القاهرة – (رياليست عربي): تشهد منطقة البحر الأحمر منذ عدة أسابيع تحولات خطيرة وغير مسبوقة، تُنذر بتحولها إلى ساحة حرب بين “محور المقاومة” بزعامة إيران و”القوى الغربية” بزعامة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، في جولة جديدة من جولات فرض النفوذ والهيمنة على الممر المائي ذي الأهمية الجيوستراتجية، وهو ما بات أمرًا واقعًا بعد أن قامت واشنطن ولندن فجر الجمعة 12 يناير 2024 بتوجيه عدة ضربات جوية على أهداف تابعة لحركة “أنصار الله” اليمنية بزعامة “عبد الملك الحوثي” والمعروفة إعلاميًا باسم “جماعة الحوثي”.
مما لا شك فيه أن المواجهة غير المباشرة بين إيران وأمريكا ستلقي بظلالها على منطقة الشرق الأوسط خاصة بلدانه النامية والناشئة، فمثلما دفعت دول المنطقة ثمنًا باهظًا جراء الحرب الروسية الأوكرانية، ستدفع أثمانًا جديدةً لا يمكن تقديرها جراء مواجهة يتلاعب طرفاها بالممر الاقتصاد الأهم في العالم “البحر الأحمر”.
ووفقًا لما جاء في بيان القوات الجوية الأمريكية، وجهت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مدعومتين من أستراليا وكندا وهولندا والبحرين ضربة جوية بصواريخ “بي جي أم – 109 توماهوك” BGM-109 Tomahawk الهجومية الأرضية، استهدفت 60 هدفًا في 16 موقعًا تابعًا للحوثيين باليمن، يضم أنظمة رادار، ومنصات إطلاق طائرات مسيرة، وصواريخ باليستية وكروز.
وقال الرئيس الأمريكي “جو بايدن” Joe Biden: “إن الضربة استهدفت مواقع يستخدمها المتمردون الحوثيون، تعرض حرية الملاحة في أحد الممرات المائية الأكثر حيوية في العالم للخطر”.
وفي أعقاب ذلك، ذكر القيادي الحوثي “عبد القادر المرتضى”، رئيس اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى، عبر منصة “إكس”، أن غارات جوية استهدفت عدة مدن يمنية، وقال: “العدوان الأمريكي الصهيوني البريطاني على اليمن يشن عدة غارات على العاصمة صنعاء، ومحافظتي الحُديدة وصَعدة”.
وبعد يوم واحد من الضربة الأولى، أي صباح السبت 13 يناير، أعلنت “القيادة المركزية الأمريكية” USCENTCOM أنها وجهت ضربة جديدة على موقع رادار تابعًا للحوثيين في اليمن.
وصرح المتحدث باسم جماعة الحوثي “محمد عبد السلام” لوكالة الأنباء البريطانية “رويترز”، أن الضربات ليس لها تأثير كبير على قدرة الجماعة على استهداف السفن في البحر الأحمر.
وقال الرئيس “جو بايدن” إن واشنطن سلمت “رسالة خاصة” إلى إيران بشأن الحوثيين في اليمن عقب تنفيذ الضربة الثانية، وأضاف: “لقد سلمنا هذه الرسالة بشكل خاص، ونحن واثقون من أننا مستعدون بشكل جيد”، دون توضيح مزيد من التفاصيل.
وتتهم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد من الدول الغربية، إيران بإمداد الحوثيين بالأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة، بالإضافة إلى تقديم برامج تدريبية ونقل الخبرات والتقنيات الحديثة في المجال العسكري والحربي.
وكانت الحكومة البريطانية قد قالت في فبراير 2023 إنها قدمت لمنظمة الأمم المتحدة أدلة تثبت أن هناك رابطًا مباشرًا بين إيران وتهريب أنظمة صاروخية يستخدمها الحوثيون في هجماتهم على السعودية والإمارات. وقد تمثلت هذه الأدلة في أسلحة إيرانية صادرتها البحرية الملكية البريطانية في بداية عام 2022 من قوارب تابعة لمهربين في المياه الدولية غرب إيران، وكانت تحتوي على صواريخ أرض – جو، ومحركات صواريخ كروز أرضية، وطائرة دون طيار رباعية المراوح مصممة للمراقبة وجمع المعلومات. كما تقول الإدارة الأمريكية إن الاستخبارات الإيرانية تقوم بدور حيوي يمكن الحوثيين من استهداف السفن.
