موسكو – (رياليست عربي): على الرغم من التوغل الأوكراني في منطقة (كورسك) والذي قام به قادة كييف لتخفيف الضغوط على الجبهة الغربية (لروسيا الإتحادية) أي الشرقية (لأوكرانيا)، إلا أن الأمور تسير بعكس ما خططت له القوات الأوكرانية، نظراً لأن القوات الروسية بدأت تخترق خطوط الدفاع الأوكرانية في أقصى الشرق، وباتت قريية للغاية من مدينة (بوكروفسك) في أوكرانيا، نظراً لأن قادة الكرملين الروسي وعلى الرغم من المعارك القتالية الحالية في مقاطعة (كورسك)، إلا أنهم لم يوقفوا عمليات الدفع العسكري المستمر بوحدات القوات الروسية إلى الجزء الشرقي من أوكرانيا.
- وفي هذا الصدد، يقول المسؤولون في مدينة (بوكروفسك) شرق أوكرانيا إنهم يقومون بإجلاء السكان المدنيين تحسباً لسقوط المدينة قريباً أمام التقدم الروسي، الذي أصبح الآن على بعد 10 كيلو مترات فقط من حدود المدينة، والتي إذا سقطت كما هو متوقع قبل نهاية آب أغسطس الجاري، فإنها ستصبح أكبر مركز سكاني أوكراني يسيطر عليه الروس عسكرياً، منذ سقوط مدينة (أرتيوموفسك)، أو كما تسمى مدينة (باخموت) بالأوكرانية، والتي سقطت خلال شهر مايو من العام الماضي 2023.
- وحول هذا الأمر، يعترف الجانب الأوكراني على لسان رئيسة قسم سياسة المعلومات ضمن الإدارة العسكرية لمدينة (بوكروفسك)، السيدة (يكاتيرينا يانزولا)، أن القوات الروسية تتحرك نحو ضواحي المدينة، ولم يعد سراً أن مصير المدينة أصبح غير واضح، وأن الجانب الأوكراني يأمل أن يتغير الوضع بطريقة ما، وأن تتوقف القوات الروسية من التقدم في مكان ما على الطرق المؤدية إلى (بوكروفسك)، بحيث تستطيع القوات الأوكرانية صدها، أو القيام بعمليات التحصين لـتأخير تقدمها.
- أما رئيس إدارة منطقة (دونيتسك) الروسية، السيد (فاديم فيلاشكين)، فقد أكد بناءً على معلومات لشهود عيان، أن السلطات الأوكرانية بدأت بعمليات الإجلاء القسري للأسر التي لديها أطفال من (بوكروفسك)، مضيفاً بأن نحو 4 آلاف طفل ما زالوا في داخل المدينة، علماً بأن سلامة الأطفال هي مسؤولية الكبار، حيث أشار بأن الجانب الروسي، وعندما تكون مدنه الرئيسية أو غيرها من التجمعات السكنية البشرية واقعةً في مرمى سلاح العدو الأوكراني (على حد وصفه)، فإن القيادة الروسية دائماً ما كانت تعطي الأوامر بضرورة القيام بعملية الإجلاء الضروري الطبيعة، والتي لا مفر منها أحياناً.
- فيما أوضحت المسؤولة الأوكرانية (يكاتيرينا يانزولا)، أنه وعلى الرغم من التهديدات المتزايدة، فإن نسبة كبيرة من سكان مدينة (بوكروفسك)، ما زالت تقاوم أي عمليات أو مجهود يقوم به الجانب الأوكراني من أجل الإجلاء، حيث يضطر المسؤولون للذهاب إلى منازل الناس، والتحدث مباشرة مع كل أسرة، ومع كل ساكن شخصياً، وجمع السكان الأكبر سناً، وإبلاغهم بالحاجة إلى إخلاء المدينة، مؤكدة بأن عدد سكان مدينة (بوكروفسك) الذي بلغ نحو 86 ألف نسمة قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قد أصبح 53 ألف نسمة في الوقت الحالي فقط.
