دمشق – (رياليست عربي): “إن إسرائيل تملك الحق في الدفاع عن نفسها؛ ولكن الدفاع عن النفس لا يتمثل بقتل المدنيين في قطاع غزة”. هذا ما أكده نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، وهذا ما يؤكد أيضاً محاولات روسيا تحقيق التوازن الصعب مع اسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين. فـ الواضح أن روسيا لا تزال تُقدر عالياً صداقتها مع اسرائيل وبذات الإطار لا تنسى جُزئية علاقتها مع إيران الداعمة الأبرز لحركات المقاومة في فلسطين. هو واقع أشبه بالحبل المشدود الذي تسير عليه موسكو وتسعى جاهدة لعدم الوقوع في شرك التحالفات وتفضيلاتها.
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تحرص موسكو على إظهار نفسها كـ وسيط للسلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين وتُلقي باللوم على سياسات الغرب التي أدت إلى تردي الوقائع الشرق أوسطية، وتفجر جولة جديدة من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. والسياسة تحتاج حُكماً لحركات استعراض دبلوماسية، حيث بدأت اتصالات المسؤولون الروس مع نظراىهم العرب، وقدمت روسيا مشروع قرار بشأن وقف إطلاق النار في فلسطين لدواعٍ إنسانية، لكن القرار الروسي اصطدم بالفيتو الامريكي.
عشرة أيام منذ بداية عملية طوفان الأقصى كانت كفيلة بدفع بوتين للاتصال بـ نتنياهو معرباً له عن أسفه تُجاه الضحايا الاسرائيليين الذين لقوا حتفهم جراء طوفان الفصائل الفلسطيينية ومقدماً له التعازي، لكن أيضاً وفي ذات الإطار فقد امتنعت روسيا عن وصف عملية طوفان الأقصى بـ “الارهابية” كما تبنت التغطية الإعلامية الروسية للحرب التي تكشف فصولها ميلًا واضحاً مؤيداً للفلسطينيين، ومن خلال تأكيد موسكو على ضرورة وضع حدٍّ لمعاناة الفلسطينيين، فإن موسكو بذلك تسعى لاستقطاب سياسي داعم لها، لا سيما أن المزاج الشعبي في الشرق الأوسط وحتى في دول الإتحاد الأوروبي أظهر تبنيه الواضح لمظالم الفلسطينيين، وعليه فإن موسكو تأمل في تعزيز موقعها الإقليمي والدولي في المواجهة مع الغرب.
لا أحد ينكر بأنه ثمة تعثر روسي في سياق الحرب مع أوكرانيا، وربطاً بهذا التعثر فان حرباً جديدة في الشرق الأوسط أو على أقل تقدير جولة صراع دامية بين اسرائيل وحماس من الناحية الواقعية هو أمر يناسب فلاديمير بويتن، فـ موسكو تحاول ابعاد موارد الغرب عن أوكرانيا وتركيزها في الشرق الأوسط دعماً لـ إسرائيل، وبهذا تتمكن روسيا من التقاط أنفاسها مجدداً ومحاولة قلب الموازين في أوكرانيا، وفي جانب آخر فإن زيادة نقاط الضغط العالمية وما تُشكله من إلهاءات غربية أمريكية عن روسيا قد تُعزز الحضور الروسي في ملفات متعددة بما يضمن لها العودة مجدداع وبقوة إلى سباق القطبية المتعددة، والتي برهنت التطورات الفلسطينية أن الولايات المتحدة لا تزال متربعة على عرش النظام الدولي حين وقفت داعمة لـ إسرائيل ومحذرة الجميع من أي تصعيد يُعيق العملية العسكرية الاسرائيلية ضد حماس.