وتنفي إيران تورطها في هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر أو تزويدهم بالأسلحة والتكنولوجيا العسكرية، لكن من المعروف أن الحوثيين إحدى الجماعات المدعومة من إيران والموالية لها، وكانوا قد أعلنوا أنفسهم جزءًا من “محور المقاومة” الذي تتزعمه إيران، وينصاب كل من أمريكا وإسرائيل العداء علنًا.
وفقًا لما أعلنته القيادة المركزية الأمريكية، تأتي الضربات الأمريكية البريطانية المشتركة بعد شهر ونصف من الهجمات الحوثية على سفن الشحن والبضائع في البحر الأحمر، حيث شن الحوثيون 26 هجومًا على سفن تجارية في البحر الأحمر وخليج عدن منذ 19 نوفمبر 2023، لكن هجومهم مساء الثلاثاء 10 يناير 2024 وصفته القيادة المركزية بـ “المعقد”، ووزير الدفاع البريطاني “جرانت شابس” Grant Shapps بــ “الأكبر والأوسع نطاقًا”.
وبناءً لما جاء في بيان القيادة المركزية الأمريكية، أن طائرات مسيرة انتحارية أحادية الاتجاه المعروفة باسم “الذخائر المتسكعة”، وصواريخ كروز وباليستية مضادة للسفن قد أُطلقت من مناطق يسيطر عليها الحوثيون في اليمن باتجاه ممرات الملاحة الدولية جنوبي البحر الأحمر على تجمع سفن يبلغ عددها 50 سفينة، لكن الطائرات المقاتلة “ماكدونيل دوجلاس إف/ إيه – 18 هورنت” The McDonnell Douglas F/A-18 Hornet، والمدمرة البريطانية “إتش أم إس دايموند” HMS Diamondقد تمكنتا من إسقاط المسيرات والصواريخ دون وقوع خسائر مادية أو بشرية.
منذ بداية الهجمات الحوثية، أوقفت بعض شركات الشحن الكُبرى رحلاتها في منطقة البحر الأحمر، في حين ارتفعت تكاليف التأمين 10 مرات اعتبارًا من أوائل ديسمبر الماضي. وتذكر الولايات المتحدة أن ما يقرب من 15% من التجارة العالمية المنقولة بحرًا تمر عبر البحر الأحمر؛ يشمل ذلك 8% من الحبوب، و12% من النفط الخام، و8% من الغاز الطبيعي المسال.
ويقول الحوثيون إن هجماتهم “تستهدف سفنًا مرتبطة بإسرائيل، وتتم ردًا على العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، ولن تتوقف قبل دخول ما يكفي من مساعدات إنسانية إلى القطاع المحاصر”، لكن قائد القوات البحرية الأمريكية، نائب الأدميرال “براد كوبر” Brad Cooper، يؤكد أن الهجمات الحوثية الـ 12 الأخيرة لم تستهدف سفنًا لها أية علاقة بإسرائيل، بل سفنٌ أخرى.
وقد سبقت الضربات الأمريكية البريطانية، تحذيرات للحوثيين وتهديدات لهم من قبل واشنطن ولندن وما يقرب من 12 عاصمة حول العالم، بالإضافة إلى عمليات دفاعية مشتركة نُفذت في إطار “عملية حارس الازدهار” Operation Prosperity Guardian، وهو تحالف متعدد الجنسيات تأسس في ديسمبر 2023 تحت قيادة الولايات المتحدة، ويهدف إلى حماية خطوط الملاحة الدولية جنوبي البحر الأحمر وخليج عدن من الهجمات الحوثية على السفن المرتبطة بإسرائيل جراء الحرب في غزة. لكن التحذيرات والعمليات الدفاعية لم تثن الحوثيين عن الاستمرار في الهجمات، حيث قال عضو المجلس السياسي الأعلى للحوثيين “محمد الحوثي”: “إن كل بلد يورط نفسه في التحالف الذي تقوده أمريكا في البحر الأحمر، سيفقد أمنه البحري، وسيكون عرضة للاستهداف في البحر الأحمر”.
وكان الحوثيون قد تمكنوا عقب اندلاع الحرب في اليمن عام 2014 من السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد؛ بما فيها العاصمة صنعاء وشمال اليمن وساحل البحر الأحمر.
