بغداد – (رياليست عربي): اللقاء الذي جمع الرئيسين بوتين وترامب في ألاسكا في أغسطس 2025 لم يُنتج اتفاقاً ملموساً لوقف الحرب في أوكرانيا، لكنه كشف تحولاً خطيراً في ديناميكيات الصراع الدولي. من خلال المشهد المصور والخطاب المشترك، نجح بوتين في تسويق انتصار إستراتيجي: إعادة تثبيت روسيا كقوة محورية على الطاولة العالمية، متجاوزاً سنوات العزلة النسبية. مشاهد الكواليس أظهرت حميمية غير متوقعة مع ترامب، وتبني الأخير لمصطلح “السلام الشامل” الذي يتماشى مع الرواية الروسية الرافضة لوقف إطلاق النار المؤقت، مما أعطى موسكو إيحاءً بأنها تفرض شروط الحل. هذه الصورة عززت سردية بوتين الداخلية والخارجية كقائد قادر على الوقوف نداً لند أمام واشنطن.
من ناحيته، استخدم ترامب القمة لترسيخ صورته كصانع سلام منفرد، متحرراً من القيود التقليدية لحلفاء واشنطن. اختياره لخطاب “السلام الشامل” لم يكن مجاراة للغة بوتين فحسب، بل رسالة مبطنة لكييف وحلفاء الناتو بأن سياساته لن تكون رهينة لمطالبهم. وقد تسربت تقارير شبه مؤكدة تشير إلى أن ترامب أعطى بوتين إشارات حول قبول جزء من السيطرة الروسية على شرق وجنوب أوكرانيا مقابل ضمانات أمنية محدودة لكييف، ما يعكس تفاهمات مبدئية لم تُعلن بعد رسمياً.
قراءة مخرجات القمة وردود الأفعال تشير إلى ملامح صفقة محتملة تتبلور في الأفق: فمن المرجح أن تدفع واشنطن نحو اعتراف عملي، ولو غير مباشر، بالسيطرة الروسية على أجزاء من أوكرانيا، تحت مسميات مثل “الحقائق الأرضية” أو الحكم الذاتي الموسع. مقابل ذلك، قد تُقدّم ضمانات أمنية لكييف، ربما عبر عضوية مخففة في الناتو أو شراكة استراتيجية موسعة، تهدف لسد فجوة الحماية دون استفزاز موسكو بشكل كامل. وتشير التسريبات شبه المؤكدة إلى أن القمة ناقشت أيضًا ملفات الطاقة، حيث يمكن أن تشمل الصفقة تنظيم صادرات النفط والغاز الروسي إلى أوروبا لتجنب أزمات الإمدادات المتكررة. كما أن بعض الدوائر الغربية تؤكد أن القضايا الإنسانية، مثل ملف الأطفال الأوكرانيين الذي ألمحت إليه رسالة ميلانيا ترامب، قد تكون بوابة لاتفاقات تمهيدية لزرع الثقة تدريجياً بين الطرفين.
مع ذلك، الطريق إلى أي اتفاق حقيقي محفوف بعوائق كبرى. التحدي الأكبر يكمن في مدى استعداد أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين لقبول تسوية ترسخ المكاسب الإقليمية الروسية، مهما كانت الضمانات المقدمة. رفض كييف، المدعوم من بعض العواصم الأوروبية، يمكن أن يحوّل أي صفقة إلى حبر على ورق. كما أن طبيعة الضمانات الأمنية لأوكرانيا في ظل غياب العضوية الكاملة في الناتو تطرح تساؤلات عن فعاليتها في ردع العدوان المستقبلي. إضافة إلى ذلك، أي اتفاق مبني على فرض الأمر الواقع يحمل بذور عدم الاستقرار، وقد يكون هدنة مؤقتة تسبق جولة صراع جديدة، خصوصاً في ظل سجل موسكو في الالتزام بالاتفاقيات السابقة.
قمة ألاسكا لم تكن نهاية المطاف، بل بداية مسار تفاوضي شائك، ترسم فيه واشنطن وموسكو معالم المرحلة القادمة بمفردهما إلى حد كبير. بوتين خرج منها منتصراً في معركة الصورة والرؤية، بينما وضع ترامب نفسه في قلب صناعة السلام العالمي. لكن السؤال المصيري يظل قائماً: هل يمكن لأوروبا وأوكرانيا أن تقبلا تحديد مصيرهما في غرفة مفاوضات مغلقة بين القوتين العظميتين؟ الأشهر القادمة ستحدد ما إذا كانت الصفقة التاريخية ستعيد رسم خرائط القوة، أو تهدئة مؤقتة تجمد جبهات القتال، أو انسداد يعيد الصراع إلى دائرة العنف.
خاص وكالة رياليست – عبدالله الصالح – كاتب وباحث ومحلل سياسي – العراق.