دمشق – (رياليست عربي): منذ انهيار الاتحاد السوفيتي الذي كان له الأثر الأكبر في هيمنة الولايات المتحدة على السياسة العالمية، سعت واشنطن ومنذ عام 1992 على بناء استراتيجياتها للسياسة الخارجية كإمبراطورة لكل الأرض على الحفاظ على هيمنتها على هذا العالم ومنع بروز قوى دولية تنافسها على عالميتها من الناحية الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية، والتذكير الدائم بانهيار الاتحاد السوفيتي العدو الذي يشكل خطرا كبيرا على سياسات واشنطن كصورة حيوية في عقول الدول على قوة واشنطن التي استطاعت ازاحة السوفييت من على رقعة المنافسة الجيوسياسية العالمية لتنفرد امريكا بالعالم ومن فيه وما عليه لتبدأ تمرير سياساتها التي تخدم مصالحها طويلة الأمد على هذه الأرض بكل خيراتها دون اي معارضة لأي دولة من دول هذا العالم الكبير.
على الرغم من تفرد امريكا في قيادة العالم ومحاولاتها الحثيثة للتضييق على الاتحاد الروسي وابقائه مشغولا بقضاياه الداخلية والسعي المحموم لإبقاء هذا الاتحاد الروسي حبيس القفص الاستراتيجي الذي صنعته له واشنطن الا ان امريكا فشلت فشلا كبيرا في الابقاء على روسيا بعيدة عن القضايا العالمية وقتل طموحها المتمثل بالعودة للعمل في المسرح الدولي كقوة عظمى رغم امتلاك الأولى أي امريكا لكل مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والتفوق في مجمل المجالات وهذا يعني ان الولايات المتحدة الامريكية باستراتيجياتها لعقود مضت مع كل فائض القوة الذي تمتلكه فشلت في تحقيق اهدافها الاستراتيجية التي لا يختلف عليها الحزبين الكبيرين سواء ديمقراطي ام جمهوري وهذا الفشل بدأ من صربيا ودعم واشنطن لكوسوفو وما ترتب عليه من رد روسي تمثل باتخاذ موسكو قرار الحرب مع جورجيا الذي انتهى بنصر لروسيا في منطقة القوقاز حيث حصلت كل من ابخازيا وأوتستيا الجنوبية على استقلالهما، ولعل النصر الاستراتيجي الكبير لروسيا يكمن بنتائج هذه الحرب والذي عبر وبشكل كبير عن الاستراتيجية الروسية الجديدة والتي ادخلت فيها القيادة الروسية الطاقة كأحد أهم الأدوات الاستراتيجية في مواجهة خصومها والذي تمثل بسيطرة القوات الروسية على نحو اربعين ميلا من خط البترول الذي يصل من باكو في اذربيجان عبر جورجيا الى ميناء جيهان التركي وهو الخط الذي يمد دول اوروبا بالبترول والغاز وبذا وجهت موسكو ضربة موجعة لأمريكا والغرب عبر تهديدها للاقتصاد الاوروبي من خلال تهديد هذا الخط وسيطرتها عليه.
واذا ما نظرنا وبشكل سريع لأسباب الحرب الروسية مع جورجيا وحربها اليوم مع أوكرانيا نرى اليد الأمريكية الغربية نفسها تمارس نفس الاستراتيجية المتمثلة بتهديد الامن القومي لروسيا من خلال عمليات توسيع حلف الناتو ومخططاته للنيل من روسيا وامنها ومحاصرتها ونشر المعامل الجرثومية على حدودها وانتشار السلاح النووي للناتو على حدودها.
