القاهرة – (رياليست عربي): يوم الـ ١٥ من شهر أغسطس/آب الجاري، يوم لن ينساه التاريخ، حيث استيقظ العالم علي صور وفيديوهات وأخبار عن مغادرة الرئيس الافغاني اشرف غني مطار كابول إلى جهة غير معروفة (أعلن فيما بعد انه هبط بمطار طشقند – عاصمة أوزباكستان)، وذلك نتيجة فشل محادثات السلام بين الحكومة وحركات المعارضة وعل رأسها “حركة طالبان” مع الولايات المتحدة بالعاصمة القطرية الدوحة، وهو الأمر الذي أثار الفوضى في كل المدن الافغانية، وتوالى سقوطها في أيدي مسلحي حركة طالبان.
يسود الآن الهرج والفوضى في كل أرجاء البلاد، ويشهد مطار كابول حالة من التزاحم، وكأنك في موقف سيارات أو حافلات، وانعدام الأمن، وانتشار الذعر، في مشهد تهتز له المشاعر من الخوف والفزع والرعب.
لمحة تاريخية
بالرجوع إلى بداية الصراع الأفغاني، فقد بدأ بالصراع التقليدي على السلطة والحكم، عام ١٩٧٣، بعد إزاحة آخر ملوك أفغانستان “محمد شاه” ابن عمة وزوج أختي الأمير “محمد داوود”، والذي أعلن عن قيام النظام الجمهوري، والذي اغتيل عام ١٩٧٨، ثم في عام ١٩٧9، ليقوم الاتحاد السوفيتي بغزو أفغانستان، حتى انسحابه منها في مايو/أيار عام ١٩٨٨، والذي أعقبه سيطرة حركة طالبان على حكم البلاد، في ظل صراعها مع الحركات الأخرى مختلفة الانتماءات والتوجهات، منهم مسعود شاه ، وحكمت يار، ثم وفي أعقاب أحداث يوم ١١ سبتمبر بالولايات المتحدة الأمريكية، واتهام أسامة بن لادن زعيم ومؤسس حركة القاعدة، قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان، حتى إعلان إدارة بايدن بمغادرة قواتها وانسحابها، كما سبق وأن حدث للقوات الروسية.
نزيف لا يتوقف
يتضح أن الصراع الأفغاني مستمر منذ ١٩٧٣، وحتى اليوم، أي ما يقرب من ٥٠ عاماً من الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والنزيف الدموي، والتكلفة الباهظة لعشرات الترليونات من الدولارات، والآلاف من الموتى والضحايا والمعاقين والمصابين والعجزة من الرجال والنساء والأطفال، والنتيجة، مزيد من الفوضى والهمجية واللاإنسانية.
الوقوع في الفخ
مع الغزو السوفيتي لأفغانستان عام ١٩٧٩، وهو الأمر الذي استشاط حفيظة الإدارة الأمريكية في حينها برئاسة جيمي كارتر، والذي كان مهندس ومؤسس اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل، ومشروع السلام وإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، فقد كانت فرصة جيدة لانتهاز الغزو السوفيتي لتحقيق أهداف سياسية استراتيجية مهمة وجيدة للولايات المتحدة، فظهرت وبتأييد كثير من الدول الإقليمية، أن تحول التدخل السوفيتي في أفغانستان إلى غزو، وأن على الدول الإسلامية محاربة هذا الغزو بالجهاد والمحاربة لنصرة إخوانهم الأفغان، وأصبحت أفغانستان مركز لكافة الأطياف من التوجهات السياسية، وخاصة الإسلام السياسي، والحركات المسلحة المتطرفة، والتي اشتدت شوكتها بعد حصولها على دعم مالي سخي بلا حدود، ودعم سياسي واقتصادي وتسليحي وعتاد من كافة الأنواع، بمباركة أمريكية وأوروبية كبيرة، وذلك بهدف:
- توريط الاتحاد السوفيتي في حرب لا فائدة منها، واستنزاف وإنهاك قواه الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، وهو ما تحقق بالفعل، ونتج عنه سقوط الاتحاد وتفككه في
عام ١٩٩١.
- إيهام كثير من الدول الإسلامية أنها فرصة جيدة لتخلص من المتشددين والإسلام السياسي وداعمي الفكر التحرر بالتخلص منهم ودرء شرهم، بتشجيع وتسهيل عمل وطرق السفر إلى أفغانستان.
- زعزعة الاستقرار في وسط آسيا، وخاصة بعد سقوط حكم الشاه، وسيطرة الحكم الإسلامي في إيران .
ولكن بعد خروج الاتحاد السوفيتي في عام ١٩٨٨، سرعان ما انقلب السحر على الساحر، وظهر للعلن تنظيم القاعدة، وتبعه الحركات والتنظيمات الأخرى مثل الجهاد والجماعة الإسلامية والتي هي امتداد للتكفير والهجرة، وتجلت صورها في ظهور الذلة الإسلامية “داعش”.
كما استفادت بعض الدول من الوضع الأفغاني وحققت منها مصالح ونتائج إيجابية مثل إيران وباكستان، تركيا، إلى جانب عودة المسلحين (فكرياً ومالياً وتسليحياً) من أفغانستان، ما سبب كثير من الصراعات والمشاكل لكثير من الدول مثل مصر وسوريا وليبيا ودوّل المغرب العربي، وأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية نفسها يعانون منه حتى اليوم.
