موسكو – (رياليست عربي): تزاحم المسؤولون الأوروبيون، في الأسابيع الأخيرة، على البوابة الصينية. الأغرب من هذا الزحام أسبابه؛ إذ أكّد جميعهم أنهم جاؤوا إلى الصين لأنها قادرة على التأثير على روسيا في حل الأزمة الأوكرانية.
عندما نذكر الثنائي الفرنسي-الألماني مع الأزمة الأوكرانية، فلابد و أن يتبادر إلى أذهان المراقبين (إتفاقيات مينسك)؛ فهما الراعيان الأوروبيان لهذه الاتفاقيات. ولا أعتقد أنه مضى الكثير من الزمن لكي ننسى أن المسؤولون الألمان والفرنسيون قد اعترفوا أن هذه الاتفاقيات كانت مجرد خداع ومناورة بهدف إعطاء وقت أكبر لأوكرانيا لكي تتسلح وتكون قادرة على مواجهة روسيا. أي أن الغرب أراد للحرب بين روسيا وأوكرانيا أن تشتعل، لا بل ساهم في التخطيط لها أيضاً.
لذلك يبرز السؤال:
لماذا إذاً يطالبون الصين بالتأثير على روسيا لإيقاف الحرب؟
لو كان الجواب:
لأنهم بدأوا يشعرون بأن أوكرانيا قد تخسر الحرب، لذلك يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان!
فلقائل أن يقول:
لماذا إذن لا تقوم الدول الغربية بتقديم دعم عسكري كبير لأوكرانيا بحيث تحقق نصراً حاسماً على روسيا؟
أو يقومون بقبول عضوية أوكرانيا في حلف الناتو كما قبلوا عضوية فنلندا بسرعة غير معهودة، الأمر الذي يسمح لهم بدخول المعركة قانونياً إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا؟
ثم لماذا لم يفكروا بضم أوكرانيا إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي قبل اندلاع هذه الحرب، فكان من الممكن أن لا تتجرأ روسيا على القيام بعمليتها العسكرية الخاصة هناك؟
أليس هم من يقول في كل مناسبة: سندعم أوكرانيا حتى تنتصر على روسيا؟
فكيف لأوكرانيا أن تنتصر على روسيا بدون سلاح كاسر لتوازن القوة معها؟!
أعتقد أن الأجوبة على هذه الأسئلة واضحة لكل بصر وبصيرة!
استناداً إلى ما تقدم من أسباب، علينا أن نبحث عن تحليل للموقف الأوروبي تجاه الصين في إطار آخر!
يعلم كل من يتابع الأزمة الأوكرانية أن التخطيط الاستراتيجي يجري في وكالتي الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، أما التكتيك فهو من وظيفة القيادة الأوكرانية.
كما أن الغرب يعلم جيداً أنه لن يتمكن من تحقيق نصر استراتيجي على روسيا بالحرب المباشرة، لذلك يسعى إلى تحويل الصراع في أوكرانيا إلى صراع بطيءٍ، فهم يراهنون على تعب المواطنين الروس من الحرب و العقوبات، وبالتالي تأجيج الرأي العام ضد القيادة الروسية، الأمر الذي قد يقود في النهاية إلى انشقاقات داخلية في صفوف النخبة الحاكمة، وبالتالي إحداث فوضى في البلاد. و إلى هذه النقطة أشار بوضوح وليم بيرنز، مدير الاستخبارات الأمريكية.
حزمت بكين خيارها لصالح موسكو بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني إلى روسيا، لذلك أصبحت المهمة أمام الغرب أكثر تعقيداً وصعوبة، وبعد هذه الزيارة بالتحديد بدأ المسؤولون الغربيون بالتوافد إلى الصين.
قبل زيارة الرئيس الفرنسي إلى الصين بأسبوعين كتب ماريو ليولا، المستشار السابق في البنتاغون والأستاذ في جامعة فلوريدا الدولية، مقالة طويلة في مجلة The Atlantic الأمريكية. تضمنت هذه المقالة عرضاً، يشبه الصفقة السياسية-التجارية، تعترف أوكرانيا والدول الغربية بموجبها بسيادة روسيا على المناطق التي ضمّتها مقابل تعويضات مالية لأوكرانيا.
وقبيل زيارة آنالينا بيربوك، وزيرة الخارجية الألمانية، إلى الصين بخمسة أيام كتب دانييل كوفاني، وهو ضابط في الجيش الأمريكي، عمل مدرباً في الأكاديمية العسكرية التركية ومدرساً لعلم الاستراتيجيات العسكرية، مقالة في الجريدة الصباحية لجنوب الصين. تتضمن هذه المقالة عرضاً مشابهاً لعرض ليولا، بموجب هذا العرض تعلن أوكرانيا نفسها دولة محايدة مع الاعتراف بسيادة روسيا على المناطق التي ضمتها سابقاً، مقابل قبول روسيا التنازل عن أموالها المحجوزة في المصارف الغربية من أجل إعادة إعمار أوكرانيا.
