي”.
لدى مصر مع إثيوبيا شراكة في مجال الإستثمار والصناعة من خلال قطاعها الخاص في منطقة مكالي بإقليم التيغراي التي يوجد بها العديد من المصانع الكبرى، منها استثمارات مصرية تقدر بنحو 10 ملايين دولار موزعة بين 10 مستثمرين مصريين، وأن المصنعين المصريين القائمين بتلك المنطقة أحدهما لإنتاج محولات الكهرباء والآخر لإنتاج الأثاث المكتبي، ويمتلكون عقود تخصيص الأرض موثقة من السلطات الأثيوبية، وعلى إثر الإضطرابات التي شهدتها البلاد تعطل العمل بخطوط الإنتاج الموجودة بالإقليم منذ شهر ونصف والآن بعد الضربات العسكرية توقفت تماماً. كما لجأت مصر للقيام بعملية لإستخراج 9 مصريين من الإقليم وإعادتهم للقاهرة. وبحسب رئيس المنطقة الصناعية المصرية بإثيوبيا علاء السقطي، المستثمرين المصريين بمنطقة مكالي في إقليم التيغراي بشمال إثيوبيا، يدرسون إقامة دعوى مؤقتة أمام التحكيم الدولي.
يتناسى المحللون عن عمد أو عن سهو أن أمن مصر المائي متعلق بأمن دول المنابع وإستقرارها وأن الفوضى الضاربة جراء هذه الحرب من شأنها أن تضر مصلحة مصر المائية والأمنية على حد سواء. كما أن الأحداث بإرتفاع وتيرتها تنذر بأزمة قد تطول وتضرب معها أمن إقليم القرن الأفريقي المتصل بمصر مائياً بالنيل من جهة وبمضيق باب المندب بالبحر الأحمر المؤدي لقناة السويس من جهة أخرى.
تضع حركة شباب المجاهدين فرع داعش بالصومال عينيها على ما يجري في إثيوبيا، ولديها كل الوسائل لمساعدتها على تمدد نفوذها عبر الحدود المشتركة، حيث يجد هذا التنظيم متنفساً وبيئة تساعد على نموه وتشرس عملياته في الصراعات والنزاعات لإنتعاش آماله في التوسع، وتشكيل بؤرة في وسط دول حوض النيل التي تتكون من تنوع ديني متعدد.
تم ضبط شحنات من الأسلحة المهربة في أديس أبابا والخرطوم متوجهة إلى إثيوبيا عن طريق الصومال وجيبوتي والسودان أيضاً قادمة من تركيا بل وتركية الصنع أيضاً من عام 2018 حتى 2020. كان هدفها، تسليمها إلى متعهدين في الأراضي الإثيوبية. وتم الإعلان عن بعض تلك الشحنات في الإعلام الإثيوبي. كما قامت الحكومة الإثيوبية بتوجيه تحذير للحكومة التركية من بيع الأسلحة للجماعات الإنفصالية بالداخل الإثيوبي أو حتى الجماعات المسلحة بدول الجوار في القرن الإفريقي.
تؤكد هذه النوعية من الأحداث أن انفجار الأوضاع الداخلية في إثيوبيا آخر شيء يمكن أن تبحث عنه مصر للدفاع عن مصالحها، أو تعبره حلا لأزمة سد النهضة، وقد تكون تكلفة عمل عسكري محدود أقل وطأة، إذا قورنت بتكاليف تصدع إثيوبيا على المدى البعيد. حيث تنتعش سياسة تركيا في الصراعات، وظروف تلك الإنقسامات توفر فرصة للاقتراب من منابع النيل عن طريق أذنابها من المتطرفين والإرهابيين. تستطيع تحريكهم لتطويق مصر من ناحية الجنوب لمساومتها وإخضاعها لإبتزاز يحلحل قبضة القاهرة القوية على ملف غاز شرق المتوسط الذي إستطاع تطويق أنقرة وحرمانها من أي أطماع محتملة. كما أن مصر إستطاعت أن تصوب رصاصة الإعدام للوجود التركي الغير مبرر أمام العالم في ليبيا. وهذه الحرب قد تخلق مسار كارثي للحالة الأمنية الذي يصعب على القاهرة أن تفتح جبهة جديدة لمواجهة عنف الجماعات المسلحة الموجه ضدها من الجنوب.