على الرغم من مرور اكثر من عقد ونصف على الحرب الروسية الجورجية والتي كانت حربا امريكية – روسية بامتياز نستطيع ان نرى الاستراتيجية الامريكية المتبعة في ادارتها للحربين وبنك الاهداف الذي كانت تسعى امريكا والغرب لتحقيقه والادوات المستخدمة المتمثلة بأنظمة البلدين وطريقة الدعم العسكري والمالي في هاتين الحربين من فرض للعقوبات ومحاولة عزل روسيا عن الساحة العالمية وحتى تموضع الدول الاوروبية لناحية العداء لموسكو وما ترتب لاحقا من انقسامات داخل الدول الاوروبية ما بين تلك المؤيدة لكسر روسيا وتلك التي ترى في كسرها خطرا كبيرا عليها لناحية صعوبة تحقيق هذا الخيار وارتداداته على الدول الاوروبية نفسها وعلى ملفات عالمية واقليمية ودور روسيا في هذه الملفات.
من هنا نستقرأ فشل واشنطن في حروبها مع روسيا الاتحادية، فشلت وهي في خضم قوتها وتقوم بعمليات الاجتياح في اكثر من بقعة جغرافية، وفشلت ايضا وهي ترى وتراقب عن كثب تصاعد قوى دولية كروسيا والصين والهند وغيرهما من الدول الطامحة لوضع حجر الاساس لقوتها على الخارطة العالمية.
وهذا يدل على ضعف الرؤية الامريكية في قراءة المتغيرات الدولية وعدم قدرتها على التماهي مع هذه المتغيرات وابقائها على سياسة الغطرسة لأنها لا تعرف الانحناء للأمواج القادمة بالتغيير في هذه الجغرافية الدولية.
ومع سلسلة الانهزامات التي منيت بها واشنطن مازالت متمسكة بسياستها الرعناء مع ان وضعها بعد حروبها الفاشلة في افغانستان والعراق وجورجيا واوكرانيا عام ٢٠١٤ من خلال استخدامها للثورات الملونة ومانتج عنها تستدعي التأني وعدم الذهاب لفتح بؤر توتر جديدة مع روسيا او الصين او غيرهما فكانت حربها مع روسيا على ارض اوكرانيا التي استخدمت فيها كل قوتها وشراستها وغطرستها والتي أتت نتائجها عكس ما تشتهي الرياح الأمريكية الغربية فالاقتصاد الروسي يتصاعد وموقع روسيا عالميا لم يتأثر بالحشد الدبلوماسي الامريكي بل ساهمت هذه السياسات الامريكية في تبيان قوة روسيا وما تمتلكه من أوراق قوة عسكرية واقتصادية كان لها بالغ الاثر في خلق حالة من الاصطفافات الدولية والاقليمية تؤيد روسيا وتعترف بمكانتها كقوة عظمى لا يمكن تجاهلها وتتقفى أثر قرارات الكرملين لتسير خلفها.
واليوم مع استمرار انعكاسات العقوبات الامريكية الغربية على روسيا وما ترتب من ازمات عالمية في الطاقة والغذاء مازالت واشنطن متمسكة بالعمل الاستفزازي لروسيا من خلال تحديد اسعار النفط والغاز الروسيين وهذا ما ادى الى انقسام مرة اخرى بين الدول الغربية التي تدفع ثمن ارتهان قرارها السياسي للبيت الابيض وهذا ما سيشكل خطرا كبيرا على شعوب هذه الدول بالدرجة الأولى بينما موسكو لن تتضرر في شيء في زمن العالم متعطش فيه لامتلاك الطاقة للحفاظ على وجوده.
وهذا يأخذنا للسؤال الآتي: متى تفهم واشنطن بأن العالم متغير وان سطوتها آخذة بالتآكل وسياساتها منيت بالفشل الكبير فلم تستطع استغلال هيمنتها على العالم للاستمرار في سرقة ثرواته والتي اكثرها في دول العالم الثالث ولم تستطع ابقاء انهيار الاتحاد السوفياتي شاهدا على امبراطوريتها؟ فموسكو عملت جاهدة للخروج من القفص الاستراتيجي الذي صنعته واشنطن لها وها هي تغرد وصوتها يؤثر على صناع القرار في هذا العالم.
خاص وكالة رياليست – د. حسناء نصر الحسين – باحثة في العلاقات الدولية – سوريا.