- وقد أكد قائد القوات الأوكرانية (ألكسندر سيرسكي) شخصياً، أن هناك معارك عنيفة تدور حول مدينة (بوكروفسك)، موضحاً بأن القوات الروسية قد حاولت إقتحام مواقع أوكرانية محصنة بأكثر من 45 محاولة عسكرية، خلال الساعات الـ 24 الماضية، وأن قوات كييف “تفعل كل ما هو ضروري” لحماية مدينة (توريتسك) على بعد حوالي 64 كيلو متراً شرق (بوكروفسك) حيث يتعرض الأوكرانيون هناك أيضاً لضغوط شديدة للغاية.
- وتظهر الخرائط الرئيسية من معهد دراسة الحرب في الولايات المتحدة الأمريكية ومقره في واشنطن، أن القوات الروسية تقترب من قرى (غروديفكا)، و(كراسني يار)، و(نوفوغروديفكا)، والتي تقع جميعها شرق مدينة (بوكروفسك)، وهو الأمر الذي يشير إلى أن اختراقاً روسياً وشيكاً في طريقه للحدوث الآن، كما يقول الخبراء العسكريون والأمنيون الغربيون في مركز الأمن الأمريكي الجديد ومقره فيينا، أن هناك العديد من التقارير الأمنية والإستخباراتية التي وصلت إلى المعهد لديهم في النمسا، حيث تؤكد هذه التقارير بأن الروس يقاتلون بالفعل على آخر خط دفاعي معتبر خارج مدينة (بوكروفسك)، وأن خسارة مدينة (بوكروفسك)، وهي التي ينظر إليها على أنها المركز اللوجستي الرئيسي لتقاطع أهم طريقين رئيسيين في شرق أوكرانيا، من شأنه أن يفتح الباب تلقائياً أمام المزيد من تقدم القوات الروسية في هذه المنطقة الصناعية الشرقية التي كانت منذ فترة طويلة محور هجوم القوات الروسية.
- وعلى الرغم من كل ما يحدث من معارك (الكر و الفر) بين القوات الأوكرانية التي تحاول التقدم في منطقة (كورسك) في الشرق بالنسبة لكييف، والقوات الروسية التي تحاول التقدم هي الأخرى في منطقة (بوكروفسك) في الشمال بالنسبة لكييف، إلا أن الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فولوديمير زيلينسكي، ما زال يعلن أن القوات الأوكرانية قد حققت أهدافها في منطقة (كورسك) الغربية في روسيا الإتحادية، وذلك على بعد مئات الكيلو مترات إلى الشمال، بعد أن شنَّت قوات كييف توغلاً جريئاً قبل أسبوعين.
حيث هنأ الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته (فولوديمير زيلينسكي) قادة القوات الأوكرانية على جهودههم، وأكد لهم بأنه يناشد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا مجدداً، بعد أن أوضح لهم حاجة كييف الماسة والكبيرة لتسلم إمداداتها من الدول الغربية، والتي أشيع بأن مسؤوليها يقضون إجازات فصل الصيف، علماً بأنه يجب أن لا تكون هناك أي إجازات في زمن الحروب من حيث المنطق.
آراء المراقبين والمحللين والخبراء في مراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية الروسية والعالمية:
- يرى العديد من المراقبين و المحللين والخبراء في مجال العلاقات الدولية من المختصين بملف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتطوراتها اللوجيستية أمنياً وعسكرياً، مثل الخبير العسكري والأمني (فرانز ستيفان غادي)، وهو المحلل العسكري والأمني الرئيسي في مركز الأمن الأمريكي الجديد، ومقره في العاصمة النمساوية فيينا، بأن التقدم العسكري الروسي لقوات موسكو في الشمال الشرقي قرب منطقة (بوكروفسك)، يؤكد أن هناك ضعف واضح في إستراتيجية هيئة الأركان العامة للقوات الأوكرانية، على الرغم من تقدم قوات كييف في الشرق قرب (كورسك)، لأن القوات الأوكرانية في نهاية المطاف، لم تنجح في تحقيق الهدف الرئيسي من التوغل الأوكراني في (كورسك)، ألا وهو الحد من مكاسب موسكو في المناطق الحدودية (الغربية بالنسبة لروسيا الإتحادية الشرقية بالنسبة لأوكرانيا).
- ويضيف الخبير (فرانز ستيفان غادي)، أن الصورة العسكرية في منطقة حوض (دونباس) بالكامل، باتت مثيرة للقلق بالنسبة للقوات الأوكرانية، لأن القوات الروسية ما زالت متفوقة هناك رغم كل شيء، من حيث القوة البشرية والنارية أيضاً، لأن الكرملين الروسي ما زال يمتلك الكثير من قوات الإحتياط، والتي في حال لم تكن كافية أو جاهزة حالياً، فإن هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية ستكون قادرة على إعدادها وتجهيزها بسرعة خلال شهر سبتمبر ومطلع أكتوبر 2024، حيث يمكن أن تقوم موسكو بعمليات تعبئة جديدة مما سيعطي القوات الروسية الأفضلية مرة أخرى في ساحات القتال.
- ويؤكد الخبير الأمريكي (فرانز ستيفان غادي)، أن قوات الإحتياط الروسية هذه كانت معدةً ومدربة ومجهزة للقتال في (بوكروفسك)، لولا نقلها على عجل إلى منطقة (كورسك) بسبب التوغل الأوكراني المفاجئ الذي لم تحسب موسكو له حساب من قبل كييف، ولكن، وبالرغم من كل هذا، فإن قيام كييف باقتحام الحدود الروسية وصولاً إلى مقاطعة (كورسك)، لم يكن الخيار الصحيح بالنسبة للقوات الأوكرانية، لأن هذا الخيار الأوكراني، وعلى الرغم من أنه أفرغ حوض (دونباس) من وحدات القوات الروسية (الإحتياطية)، إلا أنه ومن جانب آخر قد أفرغ حوض (دونباس) أيضاً من القوات الأوكرانية (الأساسية وليست الإحتياطية)، فهل كان خيار (فولوديمير زيلنسكي) للقيام بهذه المغامرة هو خياراً صحيحاً ؟؟؟ ألم يكن من الأفضل للقيادة الأوكرانية الحالية (كما يتسائل الخبير الأمريكي) أن تقوم بتثبيت قواتها الأساسية في مناطق حوض (دونباس)، والصمود لغاية شهر نوفمبر المقبل على الأقل، لغاية موعد الإنتخابات الأمريكية المقبلة ؟؟؟
- وللإجابة على هذا السؤال، يؤكد خبراء مركز الأمن الأمريكي الجديد، بأنهم قد تلقوا إجابات دقيقة ضمن تقاريرهم الأمنية التي وصلت من منطقة (بوكروفسك) نفسها، حيث أكد لهم الجنود الأوكرانيين هناك بأن التوغل الأوكراني في مقاطعة (كورسك) لم يغير ولم يخفف حتى من وتيرة الهجوم الروسي، بل على العكس، فإن الضغوط الروسية قد زادت خلال الأيام الأخيرة، أي منذ دخول القوات الأوكرانية إلى أراضي مقاطعة (كورسك) الروسية.
- ويؤكد خبير عسكري أوكراني، هو المتحدث العسكري الرسمي بإسم قيادة اللواء الأوكراني رقم 110، (إيفان سيكاش)، والذي تتمركز وحداته على بعد حوالي 16 كيلو متراً من منطقة (بوكروفسك)، أن القوات الروسية لم تغير خططها الهجومية، ولن تغيرها حتى لو كان الوضع سيئاً للغاية بالنسبة للروس لأن الذهاب إلى مكان آخر بالنسبة للقوات الروسية المرابطة في حوض (دونباس) سيكون أكثر سوءاً، لأن موسكو نقلت العديد من المركبات الآلية والمجموعات الأصغر حجماً لاستكشاف الخط الحدودي، ولكنها لم تفرغ حوض (دونباس) من الجنود والعتاد والسلاح، كما فعلت كييف التي تغامر بترك خاصرتها مكشوفة في حوض (دونباس)، وهو الأمر الذي يمكن أن يثير شهية القوات الروسية قريباً للإنقضاض على القوات الأوكرانية، مما سيجبرها على التراجع من مقاطعة (كورسك) وإلا فإنها ستدفع الثمن باهضاً في منطقة حوض (دونباس)، خاصةً في دونيتسك و لوهانسك، التي يمكن تخسر كييف فيهما آخر المعاقل العسكرية الأوكرانية الرمزية. وهو الأمر الذي سينعكس لاحقاً على سير المعارك في مناطق عسكرية أخرى، مثل (خيرسون) و (زابوروجيه) التي تحاول القوات الروسية التقدم فيها أيضاً، ولو بسرعة أقل من تقدمها السابق في مناطق جمهوريتي (لوهانسك) و (دونيتسك).
- ويضيف المتحدث العسكري الرسمي بإسم قيادة اللواء الأوكراني رقم 110، (إيفان سيكاش)، أن هذا التوغل الأوكراني في (كورسك) قد ينعكس أيضاً على مناطق أوكرانية أكثر حساسية مثل مناطق (ميكولاييف و أوديسا)، والتي يمكن أن تكون جميعها ضحية لعملية (كورسك)، بعد أن قامت كييف بنشر 120 ألف عسكري أوكراني على طول الحدود (الأوكرانية البيلاروسية) في أقصى شمال أوكرانيا، مما ترك مناطق الجنوب الأوكراني الشاطئية مكشوفة عسكرياً، حيث يمكن أن تصبح هذه المناطق جميعها طريقاً مفتوحاً للقوات الروسية وصولاً إلى مدينة أوديسا، في حال فشلت القوات الأوكرانية في صدَّ أي هجوم روسي مضاد، كالهجوم الروسي المضاد المتوقع خلال شهري سبتمبر و أكتوبر المقبلين، والذي لا يمكن للقوات الأوكرانية أن توقفه، إلا في حال حصولها على المزيد من طائرات (أف 16) والمزيد من بطاريات صواريخ (هيمارس) الأمريكية وغيرها من المعدات العسكرية المتطورة.
- فيما يرى الخبير العسكري والأمني البولندي (كونراد موزيكا)، وهو مدير شركة (روشان) للإستشارات الدفاعية والأمنية ومقرها بولندا، أن إستراتيجية كييف الحالية يجب أن تنطوي على تقديم بعض التنازلات العسكرية في الوقت الحاضر بالضرورة، لأن المكاسب الإقليمية الأوكرانية بالقرب من (كورسك) ليست أكثر أهمية من الخسائر الإقليمية الأوكرانية بالقرب من (بوكروفسك)، وذلك لأن المعلومات الأمنية والعسكرية تؤكد بأن الروس يقتربون من المدينة، وهم يحتاجون لأسبوعين تقريباً من أجل الإستيلاء عليها، على الرغم من أن هذه العملية العسكرية قد تكون مكلفة للروس، لأنها عملية عسكرية تجري في مناطق الحرب الحضرية، خاصةً وأن الأوكرانيون يحاولون التحصن بشكل صحيح، ومع ذلك، فإن فرصهم لإلحاق خسائر فادحة بالوحدات العسكرية الروسية هناك تبدو ضئيلة للغاية، لأن وحدات القوات الروسية المتواجدة هناك بالذات، لديها خبرة عسكرية كبيرة في القتال والإقتحام، لكونها تحارب هناك منذ العام 2014، أي منذ إعلان موسكو عن ضمها لشبه جزيرة القرم.
- وهنا يبقى السؤال الأكثر أهمية بالنسبة للوضع الأمني والعسكري السائد: هل نجح الرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلنسكي) في إحراج الكرملين الروسي بعد التوغل الأوكراني في مقاطعة (كورسك)، أم أن القوات الأوكرانية قد وقعت في الفخ الذي نصبته لها القوات الروسية من أجل أن تقوم كييف بسحب قواتها من الشمال إلى الجنوب، وهو ما سيفتح الطريق للكرملين الروسي للتقدم نحو مدن أخرى، أولها مدينة (بوكروفسك)، وثانيها مدينة (خاركوف)، وصولاً إلى سقوط الشمال الأوكراني كاملاً ؟؟؟
حسام الدين سلوم – دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية – خبير في العلاقات الدولية الروسية.