الأسباب والسيناريوهات المتوقعة
أولاً، منذ أكثر من شهر أعلنت إدارة جون بايدن عزمها الانسحاب من أفغانستان، رغم عدم الوصول إلى اتفاق سلام مع حركة طالبان في الدوحة، وقبل ذلك اقترحت بأن تتولى تركيا تأمين مطار كابول، وهو الأمر الذي رفض من قبل طالبان، وقُبل بحذر من جانب تركيا.
ثانياً، زيادة التوتر وعدم الاستقرار والأمن في منطقة الخليج العربي، واستمرار النزاعات المسلحة في العراق، وسوريا وليبيا واليمن، التوتر في وعدم الوضوح في تونس ولبنان، وكذلك نقاط توتر أخرى في أوكرانيا وبورما ومالي وهايتي والروهينغا، وإثيوبيا وسد النهضة والتعنت مع مصر والسودان، ومشكلة المهاجرين واللاجئين، وحماس وإسرائيل وإيران وأذرعها السياسية المسلحة بدول المنطقة في اليمن ولبنان وسوريا.
ثالثاً، عدم التوصل إلى صيغة توافق بين الولايات المتحدة “بايدن” والدول الأوروبية بشأن اتفاق نووي جديد مع إيران، وموقف إيران المتشدد منه بشأن برنامجها النووي والصواريخ البالستية.
رابعاً، ارتفاع حدة التوتر والصراع والنفوذ بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية ضد روسيا والصين، سواء سياسياً واقتصادياً أو تجارياً وعسكرياً، وأخيراً في المجال الطبي والصحي.
التحليل
إن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان بهذا الشكل والأسلوب المريب، يثير الكثير من التساؤلات:
- هل تهدف أمريكا إلى توريط روسيا والصين ودول المنطقة الأخرى مثل إيران وباكستان والهند في مشاكل عسكرية وسياسية وعدم استقرار؟
- هل هذا النهج هو ما سوف “سياسة الانسحاب دون حل” تتبعه الإدارة الأمريكية في معالجتها للصراعات والمشاكل الأخرى حول العالم وتوريط أطراف النزاع في مشاكل أكبر، تجعلهم أكثر طاعة لجلوسهم على طاولة المفاوضات؟
- هل هي استراتيجية إدارة بايدن لإعادة ترتيب الأوراق، والمراقبة، لاتباع سياسية خارجية جديدة، أكثر قدرة وفعالية، وبأقل التكاليف، وأكثر فائدة؟
السيناريوهات المتوقعة
في الأحداث الجارية على أرض الواقع ومظاهر الهرج والمرج والفوضى العارمة التي تسود المشهد الأفغاني حالياً، ومع صعوبة التنبؤ بما سوف تسفر عنه الأيام، بل الساعات القادمة في تلاحق الأحداث والتطورات السريعة، يمكن القول:
- تدخّل أطراف دولية أخرى لاستكمال مباحثات السلام بين طالبان والحكومة الافغانية، لأسباب الأمن، وحرصاً على مصالحها ورعاياها، والاعتراف مؤقتاً بسيطرة طالبان، حتى تتضح الصورة كاملة، وهي احتمال قائم ولكنه ليس أكيد.
- تدخل روسيا او باكستان لإحكام الأمن والاستقرار، وإحداث توازن بين طالبان والقوى الأخرى، بشأن الحكم وإدارة شؤون البلاد.
- ترك الوضح الحالي كما هو وترك كافة الأمور في يد طالبان، والانتظار والترقب لما سوف تتخذه من سياسات وقرارات، وهو الاحتمال والسيناريو الأكثر واقعية لحدوثه في المجريات والأحداث الجارية على أرض الواقع.
التعليق
كمتهم وكمحلل متخصص ومراقب سياسي للأحداث العالمية والدولية والإقليمية والمحلية، أرى أن أمام طالبان فرصة ذهبية، لتولي السلطة والحكم للدولة الأفغانية، ولنشر الأمن والاستقرار بربوع أفغانستان، بمشاركة وقبول الآخر، وعدم الوقوع مرة أخرى بتكرار أخطاء الماضي، واتخاذ كافة القرارات الفورية التي من شأنها طمأنة شعبها، بالحرية والمساواة والعدالة، لاكتساب القبول الشعبي الحقيقي القائم عن اقتناع وليس الخوف والقهر، والذي من شأنه الحصول على قبول دولي وعالمي، كما على العالم الخارجي والدول الكبرى منح طالبان الفرصة لإثبات حسن نواياها، وذلك استناداً على أن الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها جلست تتباحث وتتفاوض مع طلبان على طاولة المفاوضات مرات ومرات ومنذ فترات طويلة، وإن حدث العكس، سوف يدخل أفغانستان ودول المنطقة بل وكثير من دول العالم في دائرة عنف، ومزيد من المتشددين والإرهاب والعنف وعدم الاستقرار، ومزيد من الضحايا والمهجرين واللاجئين.
واعتقد أن هناك كثير من مؤيدي لتلك الرؤيا التي من شأنها إحلال السلام والأمن والاستقرار لأفغانستان، تلك الدولة الغنية بثرواتها الطبيعية، وموقعها الاستراتيجي في وسط قارة آسيا، وأنه آن الأوان لوقف هذا الصراع المسلح بين أبناء الوطن الواحد والخروج من دائرة فارغة لا فائدة منها سوى الدمار والخراب.
فقد حان الوقت لوقف هذا النزيف الذي لا يؤلم أفغانستان ليس فقط، بل والعالم وكل مؤيدي ومحبي السلم والأمن والحريّة والمساواة والإخاء.
خاص وكالة “رياليست” – د. خالد عمر.