يُنظر إلى الضربات الأمريكية البريطانية المستمرة على الحوثيين في اليمن من زاويتين متباينتين، حيث تراها الحكومات الغربية عملية منفصلة تمامًا عن الحرب الدائرة رحاها في قطاع غزة بين حركة حماس الفلسطينية وإسرائيل، وتعتبرها رد ضروري على هجمات الحوثيين غير المبررة وغير المقبولة على السفن التجارية في البحر الأحمر. أما اليمن والعالم العربي، فيريان أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بعد تنفيذ هذه الضربات تنضمان إلي حرب غزة إلى جانب إسرائيل فعليًا، بعدما أعلن الحوثيون أن هجماتهم تتم تضامنًا مع حركة حماس وأهالي غزة، وهو ما يجعل الكثيرين متيقنين يقينًا تامًا من أن الغرب ينفذ أوامر رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” Benjamin Netanyahu وينصاع له.
من الممكن أن تحد الضربات الجوية الأخيرة من قدرة الحوثيين على مهاجمة السفن على المدى القصير، لكن من المؤكد كلما طال أمد هذه الضربات، زاد خطر انجرار الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى صراع آخر في اليمن، فقد استغرق السعوديون أكثر من 8 سنوات لإخراج أنفسهم من هذا البلد بعد أن تدخلوا في الحرب الأهلية الدائرة هناك، وأصبح الحوثيون الآن أكثر رسوخًا أكثر من ذي قبل.
على أية حال تهدف الضربات الأمريكية البريطانية إلى منع الحوثيين من مواصلة هجماتهم على سفن الشحن في البحر الأحمر وتوفير الأمن الملاحي في هذه المنطقة، لكن يقول الحوثيون إنهم لن يواصلوا هجماتهم فحسب، بل سيكون لهم رد قاطع على الولايات المتحدة.
بصرف النظر عن العمليات العسكرية والتهديدات اللفظية المتبادلة بين الجانبين؛ هناك سؤال ملح يطرح نفسه الآن.. لماذا تعتبر منطقة البحر الأحمر مهمة إلى هذا الحد لدى الغرب؟
الأهمية الجيوستراتيجية للبحر الأحمر
يقع البحر الأحمر بين الجزيرة العربية شرقًا وأفريقيا غربًا، وهو عبارة عن أخدود مائي مستطيل ضيق، يمتد بانحناء نحو الغرب من خليج عدن جنوبًا إلى شبه جزيرة سيناء شمالًا، ومن هناك يتفرع عنه خليجان، هما: “خليج العقبة” شرقًا و”خليج السويس” غربًا، وتفصل بينهما شبه جزيرة سيناء.
تطل على البحر الأحمر 8 دول؛ المملكة العربية السعودية واليمن من الشرق، والأردن وفلسطين المحتلة وشبه جزيرة سيناء من الشمال، ومصر والسودان وإريتريا وجيبوتي من الجهتين الغربية والجنوبية.
تمتلك السعودية أطول ساحل على البحر الأحمر، تليها مصر، ثم إريتريا والسودان، ثم اليمن، وأخيرًا جيبوتي. أما فلسطين المحتلة والأردن فشواطئهما قصيرة جدًا، وتقع أقصى شمال خليج العقبة.
تقدر مساحة البحر الأحمر عند السطح ما بين 438 و450 ألف كيلومتر مربع، ويمتاز بضحالة نسبية عند طرفيه، ويزداد عمقًا في الوسط، حيث تصل أعمق نقطة فيه إلى ما يقارب 3 آلاف متر، في حين يبلغ متوسط عمقه ما يقارب 500 متر، ويبلغ طوله من جنوب السويس إلى مضيق باب المندب حوالي 1930 كيلومتر.
ترجع تسمية البحر الأحمر بهذا الاسم إلى طحالب “تريكوديزميوم” Trichodesmium أو ما تُعرف باسم “نشارة البحر”. عندما تموت زهور هذه الطحالب تحول لون المياه من الأزرق المخضر إلى البني المحمر (الماهوجني)، لذا سُمي بالبحر الأحمر.
يتمتع البحر الأحمر بموقع إستراتيجي فريد من نوعه؛ إذ يقع في قلب العالم، ويربط بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويصل بين المحيط الهندي وبحر العرب جنوبًا، والبحر الأبيض المتوسط شمالًا.

يحتوي البحر الأحمر على عدد من الممرات الإستراتيجية المهمة المتحكمة بحركة الملاحة العالمية؛ أبرزها “قناة السويس” التي تعتبر المدخل الشمالي له، ونقطة التقائه بالبحر الأبيض المتوسط. ومضيق “باب المندب” الذي يعد بوابته الجنوبية، والرابط بينه وبين خليج عدن والمحيط الهندي.