من المرجح أيضاً أن حالة عدم الإستقرار في الشرق الأوسط قد تؤدي وفق المنظور الروسي إلى تبني الغرب مقاربات مختلفة تعتمد على صرف انتباه الدول الغربية عن أوكرانيا، وفي حالة التوترات فإنه بطبيعة الحال ستُفرض قيوداً على توريد السلاح إلى أوكرانيا، وجراء عملية طوفان الاقصى وما أعقبها من تطورات ومشاهد جديدة في الاصطفافات الاقليمية والدولية، فإن التطبيع السعودي الإسرائيلي في هكذا واقع قد تأجل، وربما تكون عملية السلام المرتقبة بين الرياض وتل أبيب ضحية إستراتيجية للحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس، وبهذا فإن موسكو ستُحقق انتصاراً في وجهة النظر الروسية، والتي أعتبرت أن اتفاقيات إبراهام هي مشروع امريكي هشّ لا يمكن الإعتماد عليه كوسيلة لتحقيق الإستقرار في المنطقة لا سيما على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
إسرائيل من جانبها وفي سياق الحرب الروسية الأوكرانية بقيت مترددة في استعداء روسيا، وبوتين من جهته لا يرغب في تشويه العلاقة مع نتنياهو ويُريد إبقاء العلاقة معه بعيدةً عن أي توترات، وعلى الرغم من أن العلاقات الروسية الإسرائيلية قد شهدت فترات صعبة على مدار العام ونصف العام الماضيين، خاصة في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد الذي تولى منصبه فترة وجيزة من يوليو إلى ديسمبر 2022، لكن العلاقات بين البلدين تظل وطيدة وقوية، فهما يتبادلان التجارة وينسقان أنشطة قواتهما الجوية في سوريا، ويتمتعان بعلاقات واسعة النطاق في الشتات، وبصرف النظر عن زيارة أعضاء من حركة حماس لـ موسكو، لكن موسكو تُدرك بأن أي دعم سياسي لـ حماس قد يُهدد العلاقات الروسية الإسرائيلية، وربما تصيبها في مقتل تحديداً في هذا التوقيت.
ضمن ما سبق يتعين على روسيا أن تكون حذرة فيما تصبو إليه. صحيح أن التركيز الأمريكي الغربي على الشرق الأوسط قد يقدم فائدة مؤقتة لـ موسكو، لكن الصحيح أيضاً أن روسيا لا ترغب برؤية حرب إيرانية إسرائيلية تنجذب إليها تلقائياً الساحتين اللبنانية والسورية، والأخيرة تحتوي قواعد عسكرية روسية تساعدها في بسط قوتها في شرق البحر المتوسط وإفريقيا، ومع إنشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا فإن حرباً شرق أوسطية قد تُتنج حريقاً ربما يطال القواعد الروسية في سورية.
روسيا ورغم مواقفها المؤيدة للفلسطينيين إلا أنها في واقع الحال لا تُريد الإنفصال عن إسرائيل أو إستعدائها، وبالرغم من قضية روسيا المشتركة مع إيران في تحدي النفوذ الأمريكي إقليمياً ودولياً، إلا أن السياسية الروسية قائمة أصلاً على تحقيق التوازن بين اللاعبين المتخاصمين في الشرق الأوسط، لأن هذا التوازن وإن كان صعباً، إلا أنه يزيد من المكاسب الروسية.
الحرائق الإقليمية الصغيرة خير من الحرب الإقليمية الكبيرة. هي قاعدة روسية يُعمل بها في هذا التوقيت، يضاف إليها قاعدة استراتيجية تتمثل في التعامل مع جميع الأطراف المتصارعة في فلسطين. هاتان القاعدتان تقعان ضمن قواعد اللعبة التي تناسب موسكو والتي يُمكن من خلالهما تحقيق مكاسب جيوسياسية، وحتى إكتمال المشهد وتحديد مفاهيم جديدة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي “إن بقي الصراع”، فإن روسيا لن تتمكن في هذا الواقع الأمريكي أن تحدد المسار المستقبلي للأحداث، وستبقى في دائرة التوازن الصعب بين إيران ومحورها والولايات المتحدة وإسرائيل، لتحقيق مصالحها الجيوسياسية.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الأغا – كاتب وباحث سياسي – سوريا.