ظلت اثيوبيا وعلى الدوام تقف الي جانب الجزء المدني في المكون الذي يدير عجلة إدارة الدولة في السودان، هذا الموقف الاثيوبي يتمركز حول استراتيجية بدأها ابي احمد وهي تصفير عداد الصراعات مع دول الجوار، فدخل في تسويات عديدة في المنطقة قدم فيها جملة من التنازلات الكبيرة والتي عبرها استطاع ان يحييد كثير من الدول من التدخل في الشأن الداخلي، خاصة تلك التي تتعلق بقضايا الحدود، والتى كانت دائماً ما تستغل من طرف الجوار لتسديد أهداف في شباك الداخل الإثيوبي المعقد، وبالتأكيد هذه التسوية شملت الخرطوم خاصة بعد مجيء حكومة جديدة تربط قيادتها علاقة صداقة ممتازة مع القيادة في اديس ابابا.
فالنظام السابق أعتمد دبلوماسية تصدير الثورة الإسلامية لدول الجوار، وهذا ما أدخل السودان في عزلة وصراعات مع الجوار أفقدته كثير من كروت الضغط والمناورة على المستويين الإقليمي والدولي واديس ابابا كانت احدى محطاته، وبالتالي بناءاً على تاريخ العلاقات المتأرجحة أولت الحكومة الجديدة في السودان أولوية خاصة للتعامل مع اثيوبيا إعترافاً بثقلها الإفريقي الكبير، وبإعتبارها دولة محورية مركزية تعتمدها قوى عظمى لترتيب سياساتها في المنطقة سوى كان في القرن الافريقي أو في الوسط الإفريقي، وما عزز هذا الموقف أكثر هو الوساطة التى أقامتها وتكللت بتوقيع الشراكة المدنية العسكرية وأنهت مرحلة كانت تقف فيها السودان على مسافة واحدة من مربع الحرب الأهلية، والتى كانت ستصبح جغرافية هذه المنطقة اسماً فقط على غرار ما حدث ليوغسلافيا بداية التسعينات.
وفي المقابل اعتمدت اثيوبيا علاقات طيبة مع المكونين، لكن تواصل اديس كان جزئي بالمكون العسكري، وقناعتها في ذلك وقتها أن المكون العسكري يهندس بُعد أمني في تعاطيه مع اديس ابابا وهو ما لا تحبذه بإعتباره أحد سياسات النظام السابق التى كانت تزعج أديس بابا، لكن وبعد عام من تقييم الشراكة في السودان يبدو ان أديس قررت تعديل موقفها بعد ان رأت هشاشة الجانب المدني في المشهد السياسي حيث بات يظهر في قلب التفاعلات السياسية والأمنية مفعلول به وضعيفاً على الدوام، وسيطرة تكاد قوية من الجيش على اغلب الملفات خاصة التى تتعلق بالعلاقات الخارجية، ويتعاملون مع أي تفاعلات في الجوار من بوابة الأمن القومي.
وبالتالي ما نلاحظه أن الشق العسكري في مجلس السيادة أكثر حركة، بل يضع الأجندة وتحديد السياسات والخط العام تجاه كثير من الملفات وهو إختراق صريح للوثيقة الدستورية المتفق عليها، وأهم ما يتحرك فيه المكون العسكري الآن هو سد النهضة والتقاطعات الاثيوبية المصرية في السودان ومحاولة لكسب ود الدولتين لأي تموضع عسكري قادم في السودان، وبالتالي أعتقد لهذه المتغيرات تولدت لدي اثيوبيا قناعة (شكلاً) ان الجيش في السودان يبحثون عن وضع جديد للالتفاف على مكتسبات الثورة، ولديهم طموح في الحكم ولو على المدى البعيد، و أديس كانت داعم للاتفاق الذي تم؛ فماذا يمكن ان تفعل عند هذا الوضع؟!