قناة السويس ومضيق باب المندب ممران إستراتيجيان متلازمان، كوّنا البُعد الجيوستراتيجي للبحر الأحمر بسبب ارتباطهما بخط الملاحة الأقصر والأسرع والأقل تكلفة بين شرق آسيا وأفريقيا وأوروبا –وسنأتي للحديث عنهما بشيء من التفصيل بعد قليل– فمع وجودهما أصبح هذا البحر شريانًا ملاحيًا دوليًا رئيسًا، وواحدًا من أكثر الطرق التجارية حيوية في العالم، إذ تمر عبره مليارات الدولارات من البضائع والسلع كل عام.
يحتوي البحر الأحمر كذلك على عدد كبير من الجزر الإستراتيجية المتحكمة بحركة الملاحة العالمية أيضًا؛ وهي تشكل نقاطًا أمنية على امتداده؛ منها: جزيرة “بريم” والمعروفة أيضًا باسم “ميون” الواقعة في مدخل مضيق باب المندب، وجزر تيران وصنافير وجوبال الواقعة عند مدخل خليجي العقبة والسويس، وجزر حنيش ودهلك وحالب.
يمثل البحر الأحمر أهمية خاصة للعالم العربي، إذ يمتد ما يقرب من 90% من سواحله على أراض عربية، ويربط بين شقي العالم العربي في آسيا وأفريقيا، فهو يكاد يكون بحرًا عربيًا خالصًا، ويضاعف من أهميته كونه معبرًا رئيسًا لتصدير نفط الخليج إلى الأسواق العالمية.
كما يعد البحر الأحمر المنفذ البحري الوحيد للأردن والسودان وإريتريا وجيبوتي، والمنفذ البحري الجنوبي لإسرائيل، وتحظى كل من اليمن وجيبوتي بمواقع إستراتيجية حساسة على مضيق باب المندب المتحكم في حركة الملاحة الرئيسة به، بينما تتحكم مصر في حركة الملاحة بقناة السويس.
يتمتع البحر الأحمر بأهمية أمنية وعسكرية على الصعيد الدولي، حيث يعد محطة ذهاب وإياب الأساطيل الحربية بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي وأفريقيا وصولًا إلى الصين واليابان والمحيط الهادي، لذا أصبح هذا البحر محل صراع دولي، حرصت القوى العظمي على أن يكون لها موطئ قدم ونقاط نفوذ سياسي به، فاحتشدت به عشرات القواعد العسكرية الأجنبية.
قناة السويس
“قناة السويس” ممر مائي اصطناعي مزدوج المرور، تجرى ما بين ميناء بورسعيد وخليج السويس بمصر، وتوصل البحرين الأبيض المتوسط والأحمر معًا. يبلغ طولها الحالي ما يقرب من 192 كيلومترًا، وعرضها عند عمق 11 مترًا ما بين 170 إلى 190 كيلومترًا، وتنقسم طوليًا إلى قسمين شمال البحيرات المُرّة وجنوبها، وعرضيًا إلى ممرين منفصلين في أغلب أجزائها لتسمح بعبور السفن من الاتجاهين في الوقت نفسه.
تعد قناة السويس أهم الممرات البحرية في العالم، حيث يمر منها ما بين 8% إلى 12% من حجم التجارة العالمية، و30% من إجمالي سفن الحاويات ونقل البضائع العالمية، وخلال الــ 25 سنة الماضية، تضاعفت سعة الحاويات 4 مرات.
تفصل قناة السويس بين قارتي آسيا وأفريقيا، وتعد أقصر الممرات البحرية وأسرعها بين أوروبا والبلدان الواقعة حول المحيط الهندي وغرب المحيط الهادي، حيث توفر نحو 15 يومًا من وقت الرحلة عبر طريق “رأس الرجاء الصالح”، لذا فهي أكثر القنوات الملاحية استخدامًا على مستوى العالم، فقد بلغت إيرادات القناة في العام المالي (2020/2021) نحو 5.840 مليار دولار أمريكي.
على هذا النحو تمثل قناة السويس أهمية كُبرى للاقتصادي الأوروبي بوجه خاص وللاقتصادي العالمي بوجه عام، مما يستدعي ضمان الأمن الملاحي الكامل والدائم بها وفي الممرات والمعابر المؤدية إليها، وفي حالة تعطيل الملاحة بها لأي سبب من الأسباب سواء داخلية أو خارجية، سيتكبد الاقتصاد العالمي خسائر فادحة.