يثبت هذا العامل فساد خيال من نسجوا سيناريو لدور مخابراتي للقاهرة في أزمة إثيوبيا لإتهامها بالوقوف خلف كل انهيار هناك. تلك التهمة الجاهزة التي تبرئ مجرمين الحرب بكل سهولة. بينما في الواقع أن تلك الحرب سوف تمثل تهديداً أمنياً بالغ الخطورة لمصر في ظل قدرة تركيا على إستغلال تلك الصراعات، ونجاحها في تطوير العلاقة مع العديد من التنظيمات المتطرفة التي تستهدف إختراق الإمتداد الإثيوبي، وحاولت اختراقها من جبهة الصومال، غير أن تماسك الدولة وقوتها حالا دونها.
تهدد تلك الحرب إستكمال المفاوضات، وفق مراقبين، ففي مثل هذه الأحوال والمستجدات، لا يمكن الرهان على التوصل لأي اتفاق ملزم بشأن سد النهضة. لا وساطة الاتحاد الأفريقي مجدية، ولا الذهاب إلى مجلس الأمن ممكن، لحين اتضاح الحقائق الجديدة في إثيوبيا المشتعلة بالنيران. كما أن الحرب تعد شأن خطير يندرج قانونيا تحت بند الظروف القهرية “Force Majeure” والذي يجبر المتفاوضون على تأجيل المفاوضات لحين إنتهاء الظرف القهري وبذلك تكون هذه الحرب ذريعة جديدة لإثيوبيا للتملص من الجلوس مجدداً على طاولة المفاوضات والوصول لحل نهائي. كما أنها قد تعطيها متسعاً من الوقت للقيام بالملئ الثاني طبيعياً وتدريجياً دون الحاجة لتبرير موقفها أمام دول المنبع أو حتى المجتمع الدولي. حيث أن هذا الظرف على كل علاته وأضراره خير مخرج لبقاء السد في موضع “الأمر الواقع”.
آخر خسائر مصر من تلك الحرب هو التعاطف الدولي مع الداخل الإثيوبي وعلى حساب حقوق مصر الراسخة في حصتها المائية والتغافل عن قضية سد النهضة. حيث أن الإثيوبيين يتمتعون بحراسة اللوبي اليهودي من جهة ومن جهة أخرى، هم عضو بارز ومحرك أساسي لجماعات الضغط الإفريقية بالغرب.
ثامناً: إستنتاجات الحرب
إنهيارات في مقابل التعنتات
الوضع المتهالك من حيث التشوه البنيوي للقواعد الأمنية القومية الإثيوبية، يجعل الصورة راسخة بأن البعد الإثني يتحكم بمقاليد الأمور. إثيوبيا بترهلاتها السكانية وبأعباء عداوات العرقيات التاريخية التي تمسك بتلابيب شؤونها الداخلية منذ قديم الأزل والغارقة في شرك الديونِ الخارجيةِ والفقر، لم يبق لها سوى: غياب اللحمة الوطنية وتشتتها والإحتفاظ بالقشرة الزائفة والشِعارات الدعائية التي يحاول رسمها إعلامها والإعلام الموالي لها الذي أجهض وتحطم على أعتابِ الوقائع التي فرضها المشهد الإثيوبي ناسفاً الرهان الدولي على إثيوبيا وتجربتها المتهالكة. كما دمر فرضية الإعتماد عليها لتلعب دوراً تحالفياً أو تكون حجر زاوية للأمن في منطقة القرنِ الإفريقي. أتت هذه الحرب لتسقط ما تبقى من نقاب للإثنية والعرقية في عقل رأس السلطة الذي لا يلتفت لمصالح إثيوبيا الكبرى في التنمية ويعلي عليها مصلحته الشخصية في القضاء على عرقية كاملة من شعب إثيوبيا. تلك الحرب لم تطال الجبهة الشعبية لتحرير شعب تيغراي، بل أن المتضرر منها هم ملايين المواطنين من الشعب الإثيوبي، ما بين قتلى وجرحى ولاجئين إلى دول الجوار، بخلاف طبعاً الخسائر المادية في البنى التحتية للمدن بالإقليم والأقاليم المتناحرة.
تم تسخير الجيش الإثيوبي بالكامل لخدمة أهداف آبي أحمد من هذه الحرب. فلقد سحب كافة قواته من الحدود الجنوبية وإستخدم الطيران في ضرب محطات الكهرباء والمياه لسد تكيزي والذي إذا تم ضربه فسوف يغرق الإقليم وشرق السودان بأكمله. قامت الحكومة الفيدرالية أيضا بضرب مدن و حطمت أحياء بأكملها، ناسفة بكل خطط التنمية وشعارات تصفير الأزمات التي أتى بها آبي أحمد عرض الحائط. الخطورة في ضربات تلك الحكومة للإقليم جاءت في ضرباتها لجسم التنمية الإقتصادية من ناحية ولوحدة الجيش الإثيوبي من ناحية أخرى. فضرب أهداف البنية التحتية يعد ضرباً لأمانة قسمه في الحفاظ على أمن ومصالح شعبه بما فيهم عرقية التيغراي. والتتبع العرقي لمصالح التيغراي الإقتصادية وإقصائهم من الجيش ينبئ بحالة من التناحر العرقي التي ستطال غيرهم من العرقيات في حال طالهم غضب الحكومة.