الآن تعتقد أديس أن تواجد المدنيين في السلطة يعني محفز ممتاز للجغرافيا التى تتواجد فيها وتقبع فيها اعتق الديكتاوتوريات الأفريقية أمثال موسفيني واسياس افورقي الي سلفاكير، كما أن مدني السودان يشجعون التجرية الفدرالية الاثنية في اثيوبيا، لأنه وفي حال نجحت إثيوبيا فيها؛ فهم بحاجة الي دارستها مع معطيات ظروف السودان لتصلح للتطبيق على أقل تقدير من باب الجغرافيا المناطقية وليس الاثنية(نظام الاقاليم قديماً في السودان) وبالنسبة لأثيوبيا فإن أي نجاح لأي صورة تحول ديمقراطي في السودان سيصب في صالحها، بحيث انها ستجد حليف اقليمي قوي، ومؤشرات حركة الرياح تدعم هذا التوجه، حيث ان السودان يكاد يكون البلد الوحيد الذى يمكن ان يتوصل لصيغة حكم ديمقراطي بخلاف جنوب السودان وأوغندا وكينيا والصومال وجيبوتي واريتريا.
تأسيساً على ما تقدم فإن أي عملية في المستقبل للانقضاض على الثورة ستكون اثيوبيا مسؤولة في أول امتحان لعلاقاتها مع الجيش، والضرورة تحتم عليها صياغة معادلة تصمد فيها على المدى القريب لصياغة سيناريوهات بديلة أي تغيير متوقع في المشهد السياسي والأمني السوداني، وهذا ما دفعها لتغيير طريقة اتصالاتها مع الجانب المدني في الفترات الاخيرة.
حاجة اثيوبيا لثبات موقف السودان المعلن اليوم أكثر من أي وقت مضى خاصة بعد تأجيل انتخاباتها المقررة في أغسطس بسبب وباء كورونا ويترتب على الموقف هل ستستمر في ملئ بحيرة السد كما هو معلن في يوليو ام ستترك ذلك إلي نهاية العام بعد موسم الأمطار وتقلل الضغط الخارجي عليها في هذا التوقيت من قبل مصر؟.
وفي الجانب الثاني من الضفة يتمركز السودان كيف يمكن التنبوء بموقفه خاصة انه يعتمد استراتيجية غير واضحة المعالم يحكمها الفعل ورد الفعل وهو في منطقة شديدة الحساسية وتجاوره مجموعة أزمات اقتصادية وسياسة من كل حدب وصوب، جزء منها قد يعصف بالحكومة الحالية وتأتي أخرى محلها أو اجراء جراحة على نفس الحكومة لكن بتغيير مقاعد اللعب بحيث يصبح رئيس الوزراء الحالي خارجها، فلا يمكن اعتماد ثبات موقف السودان في هذه الفترة الحرجة فإذا تعرض لإغراءات قد يعدل من موقفه المعلن في السابق والمتحفظ فيه عن الإجماع العربي، ورفض التوقيع على إعلان واشنطن مع الجانب المصري.
الجانب المصري تعاطيه مع الموضوع مختلف
فمصر تعي جيداً ان السودان بسبب مجموعة من الظروف كسب كثير من الوقت فأعاد ترتيب أوراقه الخاصة بموضوع السد، وحساباتها أن السودان لا يمكنه أن يضر بحصتها كما أعلن ذلك على الدوام بل سيظل مسانداً الي الجانب المصري وبالتالي في ذلك هي تفضل التعامل مع العسكريين ولا يروق لها المكون المدني، لكن ما لا يمكن للمصريين التكهن به هو ما هي نوايا من يديرون ملف سد النهضة في حكومة السودان، وهنا المقصود لجان ادارة ملف السد من غير وزير الري والموارد، من هم الذين يرتبون وهل يستطيعون تنفيذ الأجندة المصرية، او بطريقة أخرى هل يستطيع من يوفرون لهم الدعم الآن وفي المستقبل من القدرة على الضغط عليهم!؟
ظلت مصر تطرق علي موضوع الحدود السودانية الإثيوبية وبحدة، تعتقد مصر ان اخر الملفات التى يمكن اشهارها في وجه السودان هو موضوع الحدود وهو ذو طبيعتين الأولي تتعلق بنقاط الخلاف بين الجانب السوداني والاثيوبي والتي تكاد تكون معدومة لأنها أغلب الظن إجراء فني أكثر منه قانوني، وشاهد الأمر اعتراف اثيوبيا وهذا أولاً.
