العداء الغربي إلى روسيا أيدولوجي قديم، ويمكن أن نقول أنه بدأ منذ أن انتشرت الديانة المسيحية في العالم شرقاً وغرباً، ونتاج لشقاق المجامع المسكونية المقدسة، التي انعقدت لمناقشة العقيدة المسيحية، والتوافق على توصيفها، لكنها بدلاً من التوافق تجذر الاختلاف، وتشكَّل كرسيان باباويان، أولهما “كرسي روما الكاثوليكي”، وثانيهما “كرسي القسطنطينية الأرثذوكسي”، وبالمناسبة في تلك الفترة، وبعد مجمع “خلقدونيا المسكوني”، بات الكرسي البابوي بمثابة ديانة كاملة، وليس مُجرد مذهب داخل الدين الواحد، أي أصبحت هناك ديانتان مسيحيتان، كل واحدة منهما تقول بأنها الديانة الحقة والوحيدة .
في تلك الفترة كان عموم روسيا تابع للكرسي البابوي “البيزنطي”، واستمر هذا الوضع حتى مُنتصف القرن الخامس عشر بالتحديد في العام 1453، وهو العام الذي سقطت فيه “القسطنطينية”، عاصمة الدين الأرثذوكسي في يد “العثمانيين”، وسط ربما تحريض أو تواطؤ أوروبي واضح، ابتهاجــًا بسقوط الديانة أو الكرسي البابوي المناوئ لهم، واكتسب العثماني مكانة الطفل المدلل لدى الغرب، ابتهاجاً باحتلاله المتوالي للممالك الأوروبية الشرقية الأرثذوكسية، كما لو كان بالنسبة للغرب مبعوث العناية الإلهية للقضاء على الدين الأرثذوكسي، وقد انخرطت روسيا وحدها في بضع وعشرين حرباً مع العثماني، لم تهزم خلالها سوى في ثلاثة حروب فقط، وظلت هي الدرع الحامي للدين الأرثذوكسي.
أما بعد سقوط القسطنطينية، فكاد أن يندثر بذلك المذهب الأرثذوكسي، لولا أن سارعت الكنيسة في روسيا بعقد مجمع مُقدَّس، انبثق عنه ما سُمي وقتها “اللجنة”، تقوم هذه اللجنة بدور الكرسي البابوي الأرثذوكسي الغائب في شرق العالم، وقد أعطى القيصر “بيتر” الأكبر الشرعية لهذه اللجنة، وجعل منها جزءًا من حكومته، وعيَّن مُمثلاً دائمــًا لهذه اللجنة في حكومة القيصر، حتى بات هو القائم بأعمال الكرسي البابوي الأرثذوكسي في عموم روسيا .. وقد اشتملت تلك اللجنة على خمس أوبرشيات رئيسية هي “بطرسبرج”، و”موسكو”، و”كييڤ”، و”نوڤجورود”، و”ڤلاديمير”، ثم أعلنت روسيا تأسيس الكرسي البابوي على أرضها فيما بعد، وهكذا باتت روسيا حامية الدين الأرثذوكسي، وفي نفس الوقت عدوة أهل الدين الكاثوليكي.
هذا عن التاريخ الماضي، وماذا عن التاريخ الحديث؟
استمر الأمور تتراوح بين الشرق والغرب حتى بعد أن اندلعت ثورة فبراير البلشفية، ووئد الدين من عموم روسيا، أيضاً لم يقبل الغرب الصيغة البلشفية الجديدة، ولم يستسيغ إنتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العظمى على النازي، وبلوغ قلب برلين، واحتلال مبنى “البوندستاج” ليقتسمها مع الغرب!