في عام 2021 عندما تعطلت حركة الملاحة بقناة السويس لمدة 6 أيام بسبب جنوح سفينة “إيفر جيفن” Ever Given، تداولت التقارير الإخبارية أرقام صادمة عن معدل الخسائر المالية الناجمة عن تعطيل الملاحة في القناة، حيث قدرت شركة التأمين الألمانية “أليانز” Allianz خسائر الاقتصاد العالمي عن كل يوم تعطلت فيه الملاحة بقناة السويس برقم يتراوح ما بين 6 إلى 10 مليون دولار.
كما ثمنت المجلة البريطانية “لويدز ليست” Lloyd’s List، المتخصصة في أخبار الشحن البحري وكل ما يتعلق به، قيمة البضائع العابرة على مُتُن السفن في قناة السويس يوميًا بنحو 10 مليار دولار، أي أن كل ساعة تعبر من القناة شحنات قادمة من أوروبا ومتوجهة إلى آسيا أو بالعكس يبلغ متوسط قيمتها 400 مليون دولار.
تشمل هذه الشحنات كل أنواع البضائع وموارد الطاقة والمواد الخام؛ كالغذاء والطعام، والدواء والمعدات الطبية، والنفط الخام والغاز الطبيعي المسال، والمكونات الرئيسة اللازمة لمختلف الصناعات الكُبرى والصُغرى كالأدوات والآلات الصلبة واللينة والمنتجات التكنولوجية، وقطع الغيار، فضلًا عن السلع الاستهلاكية المختلفة الأساسية والكمالية.
لذا يعتبر تعطيل الملاحة في قناة السويس لأي سبب من الأسباب تخلخلًا خطيرًا في سلسلة تأمين الاقتصاد العالمي؛ وهي سلسلة تربط العديد من الصناعات والاقتصادات حول العالم بعضها ببعض في ظل عالم قطع شوطًا طويلًا تحت مظلة “العولمة”.
والحقيقة عندما نتحدث عن الأهمية الاقتصادية لطريق الملاحة في البحر الأحمر وممرات الحيوية، فإن الأمر لا يتعلق فقط بنقل النفط والغاز من الخليج العربي إلى جميع أنحاء العالم، أو الهواتف المحمولة والأحذية المصنوعة في الصين إلى أوروبا، أو نقل السيارات وأجزاء الطائرات والمواد الكيميائية من أوروبا إلى آسيا فحسب، بل إن المكونات الأساسية في الصناعات الحديثة كالمعالجات الدقيقة المُصنَّع ثلثيها في تايوان تُنقل عبر البحر الأحمر؛ وهي مكونات إذا لم تصل إلى شركات الإنتاج، فإن الصناعة العالمية، وبالتبعية الاقتصاد العالمي المعتمد على التقنيات الحديثة والمتطورة سيصابان بالشلل فعليًا.
مضيق باب المندب (بوابة الدموع)
مضيق “باب المندب” ممر مائي طبيعي يمثل البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، ويصله بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي، ويشكل حلقة مهمة في الطريق التجاري البحري الأقصر والأقل تكلفة، تربط شرق آسيا بأوروبا.
يتمتع المضيق بأهمية إستراتيجية وعسكرية واقتصادية، جعلته ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وقد عملت القوى المتنافسة على تعزيز نفوذها فيه من خلال إنشاء قواعد عسكرية بالجزر والدول المطلة على البحر الأحمر، تتحكم في فتح المضيق وإغلاقه في وجه الأعداء عند الحاجة، فأصبح ورقة رابحة في الحروب والنزاعات.
يقع باب المندب في أقصى جنوب البحر الأحمر بين الزاوية الجنوبية الغربية لشبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، ويحده من الجانب الآسيوي اليمن، ومن الجانب الأفريقي جيبوتي، ويبلغ عرضه نحو 30 كيلومترًا من رأس منهالي على الساحل الآسيوي إلى رأس سيّان على الساحل الأفريقي.