أما ثانياً :محاولة كسبها لوبي الأمهرا في واشنطن لإثارة النقاط الخلافية القديمة والتي دائماً كانت تأتي على صيغة تظلم من جانب حاكم اقليم الامهرا وبعض قيادات المعارضة، وأعتقد ان استراتيجية الدولة الاثيوبية ماضية تجاه وضع العلامات الحدودية، أما إثارة حكومة الاقليم لهذا الموضوع عندما تكونت عندما تشعر بأنها فقدت توازنها داخل إئتلاف الحكم الذي يقوده ابي احمد مع قوميات الجنوب، وبالتالي في حال استمر موضوع الحدود أكثر قد تعرض حكومة ابي تسوية على غرار بادمي مع التقراي الذي فازت به ارتريا، لكن لا اعتقد ان ابي يمكن ان يخاطر بتحالف الأمهرا خاصة انه عاني من معارضة التقراي بعد هذه التسوية وتسويات أخرى ذات توجهات سياسية وهي ما اودت بالمحصلة للانقلاب الاخير؛ ولم يستطع احمد حتى اللحظة ازاحة هذا الثقل، وبالتالي اغلاق مثل هذا الخط يحتاج توافق للحكومة الفدرالية المركزية وحكومة السودان، دون إستثناء الامهرا طبعاً، وإلا ستكون هذه الخطوة هي بداية لافتعال صراع حدودي جديد بين حكومة الاقليم والسودان، وهو ما ينعكس على الدولتين و يكسب مصر مزيداً من الوقت.
ثالثاً: إن أي تسوية للحدود تتم مع اثيوبيا سيترتب عليها تسوية حدود أيضاً مع مصر ، فهل مصر على استعداد ان تتنازل عن مثلث حلايب وشلاتين مقابل تسوية تتعلق بالمياه التى تمثل عصب الحياة للمصريين، أم انها غير مستعدة لهكذا تنازل وهذا ما يضعها في خانة المفاضلة بين خيارات الحرب مع الدولتين.
في 8 ابريل زار رئيس مجلس السيادة البرهان حدود السودان الشرقية في ولاية القضارف ورافقه في الزيارة عدد من الجنرالات وأودع من دوكة عدة رسائل ضمنية مبطنة، حيث قال: (الواجب يحتم علينا حماية مواطنينا وحدودنا في أي مكان) وجاءت الزيارة بعد ان انتشر الجيش في منطقة الفشقة التي تستخدمها عصابة الشفته لترويع المواطنين وهي من أفضل الأراضي في العالم، واستخدمتها العصابات بعد أن فتحت جبهات القتال في الجنوب ودارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، وقد هجروا منها المزارعين السودانيين، في قض طرف واضح من المخابرات الإثيوبية،. كما جاء التصريح الرسمي لاديس وقتها ان انتشار الجيش في الفشقة أمر سوداني داخلي، وهنا قطعت أديس الطريق امام أي عملية ابتزاز متوقعه جديده لتحافظ على التوازن مع السودان.
أما الرسائل التي أودعها رئيس مجلس السيادة في بريد الرئيس السيسي، فأعتقد فسرت ان الجانبان (السوداني، والاثيوبي) ماضيين في ترسيم الحدود..فما هو البديل؟
اما التفسير الثاني فيتمحور في اتجاهين الاتجاه الأول والذى قطفته المخابرات المصرية كما فعل الاعلام المصري بالمانشيتات العراض جاء مها في الصحف (توتر حدودي بين السودان واثيوبيا والمواجهة باتت وشيكة) وكثير من العناوين، ففسرت خطأ أيضاً، أما التفسير الثاني المبطن من البرهان اننا نقف لجانبكم مقابل كسب مصر البرهان، وفهمتها مصر ووجهة إعلامها للعمل بهذه الفرضية.