يبدو العرض الثاني وكأنه شكل من أشكال الابتزاز؛ فالكاتب يقول بدون مواربة: لكي تتمكن روسيا من استعادة هذه الأموال المحجوزة فهناك الكثير من الإجراءات القانونية المعقدة بانتظارها، لذلك فالأسهل التخلي عنها!
المفارقة أن ليولا لم يكتب في مجلة The Atlantic منذ 3 سنوات، أما كوفاني فهذه مقالته الأولى في الجريدة الصباحية لجنوب الصين. لذلك يبدو وكأن هناك رأي ما بدأ يتبلور في الإدارة الأمريكية بإمكانية حل المسألة الأوكرانية بهذه الطريقة، وبالتالي هناك من أوعز لـ ليولا و كوفاني بكتابة هذه المقالات.
من نافلة القول، ستدر هذه الصفقة الكثير من الأرباح على الشركات الغربية التي ستساهم في إعادة إعمار أوكرانيا، وهذا سيساهم بشكل أو بآخر في تجاوز الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الغرب، وبالتالي هذه الصفقة هي لصالح الغرب من جميع الاتجاهات، فالأرض أوكرانية والأموال روسية.
على هذه الخلفية يبرز السؤال الهام التالي:
هل يمكن أن توافق روسيا على مثل هذه الصفقة المُهينة، وهي التي خاضت حرباً طاحنة في سبيل استعادة هذه الأراضي، كما خسرت الدماء في سبيل ذلك؟
والأهم من ذلك كله، هل ستثق روسيا بالأطراف الغربية بعد الخداع والمراوغة التي مارستها في اتفاقيات مينسك من جهة، وبعد محاولاتهم المستمرة تعطيل المفاوضات مع الجانب الأوكراني بعد اندلاع العملية العسكرية الخاصة من جهة ثانية؟
لا نعتقد أن روسيا يمكن أن تُلدَغَ من الجحر ذاته مرة أخرى! فبالرغم من العلاقات المتينة بين الصين وروسيا، لن تتحرك الصين في هذا الاتجاه على الإطلاق؛ فهناك حقائق واضحة للعيان أمام الجميع تؤكد أن أي حديث عن الدبلوماسية مع الغرب لا معنى له، وهذه الحقائق تعرفها الصين جيداً.
علاوة على ذلك، فمسألة تايوان تعتبر من أهم المشاكل التي تؤرق بكين، ولا يمكن للدول الأوروبية المنضوية في حلف الناتو أن تسير باتجاه يعاكس الإرادة الأمريكية، وسعيهم الحثيث لضم فنلندا والسويد إلى الحلف هو خير دليل على ذلك؛ فلو كان عند الأوروبيين اعتراض حقيقي على وجودهم في حلف عسكري مع واشنطن لقاوموا انضمام فنلندا إليه.
لذلك فإن هذه السياسة الابتزازية ليست في الحقيقة موجهة ضد روسيا؛ فروسيا حزمت خياراتها العسكرية في أوكرانيا، بل هي رسائل موجهة إلى الصين نفسها بأنها ستكون أمام هذا النوع من الخيارات إذا فكرت باستعادة تايوان بالقوة. والجميع يعلم أن حجم الاستثمارات الصينية في سندات الخزانة الأمريكية تجاوزت الـ (تريليون دولار) في السنوات الأخيرة؛ إلا أنه بعد قيام العملية العسكرية الروسية الخاصة أدركت الصين مكامن الخطر في العلاقة مع الغرب فبدأت تخفيض استثماراتها في الديون الإمريكية إلى أن وصلت إلى (843 مليار دولار) في منتصف آذار الماضي.
يعزز هذه النتيجة التصريحات الأخيرة التي أطلقها جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في مقالتها المنشورة في (جورنال دي ديمانش) يوم الأحد بأنه على (أوروبا أن تكون حاضرةً بشدة في ملف تايوان نظراً لأهميته على المستويات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية. كما دعا أوروبا للقيام بدوريات بحرية في مضيق تايوان لإظهار حرص أوروبا على حرية الملاحة في هذه المنطقة المهمة).
ختاماً، لم نكن نعتقد لحظةً واحدة أن الغاية من زيارات الأوروبيين للصين هي للبحث عن حلول للأزمات التي شاركوا في إشعالها وتوقيدها، ولا للمطالبة بحق هم أول من تركه. كما أننا لم ننخدع بالتصريحات الفرنسية التي أعقبت تلك الزيارات. بل كنا على يقين مطلق بأن هذه الزيارات لـ (جس نبض) الصين والتحقق من متانة شراكتها مع روسيا، مع (إنذار مبطن) تلخصه العبارة (إياك أعني واسمعي يا جارة)!
خاص وكالة رياليست – الدكتور آصف ملحم – مدير مركز جي اس ام للأبحاث والدراسات – موسكو.