تقع جزيرة بريم اليمنية في مدخل المضيق الجنوبي، وتقسم المضيق إلى قناتين؛ قناة “إسكندر”، وتعتبر الأصغر بين القناتين، وتقع في الجهة الشرقية بمحاذاة البر اليمني، ويبلغ عرضها 3 كيلومترات وأقصى عمق لها 30 مترًا. وقناة “دقة المايون”؛ وهي القناة الأكبر، وتقع في الجهة الغربية متاخمةً السواحل الأفريقية، ويبلغ عرضها نحو 25 كيلومترًا وعمقها 310 أمتار.

ترجع تسمية “باب المندب” إلى كلمة “الندب”، أي البكاء على الموتى، والمقصود هنا “باب الدموع”. وقد ذُكرت أسباب عدة لهذه التسمية؛ من بينها بكاء النسوة اليمنيات على رجالهن الذين فقدوا أثناء عبورهم المضيق. كما قيل إن التسمية جاءت من ندب النسوة الأفريقيات أولادهن وبناتهن الذين أُخذوا كعبيد وسبايا إلى الجزيرة العربية عبر المضيق، إبان غزوات القبائل العربية لأفريقيا.
وتذكر إحدى الأساطير أن سبب التسمية يعود إلى ندب الموتى الذين غرقوا في البحر، نتيجة هزة أرضية فصلت بين قارتي آسيا وأفريقيا. وقد ذكرت بعض المصادر أن اسم “باب المندب” مستمد من الفعل “ندب” أي “بعث وأوفد”، لأن المضيق بمثابة معبر بين البحر الأحمر وخليج عدن.
يعد مضيق باب المندب من أهم المعابر المائية في العالم، وقد برزت أهميته بشكل واضح عقب افتتاح قناة السويس عام 1869، حيث غذا يشكل إحدى حلقات الطريق البحري الأقصر والأسرع الواصل بين شرق آسيا وأوروبا، ويمتد من المحيط الهندي مرورًا ببحر العرب وخليج عدن، عبر باب المندب إلى البحر الأحمر، ثم البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس.
تنامت أهمية المضيق الاقتصادية مع مرور الزمن، حيث شكل ممرًا بحريًا للتجارة الدولية، بسبب ما يوفره من الجهد والوقت والتكلفة المادية، وأصبح يتمتع بحركة ملاحة كبيرة في كلا الاتجاهين، إذ تمر به معظم أنشطة التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، ونحو 10% من حركة الملاحة العالمية.
اكتسب المضيق أهمية اقتصادية كبيرة خلال حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين وظهور النفط في الخليج العربي، ونظرًا لما تمتاز به قناتاه (إسكندر ودقة المايون) من الاتساع والعمق، وقدرتهما على استيعاب السفن الضخمة وناقلات النفط العملاقة بسهولة في كلا الاتجاهين، شكَّل باب المندب إلى جانب مضيق هرمز وقناة السويس أضلاع مثلث الملاحية الثلاثة الناقلة موارد الطاقة في العالم أجمع.
يحتل مضيق باب المندب المرتبة الثالثة عالميًا من حيث عبور موارد الطاقة بعد مضيقي مَلَقا وهرمز، حيث تمر منه معظم صادرات النفط الخام والغاز الطبيعي المسال من الخليج العربي العابرة قناة السويس أو خط أنابيب “سوميد”، ويقدَّر عدد السفن التي تمر منه بأكثر من 21 ألفًا سنويًا، بما يعادل 57 سفينة يوميًا. ووفقًا لمعطيات “إدارة معلومات الطاقة الأمريكية” Energy Information Administration في عام 2018، يمر عبر “باب المندب” نحو 6.2 مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمكثفات والمنتجات البترولية المكررة باتجاه أوروبا والولايات المتحدة، وإلى الأسواق الآسيوية مثل سنغافورة والصين والهند، وذلك بما يعادل حوالي 9% من إجمالي النفط المنقول بحرًا في العالم.
يكبد إغلاق باب المندب دول العالم خسائر اقتصادية فادحة، حيث ستضطر السفن إلى الالتفاف حول جنوب القارة الأفريقية عبر طريق “رأس الرجاء الصالح”، مما يزيد وقت العبور مسافة إضافية قدرها 6 آلاف ميل بحري، وبالتالي زيادة تكاليف الشحن، في مشهد يدفع العالم إلى ذرف الدمع على أموال طائلة تلقى هباءً في البحر مثلما ذرفت النساء اليمنيات والإفريقيات دموعهن على فقدان رجالهن وأبنائهن في البحر، ويجعل المضيق اسمًا على مسمى.