هناك من تحدث عن حرب وشيكة ستكون ساحتها السودان بين الدول الثلاث، المؤشرات وظروف الحرب تقول ان أي خيار عسكري من جانب مصر أو اثيوبيا هو مكلف ومكلف جداً لا سيما بعد ان ابتدر حدس الجانبين اصطفاف اقليمي، فاثيوبيا طافت المنطقة وحشدت قدراتها مع حلفاءها واصدقاءها وبالتأكيد وضعت سيناريو لتحييد من هم ضدها، وقد ابلغت ما لديها للافارقة، مصر فعلت ذات الشيء مع العرب، ووضعت نفس التحديات امامها.
لكن ما تدركه مصر ولا تستطيع أن تتحدث عنه هو ان اثيوبيا عندما ارادت بناء السد بعد ان حشدت الداخل باعتبار السد قضية حياة ومسألة أمن قومي، ذهبت وأدخلت فيه عدد من القوى الاقليمية والدولية أهمها الصين وإسرائيل ودول صاغت معها بيان الجامعة العربية الآخير الذى تحفظ عليه السودان، وهذه الدول اودعت مبالغ معتبرة للاستثمار في سد النهضة لأنها هي مهددة في المستقبل بالمشكلة المائية واثيوبيا يقال لها نافورة العالم، فالمشروع ضخم جداً ولدى إثيوبيا حلفاء أقوياء، فاذا ارادت مصر الدخول في اي عملية عسكرية لردع إثيوبيا؛ عليها اولاً ان تضع في الإعتبار مصالح هذه القوى مجتمعة.
لم يكن ليثار موضوع الحدود فجأة؛ لولا أن زيارة نائب المجلس لم تأتي أكلها، فقد زار نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو القاهرة واستغرقت يومين، اليوم الأول كان عادياً لكن في اليوم الثاني وبعد خروج حميدتي من القصر الرئاسي بعد لقاءه الرئيس السيسي حاولت احدي الصحفيات تسديد هدف في مرمي الرجل عندما سألته عن موقف السودان من سد النهضة ماطل ولم يجاوب، وساق مجموعة تطمينات على قوة العلاقات الاخوية ودلف الي المصير المشترك، والصحفية كانت ملامح وجهها تحاول استغلال تصريح من الرجل بموقع رسميته في الدولة، ولا ترغب طبول اذنها سماع هذه الأشواق، فأضطرت لمقاطعته وأعادة علبه طرح السؤال بطريقة أخرى، وقد كانت إجابته هذه المرة قاطعه حيث قال: ” تركنا ملف سد النهضة لرئيس الوزراء” فما كان من الصحفية الا وان شكرته، وهنا لم تحصد مصر الذي كانت تصبو إليه من الشخصية العسكرية الثانية، في الدولة.
الموقف الثاني وهو عندما جاء وفد مهم برئاسة مدير المخابرات المصرية العامة اللواء عباس كامل للسودان، وهنا لابد من الإشارة الي أن مدير المخابرات المصرية قدم الي السودان في ظرف أقل من شهر مرتين المرة الأولى حسب ما اعلن عنه انه جاء لبحث عملية التفجير الاخيرة.
وعليه نشير هنا أن نهاية المشهد ستترتب على تطورات اقليمية كالآتي :
أن يحث المكون العسكري أطراف الحرية والتغيير او يتجاوزها لإجراء جراحة تعصف بحمدوك وتطمن الجميع انه لا مساس بمكتسبات الثورة، وهنا يتخلص المكون العسكري من حمدوك ومن حرجين الحرج الأول: هو الحرج الاقليمي من جانب الدول التى رعت الاتفاق ، والحرج الثاني عدم جعل البعض يفكرون في انها محاولة انقلابية وفي نفس الوقت هذا سيرضى الكثيرون عن المكون العسكري ، ومنها تتشكل حكومة تعمل بخليط مرحلي في صورة أقل ما يوصف بشراكة أكثر منها تعيينات في وزارات.
فالثابت عند الدولتين هو مصالحهم القومية والمتغيير لديهما هو مشهد السلطة في السودان.
أبوبكر عبدالرحمن/ باحث في العلاقات الدولية- خاص “مجموعة خبراء “رياليست”