يعتبر القانون أحد أهم ركائز ودعائم وأسس الديمقراطية في ممارسة وتطبيق مفهوم النظام الديمقراطي غير المباشر، وكما جاء في أحد أهم تعريفات الديمقراطية “بأن الديمقراطية هي حكم القانون”، وهو الأمر الذي يتفق عليه الجميع، وأن القانون والعدالة أساس الحكم والمُلك.
بالعودة إلى مقالي السابق بعنوان “أزمة الديمقراطية والعالم الحر” والذي تناول أحداث اقتحام مبنى الكابيتول، والذي أكدنا على أنه حدث جلل له توابع وعواقب على الإدارة الأمريكية وممارسة الديمقراطية سواء في أمريكا أو كل النظم الديمقراطية الأخرى في العالم، في المستقبل القريب أو البعيد.
وكما يقول مفكرو ومناصرو ومؤيدو النظام الديمقراطي: “إن القانون هو المنظم والحكم بين الشعب والحاكم والمسؤولين وأنظمة ومؤسسات الدولة” وهو الضامن للممارسة الديمقراطية بحيادية وعدالة ومساواة للجميع، فالكل أمام القانون سواء (وهو مطلب لكل الشعوب في العالم، وليس الشعوب الديمقراطية فقط).
والواقع العملي في تطبيق النظام الديمقراطي الأمريكي، وكمثل كل الأنظمة الديمقراطية الأخرى قائم على الفصل بين السلطات، والتوازن بينهم، وأيضاً على اقتسام النفوذ والقدرة والقوة الإدارية والسياسية والاقتصادية والتشريعية بين الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي، إذ أن أغلب مسؤولي الإدارة الأمريكية الحاكمة ينتمون إلى الحزب الفائز في الانتخابات الرئاسية.
ونظراً لسيطرة الحزب الديمقراطي على أغلبية مجلس النواب خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المنتهية ولايته في 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، وكذلك استمرار سيطرتهم عليه من خلال الرئيس المنتخب جو بايدن “الحزب الديمقراطي”، وأيضاً سيطرتهم على الأغلبية في مجلس الشيوخ “الكونغرس – شيوخ ونواب” وهو الأمر الذي يضع الجمهوريين في موقف لا يحسدون عليه وسوف يعانون كثيراً من هذا الوضع، والذي سوف يؤثر بكل تأكيد على السياسة والإدارة الأمريكية خلال فترة الأربع سنوات القادمة “فترة بايدن وهاريس”.
كما سيعاني الجمهوريين من إرث توابع سياسات الإدارة الأمريكية للرئيس ترامب “وهو إرث ثقيل داخلياً وخارجياً”، لذا، المطلوب من الجمهوريين، عمل شاق وجاد خلال السنوات القادمة ومراجعة شاملة حتي يستعيدوا قوتهم أمام الديمقراطيين، وعلينا الانتظار لحين تحقق ذلك الأمر.
ويتضح جلياً أن اقتحام الكونغرس، كان فرصة ذهبية للديمقراطيين، لم ولن يفرطوا بها لتحقيق انتصار ساحق ماحق “كما كان يقول معلق مباريات التنس عادل شريف”، فقد سارعوا في إجراءات محاكمة وعزل الرئيس ترامب (جمهوري)، وفقاً للقانون الأمريكي، ليصبح أول رئيس في تاريخ الرئاسة الامريكية يتم محاكمته خلال فترة ولايته مرتين، وهو الامر الذي يعارضه أغلب الجمهوريين بشدة (رغم تصويت 10 أعضاء ينتمون للحزب الجمهوري تأييداً للمحاكمة والعزل.. الامر الذي يعزز موقف الديمقراطيين)، و ينبئ ببداية اشتعال الصراع مبكراً بين الجمهوريين والديمقراطيين، حيث يستغل الحزب الديمقراطي بامتياز وبتخطيط من كبار الصقور بالحزب وعلى رأسهم نانسي بيلوسي “المرأة الفولاذية”.
هذه الأمور تتمحور بنقاط عدة:
1-القانون كأحد ركائز النظام الديمقراطي، قد يصبح أداة استبداد للأغلبية والحزب والإدارة الحاكمة.