كما رسخ في ذهن الجميع حجم الخطأ والتسييس الذي إرتكبته لجنة نوبل للسلام بإستعجالها في منحه تلك الجائزة والتي رغبت هي الأخرى في تبييض وجهها أمام العالم بعرضها للتدخل لحل الأزمة، في سابقة لم تحدث من قبل، حيث أن هذا العرض يعد خروجاً عن وظيفتها المعهودة، والذي تعنت أيضاً في رفضه. اللجنة التي عللت منحه الجائزة ذكرت أن السبب الرئيسي في ذلك هو “تشجيعه على المضي في السلام”، كان تعليلاً عليلاً لما قد أضافته تلك الجائزة لتغول آبي أحمد على السلطة ودعمت بداخله رغبة محمومة في الخلاص من جميع معارضيه من بينهم المطرب الشهير وجوهر محمد والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي والآلاف من المعارضين السياسيين بالسجون.
أما بعد كل هذا العرض يتضح أن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية أمام موقف ضاغط قد يجبرها أن ترفع يدها من آثامه وتسعى لإدانته على قرار الحرب والدخول بالمنطقة إلى مزيدا من الصراعات التي تتسبب في إحراق الكل. فإن عقارب الساعة تدق الأن لإنهاء زيف إدعائها بأنها القلعة المسيحية كما تحب أن تعرف نفسها وتتوج دورها العسكري التوسعي في المنطقة. ولا يعدوا هذا الطرح حقيقيا إلا أنه مجهز لاستجداء العطف والدعم أحد الذرائع التي استخدمتها عبر تاريخها الدموي لقهر شعبها لإرادة حكامه وشعوب المنطقة أيضاً. عانى الكل من التعنت الإثيوبي ولازال التعنت سيد المشهد. فشعب التيغراي هم مسيحيون خالصون ويعد إقليمهم العاصمة المقدسة لدى الكنيسة الأثيوبية الأرثوذكسية، كما أن الإقليم يحتوي على عدد من الكنائس والمخطوطات التاريخية للكتاب المقدس، ومع هذا يقوم آبي أحمد بقصفها بالسلاح الغربي الممنوح للدفاع عنها. وإنهار الادعاء في مقابل تعنت آبي أحمد وحكومته.
يأخذنا هذا السلاح للحديث عن إنهيار إدعاءات النظام الإثيوبي الحاكم الآن وعلى الدوام بحاجته للتنمية وحرمانه من التمويل بسبب فقره وزيادة عدد سكانه. فمن الواضح أن التمويل كان حاضراً للتسليح وغائباً للتنمية. أضاءت هذه الحرب مصابيحاً للعالم الغربي كي يبصر بها حجم التسليح المبالغ فيه الموجود بإثيوبيا، سواء لدى الجيش النظامي أو الفصائل المسلحة المختلفة. الأمر الذي يفضح التلاعب الإثيوبي بقضاياه الداخلية والخارجية. على رأس تلك القضايا تأتي أزمة سد النهضة والتي كان يصدر فيها إحتياجه الشديد للتنمية في مقابل إستغلال دول المصب لموارده. أصبح جلياً للجميع أنه لم يكن أكثر من ذريعة للحصول على الدعم والتعاطف الدولي للضغط على شركائه في المورد المائي الأساسي. إدعاءات بناها المفاوض الإثيوبي على أساس مغلوط من تصور سيادته الكاملة على رافد النيل الأزرق الذي ينبع ويمر أغلبه في بلاده. والذي يتعنت فيه أيضاً.
يتبع هذا الرافد بند القانون الدولي الذي ينص على إنه “نهر دولى” أي ملكية مشتركة لجميع الدول المتشاطئة عليه، بينما تفاوض إثيوبيا بمبدأ قديم وهو “نهر عابر للحدود” أي أن لكل دولة يعبر النهر من أراضيها حرية التصرف بالجزء الذي يصل إليها. بدون الدخول في تفاصيل القانون الدولي، إنهارت أيضاً حجج الجانب الإثيوبي لما قد يلحقه هذا السد بأضرار على دول المصب في الحالتين، سواء بحجز كميات كبيرة من المياه أو بإنهياره بسبب أخطاء في التصميم. فقد رفع البنك الدولي العديد من التقارير بخطورة ترك أثيوبيا تمضي في مساعيها مما كان سبباً مباشراً في الضغط الدولي عليها. وبعد هذه الحرب فإن الأخطار تزداد وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته للتصدي للتعنت الإثيوبي.