الحفاظ على المصالح الاقتصادية، وتأمين خطوط التجارة الدولية، والبقاء قرب مراكز تصدير موارد الطاقة، وترسيخ النفوذ السياسي بالمنطقة؛ جميعها أسباب جعلت مضيق باب المندب يتمتع بأهمية إستراتيجية كُبرى، مما استدعى حرص الدول العظمى على إنشاء قواعد عسكرية لها في الجزر الواقعة داخل المضيق، وفي محيطه، وعلى شواطئ الدول المطلة عليه. كما يوفر المضيق ميزة الدفاع عن البوابة الجنوبية للبحر الأحمر من نقاط حصينة تقع إما على الشواطئ المرتفعة ذاتية الحماية الطبيعية، أو فوق جزيرة بريم الواقعة عند مدخله الجنوبي، ومن ثم إمكانية إقامة نقاط الرصد والمراقبة ومحطات الرادار أو إقامة القواعد العسكرية.
حشود من القواعد العسكرية
ظهرت الأهمية العسكرية لمضيق باب المندب عام 1973 أثناء الصراع العربي الإسرائيلي، حين اتفقت مصر مع اليمن على إغلاق المضيق أمام إسرائيل، وتنامت أهميته الأمنية عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، إذ قامت أمريكا بالعمل على تأمين الملاحة بالمضيق في مواجهة عمليات تنظيم القاعدة الإرهابي وظاهرة القراصنة بالمنطقة فيما بعد، عن طريق تأسيس قاعدة عسكرية لها في جيبوتي عام 2002.
وفي الفترة ما بين عامي 2008 و2017 أنشأت 4 دول أخرى قواعد عسكرية لها بجيبوتي، وهي: إسبانيا، واليابان، وإيطاليا، والصين.
مع تصاعد عمليات القرصنة الصومالية في مضيق باب المندب وخليج عدن ما بين عامي 2008 و2012 نتيجة الحرب الأهلية الصومالية، التفت المجتمع الدولي إلى ضرورة توفير الحماية الكاملة على طول ساحل البحر الأحمر لمواجهة ظاهرة القرصنة، مما أدى إلى تدويل المنطقة من خلال الحضور المكثف للقوى العسكرية من مختلف الجنسيات. وعلى الرغم من ذلك قدَّر البنك الدولي عام 2013 خسائر الاقتصاد العالمي بسبب القراصنة الصومالية بما يقارب 20 مليار دولار خلال عام واحد.
وفي عام 2017 أنشأت تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها في العالم بالصومال، وأسست الإمارات قاعدة عسكرية في إريتريا وأخرى في بربرة بالصومال. ووقعت السعودية على اتفاق مع جيبوتي لإنشاء قاعدة لها هناك، وتمكنت إسرائيل من بناء قواعد عسكرية لها على عدد من الجزر التابعة لإريتريا.
على هذا النحو، أصبحت منطقة مضيق باب المندب، وما حولها تعج بالقواعد العسكرية للقوى المتنافسة على فرض النفوذ فيه والهيمنة عليه.
مع وجود هذا الكم الهائل من القواعد العسكرية الأجنبية تحولت منطقة البحر الأحمر إلى مرتع تتصارع فيه الدول الكُبرى من أجل فرض النفوذ والتحكم بحركة الملاحة به، شأنه شأن بحر الصين الجنوبي، والخليج العربي، والبحر الأبيض المتوسط، وسائر الممرات والمعابر المائية الجيوستراتيجية حول العالم.
سيطرة الحوثيين على اليمن
مع اندلاع الحرب في اليمن عام 2014، وما تبعها من سيطرة الحوثيين على أجزاء كبيرة من البلاد، بما فيها العاصمة صنعاء وشمال اليمن وساحل البحر الأحمر، وبالتالي مضيق “باب المندب”.
تزايدت التهديدات الأمنية في منطقة البحر الأحمر خاصة مع الدعم الإيراني للحوثيين بالأسلحة والتكنولوجيا والمعدات العسكرية المتطورة، مما مكنهم من تعطيل حركة الملاحة بالمضيق في كثير من الأحيان.

بناء على ذلك، انخرطت عدد من الدول الخليجية والعربية في الحرب الدائرة باليمن، وشُكل “التحالف العربي في اليمن” بقيادة السعودية، بهدف دعم نظام الرئيس “عبد ربه منصور هادي” في مواجهة الحوثيين المواليين لإيران والرئيس الأسبق “على عبد الله صالح” المتحالف معهم.