2-عدم التوازن بين السلطات، وتوغل سلطة على أخرى، سوف يجعل من القانون سكين لبتر أي رأي مخالف أو معارض للأغلبية.
3- تغليب وإعلاء القيم والاستفادة الحزبية على مصلحة الوطن والمواطنين باسم القانون وهو الأمر الواضح في تمسك وتشدد الديمقراطيين على سرعة إجراء محاكمة وعزل الرئيس ترامب، رغم أيامه المعدودة القليلة بالبيت الأبيض، وأرجح أن ذلك بهدف القضاء عليه تماماً سياسياً.
4-معارضة أغلب النواب الجمهوريين لمحاكمة وعزل الرئيس ترامب، ليس بسبب عدم الفائدة منها وبحجة ضيق الوقت وأن ترامب سوف يغادر البيت الأبيض، وأن الإجراءات القانونية اللازمة لتحقيق ذلك لا يمكن تنفيذها (جدل باسم القانون)، رغم وجود لائحة اتهام (إذا صح ذلك) تتضمن مخالفات قانونية جسيمة.
5-هل المحاكمة والعزل هي النهاية للحياة السياسية لرئيس ترامب؟ أم أنه سيكون له ومناصريه رد فعل غاضب وعنيف على ذلك الإجراء؟ خاصة وأنه قد حصل على أصوات لـ 74 مليون ناخب أمريكي، (245مليون من لهم حق التصويت بنسبة 74%/بلغت نسبة الحضور حوالي 63%/حصل بايدن على 80 مليون صوت بنسبة 51%، وحصل ترامب على 74 مليون صوت بنسبة 47%، وهذه الإحصائيات لها دلالتها سوف نعود إليها في المقالات القادمة) وانه ليس بالشخص الذي يستسلم ويقبل الهزيمة بسهولة، فهو لم يعترف بفوز بايدن وفقاً للعرف الأمريكي، كما أنه أعلن رسمياً عدم حضور حفل التنصيب، في سابقة لم تحدث من قبل.
6-استغلال السياسيين في كلا الحزبين القانون كأداة لتحقيق مصالحهم السياسية والحزبية، تضع المواطن والناخب الأمريكي (وأي ناخب في العالم) في حالة شك وريبة وعدم مصداقية في النظام والممارسة الديمقراطية برمتها، مما يهدد الاستقرار والأمن والسلم الاجتماعي، ونمو العنف بين أبناء الوطن الواحد.
7-قيام ترامب باستخدام حقة القانوني في إصدار قرارات عفو رئاسي عن أقاربه والمعارضة وأصدقائه ومساعديه الذين يقضون فترات العقوبة بعد أن تم إدانتهم جنائياً، وتم ذلك باسم القانون؟ وهو الأمر الذي يطرح سؤال هام: هل ذلك الحق وتلك القرارات مع أو ضد الديمقراطية؟
8-قيام ترامب ومؤيديه وفريقه القانوني برفع عشرات القضايا في الولايات المتنازع عليها بحجة التزوير والتلاعب في أصوات الناخبين والنتائج النهائية لهذه الولايات، وإصدار التصريحات الإعلامية شبه اليومية بالتشكيك في عملية الانتخابات برمتها وبحيادية القائمين بالإشراف عليها، بل وخالف العرف والتقليد الأمريكي بخروج المرشح الخاسر بالإقرار والاعتراف بالهزيمة وتهنئة المرشح الفائز، وصرح إعلاميا بذلك، بل أنه أعلن بعدم حضور مراسم حفل تنصيب الرئيس بايدن (وهو الأمر المستغرب والشاذ، الذي يزيد من حالة الانقسام والتشاحن والغصة بين أبناء الوطن الواحد، فأيام الرئيس المنتهية ولايته بتسليم السلطة للرئيس الجديد طقوس ديمقراطية متعارف ومتفق عليها، والتي تؤكد تقبل الأقلية بفوز الأغلبية) وكل ذلك استناداً وبإسم القانون، الأمر الذي يزعزع الثقة مستقبلاً في أي انتخابات سواء في الولايات المتحدة أو غيرها، وهل يستطيع بايدن والإدارة الأمريكية الجديدة استمالة اللذين صوتوا لصالح ترامب سريعاً؟ ففي النهاية الفائز يكون رئيساً لكل المواطنين، أغلبية ومعارضة، وهنا تكمن المعضلة والمشكلة في النظام الديمقراطي.