وهناك إنهيار جديد ظهر على السطح مع هذه الحرب متمثلاً في تلاعب إثيوبيا بالإتحاد الإفريقي حسب بوصلة مصالحها. في أزمة سد النهضة هي من تمسكت بالوساطة الإفريقية وإتهمت مصر بالإستقواء بالقوى الدولية، متعللة بأن أزمة السد هي شأن يخص البيت الإفريقي، ونادت بالعودة إلى الإتحاد الإفريقي حين تملصت من تسوية واشنطن وإتخدته رداً في جلسة مجلس الأمن أيضاً. لكن هذا الإدعاء إنهار أمام تعنتها في رفض وساطة الإتحاد الإفريقي في هذه الأزمة بالرغم من أن تداعيتها طالت دول الجوار ومرشحة للتصعيد.
أما آخر إنهيار هو لمتوالية التخويف والشيطنة للجانب المصري بتهديداته العسكرية. إذ أن الدولة المصرية لم يحدث أن لوحت بإستخدام القوة العسكرية كحلاً لنهاية أزمة سد النهضة، بالرغم من قدرتها الأكيدة على فعل ذلك. بينما حافظت الحكومة الإثيوبية في جميع مراحل الأزمة على لهجة عالية من التهديد والترويع وإلقاء الإتهامات جزافاً من أعلى رأساً في السلطة، إلى أصغر فرد من أفراد الشعب.
ختام
في ظل التصعيد العسكري الدائر داخلياً ومع التعنت الإثيوبي في الإصرار على الحسم العسكري لصراع إثني وعرقي ممتد بعمر تكوين الدولة، فنحن أمام مشهد إنقلابي بإمتياز على صيغة الحكم التي أتت برأس السلطة إلى سدة الحكم. تعود بنا هذه الحرب إلى أصل الأشياء في أثيوبيا: اللا دولة. نحن امام مجموعة من الشعوب التي لا تتمتع بإندماج وطني يحقق لها التوافق والقبول بالعيش معاً تحت صيغة موحدة. لذلك لم تنعم إثيوبيا بسلام مجتمعي دائم حتى مع تبني الفيدرالية الإثنية كصيغة للحكم وظلت العرقية هي من تمتلك ناصية الأمور.
التعامل مع الأزمة الحالية على أنها شأن داخلي والحسم العسكري فيها بات وشيكاً، هو تعمد لتغافل تداعيات الأزمة على دول الجوار. فالسودان إستقبل أعداداً من اللاجئين تخطت الأربعون ألفاً، وإرتيريا تلقت ضربات عسكرية على مطار أسمرة، أما الصومال فزادت عمليات شباب المجاهدين على أراضيه منذ إندلاع تلك الحرب. أيضاً بفرض أن حكومة آبي أحمد ذات المدة الممتدة بعد أن إنتهت مدتها البرلمانية، إستطاعت الحسم عسكرياً، فلن تضمن الإستقرار بالداخل الإثيوبي من جهة ولن تستطيع إستيعاب المأساة الإنسانية التي تسببت في إحداثها لحياة مواطنين إثيوبيين خرجوا كلاجئين من جهة أخرى.
لابد من تدخل فوري من المجتمع الدولي لوقف تلك العمليات العسكرية بالداخل الإثيوبي. فنفس العالم الذي كان يقدم إسناداً لسيناريو خيالي مصطنع للدولة في إثيوبيا، ساعد على عدم تفككها طوال القرن الماضي، هو نفسه المطالب الآن بإنهاء حالة الإقتتال العرقي نظراً لوجود حكومة غير قادرة على إنفاذ أجندتها بدون مقاومة. الموجود على الأرض هو محاولات لإندماج إكراهي بوسائل قمعية لفرض نموذج سياسي خاص بواضعه، الحالة السياسية غير مستعدة لتقبله. مضطر هذا العالم إلى توفير حالة من السلام تنهي هذا الصراع قبل إرتفاع كلفته داخلياً وإقليمياً ودولياً. كانت التيغراي هي الأقوى في التصدي المباشر لتلك المحاولات ولذلك تم شن الحرب عليها بالمعدات الثقيلة والأسلحة التي تستخدم في الحروب ضد الأعداء. لكنها لن تكون الأخيرة إذا لم يتم وضع حد لتقدم قوات الجيش الفيدرالي لعمل تصفية عرقية يدفع ثمنها الكثيرون.
خاص وكالة “رياليست” – شيرين هلال – باحثة شؤون دولية – متخصصة بالشأن الأفريقي.