منذ تلك اللحظة، وإن كانت الجيوش النظامية قد أخذت استراحة مُحارب من الاقتتال الضاري، إلا أن حربــًا من نوع جديد ما لبثت أن اندلعت، وهي “الحرب الباردة”، وهو اسم استحدث حينها لوصف الوضع المستجد بين الطرفين، فلم يستسيغ الغرب أو أمريكا على الأخص أن يُقاسمها الاتحاد السوفييتي في النفوذ على أرض أوروبية على الإطلاق، وهي من خطط ليكون اشتراكها في الحرب هو الأساس الذي تبني من فوقه “أوروبا الأمريكية” المستقبلية، إن صح التعبير!
ومن هذا المنطلق اندلعت أحداث حرب باردة، وسرعان ما تصاعدت وتيرتها عندما أرسل الدبلوماسي الأميركي “چورچ كينان”، الذي كان يعمل في عاصمة السوفييت موسكو حينذاك، برقية مُطوّلة إلى واشنطن، تتضمن آلاف الكلمات على غير عادة البرقيات الدبلوماسية الموجزة في اختصار شديد!
أما تلك الرسالة، فقد أصابت حظــًا عظيمــًا من الشهرة عالميــًا فيما بعد، ولقبت بلقب “البرقية الطويلة”، وكان مُجمل فحوى هذه الرسالة الفريدة من نوعها، هو أن قادة السوفييت لا يفهمون في التعامل سوى بمنطق القوة فقط، وأن على الغرب أن ينتقل إلى سياسة ردع السوفييت في كل مكان وإلا ..!
كتب كينان في رسالته: “إن السوفييت لا يدركون مفهوم الحل الوسط، وأن “الطابور الخامس للشيوعية” – أي جواسيسهم – يعملون في كل مكان من العالم، وأن جُل هدف “البلاشفة” هو تدمير ما أسماه التعايش الداخلي في المجتمعات الغربية، ونمط الحياة التقليدي بها، خاصة وأن هذه السياسة ليست بالحديثة، بل تضرب بجذورها في التيارات القومية الروسية العميقة، منذ أن اندلعت الثورة البلشفية في عموم الإمبراطورية الروسية”!
هذه الرسالة التحذيرية، كانت بمثابة شرارة البدء فيما سُمي بالحرب الباردة، وما لبث “ونستون تشرشل” رئيس الوزراء البريطاني المتقاعد آنذاك، أن أعلن في خطاب في مدينة “فولتون” صراحة، عن ضرورة فرض ستارًا حديديــًا، أو طوقــًا ناريــًا حول العدو، يبدأ من بولندا وصولاً إلى البحر الأدرياتيكي، ثم عاد وكرر نفس مُقولة كينان “الطابور الخامس للشيوعية” هو الذي يهدد الحضارة المسيحية “لاحظ”، وتمادى بالقول، بأنه ينبغي على الغرب أن ينشر في العالم أجمع بصفة مستمرة المبادئ العظيمة، حول الحرية وحقوق الإنسان، والتي هي من تراث عالم الناطقين باللغة الإنجليزية فقط “لاحظ”!
كان هذا إعلان مُباشر لزعيم غربي، بأن القادم بين الفسطاطين الذين انقسم العالم إليهما – المعسكرين الشرقي والغربي – لا لون له على الإطلاق سوى الأسود.
وفي المقابل، سرعان ما جاء الرد من الزعيم السوفييتي “ستالين”، حيث شبّه في مقابلة مع صحيفة برافدا السوفييتية ونستون تشرشل ذاته بهتلر، وقال: “إن السيد تشرشل قد بدأ بشن الحرب عالميــًا، مُنطلقــًا من النظرية العنصرية التي أشعل هتلر العالم بسببها، وتساءل: هل الأمم الناطقة باللغة الإنجليزية فقط هي الأمم المتمتعة بالكمال، والمدعوة لتقرير مصير العالم بمجمله”؟
ولم يفت على الرئيس الأمريكي آنذاك “هاري ترومان”، هو الآخر أن يُدلي بدلوه في هذه المساجلات الخطابية، التي شكّلت واقع ودستور الحياة في العقود التالية.