والتساؤل المطروح الآن في ضوء تلك الممارسات، وكما يقول مفكرو ومؤيدو الديمقراطية: هو الضامن والحاكم للعلاقات بين الحاكم والمواطن والمؤسسات.
على الرغم من السلبيات والقرارات والسياسات الخاطئة والمتهورة وغير الحكيمة والمتحيزة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي نتحفظ على كثير منها، فعلى سبيل المثال وليس الحصر داخلياً عدم التعامل مع جائحة “كورونا” والإجراءات الاحترازية بالشكل المطلوب، مهاجمة سياسية التأمين الصحي التي أقرها سابقاً الرئيس السابق اوباما، إصدار تشريعات بخصوص الهجرة أشهرها منع دخول مواطني 9 دول بحجة مكافحة الاٍرهاب، ترحيل كثير من أمهات وآباء كثير من المهاجرين غير القانونيين وفصلهم عن أبنائهم الذين وضعوهم في أماكن مخصصة لهم.
أما خارجياً فقد انسحب من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، ومؤخراً اتفاقية السموات المفتوحة، وهي الاتفاقية المهمة للحد من سباق التسلّح والنزاعات ونشوب الحرب بين روسيا وحلفائها وأمريكا وحلفائها، ووقف تمويل منظمة الأونروا لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين، ووقف تمويل منظمة الصحة العالمية، سكون وشبه تجميد النشاط والدور الأمريكي في حلف شمال الأطلسي – الناتو.
إن الخطورة تكمن، في أنه بدلاً من يكون القانون الدعامة الأساسية لحماية المواطن والناخب، أصبح هو أداة وسلاح السيطرة والاستبداد والديكتاتورية، وهو الأمر الذي سينعكس بالضرورة على كل الأنظمة الديمقراطية في العالم عموماً والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، وهو ما دفع رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” بإلقاء اللوم وتحميل المسؤولية على الرئيس الأمريكي، ليقينه بأن بلاده كأحد الدول الكبرى للنظام الديمقراطي ستعاني وكل الأنظمة الديمقراطية الأخرى من توابع ما حدث ويحدث في أمريكا، وعلينا الانتظار لما سوف تسفر عنه الأيام القادمة من أحداث، خاصة وأن أزمة الممارسات الديمقراطية في العالم الحر تزداد يوم بعد يوم بسبب الصراع بين النفوذ والقوى السياسية والمناخ والظروف التي يمر بها العالم صحياً واقتصادياً واجتماعياً، والتي سوف يكون ضحيتها بالتأكيد هو المواطن والوطن، ونرى أن عدم الاستخدام الرشيد للقانون وكذلك عدم احترام التقاليد والأعراف الديمقراطية التي تلقى قبول واتفاق الجميع، يرسخ بالتأكيد للفوضى ويعمق من شعور القلق والاحباط وعدم العدالة والمساواة، بل والكراهية أيضاً، وهو ما يؤثر على الأمن والاستقرار والسلم الداخلي والإقليمي والعالمي.
لذا، يلزم على وجه السرعة دون تباطؤ، قيام النظم الديمقراطية بإجراء تعديلات وإصلاحات قانونية وتشريعية تهدف إلى الاستخدام الأمثل والرشيد للقانون لضمان إعادة التوازن والتوافق بين المؤسسات والحاكم من جهة، وبين المواطن والشعب من جهة أخرى، لاستعادة هيبة وقدسية القانون وثقة المحكوم في الحاكم والمؤسسات المعاونة له في إدارة شؤون الدولة والوطن، وحتى يشعر المواطن بالأمن والانتماء والمواطنة والوطنية.
خاص وكالة رياليست – د. خالد عمر