نفذ التحالف العربي أول عملياته العسكرية في اليمن في أواخر مارس 2015 تحت مسمى “عاصفة الحزم”، واتخذ الحوثيون جزيرة “بريم” المتحكمة في المدخل الجنوبي لمضيق باب المندب قاعدة عسكرية لهم، ولكن التحالف تمكن في أكتوبر من العام نفسه من السيطرة على “باب المندب”، وقامت الإمارات بعدها ببناء قاعدة عسكرية لها في بريم.
منذ تدخل التحالف العربي في اليمن، طالت هجمات الحوثيين سفنًا في المضيق، أو على مقربة منه، واحتجزوا سفنًا عديدة تعود ملكيتها إلى دول التحالف، وأطلقوا صواريخ ألحقت أضرارًا جسيمة بسفينة “سويفت” الإماراتية.
وفي عام 2016 أطلق الحوثيون قذائف صاروخية على البحرية الأمريكية بالقرب من باب المندب، وزرعوا ألغامًا بحرية في المياه الإقليمية بشكل عشوائي.
وفي عام 2018، أعلن وزير النفط السعودي “خالد الفالح” تعليق جميع صادرات النفط عبر مضيق باب المندب لمدة أسبوعين، وذلك عقب هجوم شنه الحوثيون على سفينتين محملتين بالنفط الخام. وعلى إثر تعرض الحوثيين لـ 3 سفن؛ إحداها سعودية جنوب البحر الأحمر في نوفمبر 2019، أعلن التحالف العربي أن سلوك الحوثيين يمثل اعتداءً على أمن باب المندب، وتهديدًا حقيقيًا لحرية الملاحة الدولية والتجارة العالمية.
الحوثيون وطوفان الأقصى
عقب اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 بين حركة حماس الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلية في قطاع غزة، انضم الحوثيون إلى القتال الدائر عن طريق إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة باتجاه إسرائيل، وأعلنوا في 16 نوفمبر أن “باب المندب” والمياه المحيطة به سيتم إغلاقها في وجه السفن الإسرائيلية، وأية سفن حربية تحميها إسرائيل أو على علاقة بها بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي 19 نوفمبر احتجز الحوثيون حاملة المركبات “جالاكسي ليدر” Galaxy Leader المملوكة لإسرائيل وطاقمها. وفي 3 ديسمبر 2023 هاجم الحوثيون سفينتين إسرائيليتين جنوبي البحر الأحمر، هما “يونيتي إكسبلورر” Unity Explorer و”نمبر ناين” Number 9، بطائرة دون طيار وصاروخ بحري، واستهدفوا كذلك سفنًا إسرائيلية بالمحيط الهندي وخليج عدن.
مع استمرار العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، أعلن الحوثيون في 9 ديسمبر منع مرور جميع السفن من مختلف الجنسيات المتوجهة من وإلى الموانئ الإسرائيلية، وهاجموا العديد من السفن الإسرائيلية والأجنبية أثناء عبورها بالمنطقة بالصواريخ والطائرات المسيرة.
على إثر ذلك، شرعت عدد من شركات الشحن الدولية الكبرى من منتصف ديسمبر 2023 في وقف مرور سفنها عبر باب المندب والبحر الأحمر بشكل مؤقت؛ من بينها “ميرسك لاين” Maersk Lineالدانماركية، ومجموعة الشحن الفرنسية “سي إم إيه، سي جي إم” CMA CGM، و”إم إس سي” MSC Cruises الإيطالية السويسرية، وشركة النفط البريطانية العملاقة “بريتش بتروليوم” British Petroleum
نجم عن ذلك ارتفاع سعر الغاز الطبيعي في أوروبا بنسبة وصلت إلى 7.9%، وسط مخاوف من انقطاع تدفق الطاقة، كما غيرت مجموعة من السفن مسار رحلاتها لتفادي المرور بالبحر الأحمر عن طريق الالتفاف حول جنوب أفريقيا مرورًا برأس الرجاء الصالح.
سببت هذه التهديدات ضربة قاصمة للاقتصاد الإسرائيلي، إذ أُصيب ميناء إيلات على البحر الأحمر بالشلل التام، وطال وقت الإبحار في المسار البديل إلى إسرائيل ما بين 17 و22 يومًا على أقل تقدير، وهو ما أدى إلى رفع تكلفة الشحن وأسعار البضائع وعرقلة الصفقات وعمليات التبادل التجاري.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر