لا شك ان التحديات والمتغيرات التي استطاع الأردن ان يواجهها اتسمت بغاية الخطورة, منذ تأسيس الإمارة عام 1921م إلى إنشاء المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946م واستقلاله عن الإنتداب البريطاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية, مرورا بمرحلة نهضة البلاد منذ 1952 بقيادة الملك الحسين بن طلال لمرحلة قيادة العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني بن الحسين منذ عام 1999م ولغاية الأن, حيث عبر الأردن منذ التأسيس قبل عشرة عقود بسفينة النجاة اخطر موجات التغيير والتفكيك بدءاً من سايكس بيكو ثم وعد بلفور الذي قضى على أخر آمال شعوب المنطقة في الأمن والسلم, الذي زرع الكيان الصهيوني وإحتلاله لفلسطين, لتنشب في أعقابه عدة حروب متتالية مع اسرائيل في اطار الصراع العربي الاسرائيلي وتداعياتها السياسية والاقتصادية المهلكة للحرث والزرع, وللثروات والقدرات العسكرية العربية بعد هزائم مؤلمة متتابعة, مروراً بالحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي.
و هذه الحرب استنفذت طاقات بشرية وعسكرية هائلة للمنطقة وشعوبها, رافقها سقوط الاتحاد السوفيتي وانهياره المتغير السياسي الأبرز في المشهد السياسي, الذي فتح المجال للولايات المتحدة الامريكية لقيادة العالم بأحادية القطب بعد انزياح القطب السوفيتي وتفككه, هذا اضافة الى حرب الخليج الثانية, واحتلال العراق على وقع استراتيجية الولايات المتحدة في الحرب على الارهاب, بإطار أحادي القطبية لقرارها في المواجهة مع التطرف والتشدد, وخلق اعداء إفتراضيين من المتشددين لممارساتها وسياساتها المتوحشة في المنطقة, تمثلوا بتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش), إلى جانب دعم حركات شعبية وجماهيرية في معظم دول المنطقة مطالبة في التغيير( الربيع العربي)ومحاولاتها إسقاط أنظمة وتغييرها بالفوضى الخلاقة, هذا فرض على كافة الاطراف الدوليين ضغوط سياسية واقتصادية بنظام عالمي جديد.
الأردن أحد اهم من تأثر بهذه المتغيرات القاسية للغاية فهو في قلب العاصفة. الأردن الذي استثمر في هذه الظروف موقعه الجغرافي ومحدداته السياسية في توظيف سياسته الخارجية نحو بناء أوصر الثقة والإحترام المتبادل , سواء في علاقاته مع دول الجوار والمجتمع الدولي بشكل أمثل لخدمه مصالحه, فهي حقيقة جاءت برؤية ناضجة سياسياً, حدت من أغلب التوترات السياسية, والصراعات العسكرية في المنطقة, رغم ذلك شكل الأردن بهذا المسار السياسي توازناً عقلانياً في إدارهة محددات سياستها الخارجية انطلاقاً من علاقات حسن الجوار الإقليمي وفق معطيات سياسية أبرزها: حجم إمكانيات الأردن الاقتصادية المتواضعة, وأهمية موقعه الجيوبوليتكي, والقدرة الفائقة في بناء علاقات دولية متوازنة, أدت الى تمكين وثبات القيادة السياسية في الأردن لتحقيق أمن وإستقرار ونمو الداخل الأردني عبر مراحل البناء والنهضة, والتي امتدت من مرحلة تأسيس الإمارة الى إنشاء المملكة وإستقلالها الى الوقت الحالي.
خير مثال يمكن تناوله بهذا الجانب هو إدارة الأزمة العالمية الحالية في مواجهة فيروس كوفيد 19 (كورونا) والتي حقق بها الأردن تميزا في معالجة مراحل الوقاية ومنع الإنتشار ومعالجة الحالات المصابة والمتوقع انها قد استجابت للعدوى, فهي بهذا المشهد تمثل قدرة نموذجية في حجم الإجراءات الإستباقية للمواجهة والتعامل مع تداعيات هذه الكارثة الانسانية التي عمت الكرة الأرضية في تسخير كافة إمكانيات الدولة الأمنية والعسكرية والصحية والتعليمية والخدمية كل حسب مسؤولياته.
الأردن رغم ضعف الإمكانيات الاقتصادية وتعدد العوامل المقيدة لصانع القرار السياسي الأردني سواء في جانب موقعه الاستراتيجي أو عدم إمتلاكه لثروات طبيعية كبيرة, ومياه اقليمية, إضافة الى إلتصاقه الطبيعي بالقضية القومية الفلسطينية, فإن هذه القيود والتحديات جعلت العاهل الأردني يسعى الى إستثمار, وتوظيف كافه المتغيرات السياسية من أحداث ووقائع تناوبت وتتابعت في تاريخ المنطقة, لتحقيق أمن وإستقرار الأردن والعمل بشكل حثيث نحو إستراتيجية الحفاظ على علاقات وطيده وجيدة مع دول الجوار, والتأثير السياسي فيها عبر علاقات وثيقة ومتزنة لإعتبارات سياسية واقتصادية تحفظ أمن الأردن من أي خلل أو توتر في العلاقة مع الكيان الصهيوني الذي يشترك مع الأردن بحدود مواجهه برية وبحرية تقدر 600كم كعامل تحسب وجاهزية لصد أي عدوان محتمل.
لاشك أن الأردن في موقعه السياسي والجغرافي ودوره الإقليمي كلاعب مهم إقليميا وسط إقليم ملتهب وأمواج عاتية من التحديات والأخطار والصراعات التي فككت أقوى الأنظمة الإقليمية ونقلت أغلب شعوب المنطقة الى حالة من الفوضى وإنعدام الأمن وضياع ثرواتها وتهجير وإبادة شعوبها.
فيما تبدو مكانة الأردن السياسية في خارطة الشرق الأوسط أكثر تأثير مقارنة بالعديد من الأنظمة الإقليمية التي تفتك بها الصراعات الطائفية والحروب الأهلية وحروب الإنابة ذات التوجهات الإستعمارية والتوسعية التي عطلت وقاومت كل المساعي نحو إستقرار المنطقة وأمنها, هذا تطلب ان يعود الأردن باستراتيجيته نحو موقعه الجيوبولتيكي في توظيفه ضمن إطار سياسات منهجية تمنحه علاقات خارجيه متميزة تحقق له تحالفات دولية متزنة وعميقة مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي, تمكن الأردن بذلك فتح المجال له للقيام بدور إقليمي مؤثر بكافه الأطراف والحصول على مساعدات عسكرية وأمنية تحفظ الأمن والإستقرار له في محيطه المضطرب, هذا بالإضافة الى ان الأردن بسياساته المتوازنة استطاع ان يشترك مع أطراف إقليمية في الترتيبات الأمنية التي تفرضها تهديدات وتحديات تعيشها المنطقة أبرزها الصراع العربي الإسرائيلي و جهود مواجهة التنظيمات الإرهابية المتطرفة وإنقسام المجتمع الدولي حول العديد من الصراعات القائمة .
واقع الأردن السياسي في ضوء المتغيرات الخطيرة التي باتت تشكلها مشاريع الغرب المتوحش تتجلى في موقف الأردن الثابت, والمتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني, وحق العودة لللاجئين منهم, وتأكيد السلطة السياسية أيضا على حق الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس المحتلة, في مواجهة تغول الإحتلال الصهيوني ودعم الإدارة الامريكية لسياسات الإستيطان, وخططه التوسعية في ضم كامل الأراضي الفلسطينية تحت ذرائع ومسوغات أمنية, لهذه الإعتبارات السياسية باتت مؤشرات قوة رفض الأردن لمخططات الولايات المتحدة, لمشروع الشرق الاوسط الجديد وبإحدى اهم مراحلة ( صفقة القرن) القائمة على تفكيك دول عديدة في المنطقة إلى كيانات سياسية قومية, وطائفية, وقومية متعددة, وإعادة توزيع ثروات المنطقة, وتثبيت كيان إسرائيل بإطار يهودية الدولة في المنطقة لتمتد على كامل ارض فلسطين بواقع جديد بإطار صفقة القرن التي حصلت على موافقة ودعم وتأييد إقليمي كبير , لإنهاء الصراع الغربي الاسرائيلي وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي القضية المحورية في نشاط الحراك السياسي العربي الإسلامي.
اياد المجالي- مدير المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية (فرع الشرق الاوسط)، خاص لـ”رياليست” الروسية.