فقد أعلن ترومان عن نهج عالمي جديد، أسماه “حق تقرير المصير للشعوب”، وهو الإعلان الذي دُعي بمبادئ تحمل اسمه، أو ما يمكن تسميته ببساطة بمبادئ التدخل الأمريكي في أي مكان بالعالم، والأدهى أنه أكد على أن الولايات المتحدة سوف توافق فقط على أي تغييرات چيو سياسية تحدث في العالم، والتي تعتبرها صحيحة طبقــًا للمعايير الأمريكية!
من خلال هذا النهج الأمريكي الجديد، أُعلن عن استعداد الولايات المتحدة لتقديم المساعدات الاقتصادية والمالية والسياسية العسكرية لجميع الأنظمة حول العالم، حتى المعادية منها للديمقراطية – باستثناء الأنظمة الشيوعية – ثم تلى ذلك وضع “خطة مارشال”، لإعادة بناء أوروبا التي دمرتها الحرب، ومن خلال هذه الخطة – التي لم تملك أي من الدول الأوروبية حق الاعتراض على أي من بنودها – تم ربط كل دول أوروبا الغربية اقتصاديــًا وسياسيــًا، بل وأيضــًا عسكريــًا بالولايات المتحدة الأمريكية.
ومن هنا تحوّر هذا التحالف الغليظ، وأصبح فيما بعد يحمل اسم “حلف شمال الأطلسي”، أما الشيء الخطير الذي قاله أول أمين عام لهذا الحلف “هاستينجز”: إن هدف هذا التحالف الأساسي هو “تثبيت الروس خارج أوروبا والأمريكيين داخلها، وإبقاء الألمان تحت السيطرة”، وانطلقت الآلة الإعلامية الغربية الجبارة كلها، في حملة إظهار الاتحاد السوفييتي بمظهر إمبراطورية الشر الملحدة، أمام كافة دول العالم!
وهكذا بات العالم كله فسطاطين، أولهما قاده الاتحاد السوفييتي، وتأسس له حلفــًا مناوئ لحلف “شمال الأطلسي” أسموه “حلف وارسو”، مُقابل الفسطاط الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية تحت مسمى حلف شمال الأطلنطي.
وانتهت الحرب الباردة بتفكك وتشظي الاتحاد السوفييتي إلى خمسة عشر دولة، سارع الغرب بابتلاع الكثير منها، وضمها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ولم يكتفي بهذا بل عمل بجد لتفكيك روسيا الدولة الوريثة للاتحاد السوفييتي، لتتشظى إلى دويلات وكانتونات عرقية ودينية.
وكادت روسيا كدولة أن تبيت في غياهب التاريخ، لولا أن أعاد تجميع لحمتها الرئيس فلاديمير بوتين، الذي لملمها من شتات منثور بعد تشظي الاتحاد السوفييتي، وأعادها إلى مكانة الدولة العظمى، التي يخشى الكل جانبها، وأعادها إلى فلكها الدولي الذي تستحق.
ورئيس بخبرة وحنكة بوتين، يعرف أن روسيا لابد أن تستمر قوية، مُهابة الجانب، حتى لا تضيع وتتشظى، وهو عندما يفكر في هذا الأمر لا تحيد عينه عن التاريخ، فالتاريخ ليس مجرد ماض مسطر في كتب، بل منه جذور الحاضر، ونبتة المستقبل، وروسيا دولة خطت لها أقدارها منذ قرون طويلة، ألا يقبل بها الغرب سوى عدوة لدودة، بالرغم من كل الإشارات والمحاولات الروسية لمحو هذا العداء، وطي صفحته، وبناء علاقات شراكة واحترام متبادل، لكن .
لم ولن يرضى الغرب عن روسيا حتى تقوم الساعة.
الأستاذ مجدي حليم المصري- خاص وكالة “رياليست”