بغداد – (رياليست عربي): حينَ تنظرُ الأممُ إلى ماضيها، ترى في تراثها الثقافي مرآةً لا تعكسُ وجوهَ الأجدادِ فحسب، بل تُطلُّ منها أسئلةُ الهويَّةِ وأحلامُها المتجددة. ليس التراثُ سجلًّا مُغبرًّا للحكايات، ولا رموزًا جامدةً من زمنٍ غابر، بل هو لغةٌ حيَّةٌ تتحدَّثُ بها الشعوبُ حين تلتقي؛ نهرٌ يجري بين ضفافِ الحضارات، حاملًا في تياره ألوانَ الفنونِ وعبقَ الأساطيرِ وصدى الأنغام.
هذا النسيجُ المُتشابكُ من التجاربِ الإنسانيَّة، الذي نسجَتْه الأيدي والعقولُ عبرَ العصور، لم يكُن يومًا حِكرًا على أمةٍ دون أخرى. فحينَ التقتْ مآذنُ إسطنبولَ بكنائسِ البندقية، وامتزجَ إيقاعُ الطبولِ الأفريقيَّةِ بألحانِ الغيتارِ الإسباني، لم يذبُ أحدُهُما في الآخر، بل وُلِدَ من لقائهما جمالٌ ثالثٌ يحملُ بصمةَ الاختلافِ والانتماء.
لطالما كان التاريخُ شاهدًا على هذا الحوار. فـ”طريقُ الحرير” لم يكُن مجرَّدَ شريانٍ تجاريٍّ يربطُ الصينَ بروما، بل كان جسرًا للكلماتِ والألوانِ والمعتقدات. حملَ التجارُ على ظهورِ الجمالِ قصصَ “ألف ليلة وليلة” من بغدادَ إلى سمرقند، ونقشَ الفنانونَ الصينيونَ زخارفَ الساسانيينَ على أوانيهم، بينما حملَ الرحالةُ أمثالَ ابن بطوطةَ وماركو بولو صورَ المدنِ البعيدةِ إلى أوطانِهم، ففتحوا نوافذَ لثقافاتٍ كانت ستظلُّ أسيرةَ المجهول.
وفي العراق، نجد تراثًا ثقافيًا ثريًا يُعدُّ من أقدمِ وأغنى الموروثاتِ الحضارية في العالم. فبلادُ الرافدينِ كانت مهدَ الكتابةِ الأولى، حيثُ اخترعَ السومريونَ الخطَّ المسماريَّ، كما شهدتْ بابلُ وأشورُ نهضةً عمرانيةً وعلميةً لا تزالُ بصماتُها واضحةً في معابدِ الزقوراتِ والمسلاتِ التي تروي قوانينَ حمورابي. أما في الموسيقى، فإنَّ المقامَ العراقيَّ يُعَدُّ إرثًا فنيًا متفردًا يجمعُ بين التأثيراتِ الفارسيةِ والتركيةِ والعربية، مُجسدًا تلاقحَ الثقافاتِ عبرَ العصور.
وفي روسيا، نجد مثالًا آخرَ على تلاقح الثقافاتِ من خلالِ الفنونِ الشعبيةِ والعمارةِ التي تأثرتْ بالأنماطِ البيزنطيةِ والتتاريةِ والأوروبية. فالكرملينُ في موسكو ليس مجردَ قلعةٍ تاريخية، بل انعكاسٌ لصهرِ التأثيراتِ المعماريةِ التي شهدتها البلادُ عبرَ العصور. كما أنَّ الأدبَ الروسيَّ، من تولستوي إلى دوستويفسكي، لم يكُن معزولًا عن الفكرِ الأوروبيِّ، بل حوارًا مستمرًا بين القيمِ الروسيةِ والتجاربِ الإنسانيةِ العالمية، مما يجعله جزءًا من التراثِ الثقافيِّ المشتركِ للبشرية.
واليوم، في عصرِ الصواريخِ والإنترنت، يواجهُ التراثُ تحدياتٍ لم تكن في الحسبان. فبينما تُحوِّلُ التكنولوجيا المواقعَ الأثريَّةَ إلى عوالمَ افتراضيةٍ (كإعادةِ بناءِ تدمرَ السوريةِ رقميًّا)، وتُتيحُ مكتباتُ العالمِ مخطوطاتِها النادرةَ بنقرةِ زرّ، تهددُ العولمةُ بمسخِ الهوياتِ تحتَ شعاراتِ الاستهلاكِ المُوحَّد. فقد أصبحت أنماطُ الحياةِ العصريةِ تميلُ إلى تسطيحِ الثقافات، حيثُ تُستَخدمُ الفنونُ التقليديةُ في شعاراتِ تجاريةٍ دونَ فهمٍ لمعانيها، وتُنتَجُ عناصرُ التراثِ بصيغٍ مكررةٍ تُرضي الأسواقَ بدلًا من الحفاظِ على روحها الأصيلة.
لكنَّ المجتمعاتَ التي تُدركُ أن تراثَها ليس “متحفًا” للتفاخر، بل وقودًا لإبداعِ المستقبل، تبني جسورًا جديدةً: ففي مهرجان “الجنادرية” السعودي تتعانقُ الألوانُ المحليةُ مع فنونِ العالم، ومشاريعُ اليونسكو لترميمِ المواقعِ (كتماثيل بوذا في باميان) تُذكِّرُنا بأنَّ الحفاظَ على التراثِ مسؤوليةٌ إنسانيَّةٌ لا تُورَث. كما أنَّ المبادراتِ الفرديةَ والمجتمعيةَ تلعبُ دورًا محوريًّا؛ فالحرفيونَ الذين يُعيدونَ إحياءَ فنونِ النسيجِ والخزفِ المندثرة، والمبادراتُ الرقميةُ التي توثقُ اللغاتِ المهددةِ بالاندثار، كلها تُمثلُ مقاومةً صامتةً ضدَّ طمسِ الهويَّة.
لكنَّ هذا الحوارَ ليسَ ورديًّا دائمًا. فكيف نتعاملُ مع مَن يسعى لاحتكارِ تاريخٍ مشتركٍ (كالنزاعاتِ حولَ ملكيةِ حجر رشيد بين المتاحفِ الغربيةِ ومصر)؟ أو مَن يختزلُ ثقافاتٍ غنيةً في صورٍ نمطيةٍ للاستهلاكِ السريع؟ هنا يصبحُ الحلُّ ليس في الانكفاءِ على الذات، بل في الاعترافِ بأنَّ كلَّ تراثٍ هو مرآةٌ للضعفِ البشريِّ المشترك. حينَ نسمعُ شعرَ المتنبي يتردَّدُ في قصائدِ اليابان، أو نرى تأثيرَ الخطِّ العربيَّ في عمارةِ الأندلس، ندركُ أنَّ الجمالَ لا يعرفُ حدودًا، وأنَّ الحضاراتِ العظيمةَ هي تلك التي لا تخشى الاقتراضَ من الآخرينَ لتبنيَ بيتًا أوسعَ للجميع.
التراثُ الثقافيُّ ليس سردًا للماضي، بل محادثةٌ مفتوحةٌ مع الغد. هو الذاكرةُ التي تُنبِتُ أجنحةً للمستقبل، وتُذكِّرُنا بأنَّ اللحظاتِ الأجملَ في التاريخِ لم تكنْ لحظاتِ صراعٍ، بل تلكَ التي التقتْ فيها الأيدي فوقَ أنقاضِ الحروب، لتبنيَ من شظايا الفخارِ القديمِ فسيفساءَ إنسانٍ جديد. فحمايةُ التراثِ ليست مسؤوليةَ الحكوماتِ وحدها، بل التزامٌ فرديٌّ وجماعيٌّ، يبدأُ من التعرفِ على كنوزِ الماضي، وينتهي بجعلها جزءًا من إبداعِ المستقبل.
خاص وكالة رياليست – عبدالله الصالح – كاتب، باحث ومحلل سياسي – خبير العلاقات الثقافية الدولية – العراق.