بغداد – (رياليست عربي): يمثل ملف “خور عبد الله” إحدى أعقد القضايا الحدودية التي ظلت عالقة بين العراق والكويت لعقود، وانفجرت من جديد في السنوات الأخيرة لتتحول من اتفاق قانوني إلى نزاع سيادي يتصدر العناوين السياسية والإعلامية. تقع هذه البقعة البحرية الحساسة على الطرف الشمالي من الخليج العربي، وتشكل الشريان البحري الوحيد الذي يربط العراق بالعالم، مما يجعلها مسألة وجودية بالنسبة لبغداد، وذات أهمية استراتيجية قصوى بالنسبة للكويت.
تعود جذور النزاع إلى بدايات القرن العشرين، حين رسمت بريطانيا – بصفتها القوة الاستعمارية آنذاك – الحدود بين العراق والكويت وفق اتفاقيات غير دقيقة، أبرزها اتفاقية العقير عام 1922 التي لم يشارك فيها العراق مباشرة. وعقب اجتياح العراق للكويت عام 1990، أصدر مجلس الأمن قراره الشهير رقم 833 لسنة 1993، الذي رسّم الحدود البرية والبحرية بين البلدين، بما في ذلك تقسيم مياه خور عبد الله مناصفة وفق خط الوسط البحري. القرار، ورغم اعتراف الحكومات العراقية اللاحقة به، ظل مثار جدل داخلي ورفض شعبي، خاصة في أوساط الرأي العام العراقي الذي اعتبره ظلماً تاريخياً موروثاً.
في عام 2012، وقع العراق والكويت اتفاقية لتنظيم الملاحة في الخور، صادق عليها البرلمان العراقي في 2013 بقانون رقم 42، واعتُبرت آنذاك محاولة لتطبيع العلاقات وضمان الاستخدام المشترك للممر البحري الحيوي. إلا أن الاتفاق لم يخلُ من الشبهات والاعتراضات داخل العراق، حيث اعتبره بعض السياسيين “تنازلاً عن السيادة البحرية” لصالح الكويت، خاصة مع تصاعد مشاريع تطوير ميناء مبارك الكبير الكويتي، الذي وُضع على مقربة شديدة من القناة الملاحية التي يستخدمها العراق للوصول إلى موانئه، ما أثار مخاوف من خنق العراق اقتصادياً وتقليص فعالية ميناء الفاو الكبير، أحد أعمدة استراتيجيته المستقبلية.
بلغ التوتر ذروته في سبتمبر 2023، حين أصدرت المحكمة الاتحادية العليا في العراق قراراً مفاجئاً بإلغاء قانون المصادقة على الاتفاقية، معللة ذلك بعدم حصوله على أغلبية الثلثين المنصوص عليها في الدستور العراقي عند التصويت، باعتبار الاتفاقية “سيادية” تستوجب هذا النوع من التصديق. القرار أطلق عاصفة من الجدل، ولاقى ترحيباً واسعاً داخل الأوساط السياسية والشعبية العراقية، حيث اعتُبر خطوة في اتجاه “استعادة السيادة”، بينما عبّرت الكويت عن امتعاضها الشديد، معتبرة القرار الأحادي انتهاكاً للاتفاقيات الدولية ولقرار مجلس الأمن، وأكدت تمسكها بالاتفاق وتنفيذه.
لم تقف القضية عند هذا الحد، ففي أبريل 2025، تقدم كل من رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني بطعون أمام المحكمة الاتحادية للطعن في قرارها السابق، مستندين إلى أن الاتفاق يندرج ضمن الاتفاقات التنظيمية وليس السيادية، وأنه يدخل في إطار التزامات العراق الدولية وفق اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، والمادة الثامنة من الدستور التي تفرض احترام المعاهدات والاتفاقيات الدولية. إلا أن المحكمة الاتحادية أرجأت البت في الطعون عدة مرات، كان آخرها في جلسة 19 يونيو 2025، حيث تم التأجيل مجدداً إلى 25 يونيو، وسط أنباء عن ضغوط سياسية دفعت ستة من قضاة المحكمة إلى الاستقالة، ما أضاف مزيداً من الغموض حول مستقبل القضية.
سياسياً، كشفت هذه الأزمة هشاشة التوازن بين التزامات العراق الخارجية وحساباته الداخلية. فمن جهة، يجد العراق نفسه ملزماً باتفاقات دولية تتعلق بترسيم الحدود والملاحة، ومن جهة أخرى، يواجه ضغطاً شعبياً وبرلمانياً رافضاً لأي تنازل يُنظر إليه على أنه تفريط بالسيادة. أما الكويت، فقد حظيت بدعم واضح من مجلس التعاون الخليجي الذي أكد وقوفه معها ضد أي محاولة لإعادة النظر في الاتفاقيات المعتمدة، مشدداً على احترام القرارات الأممية والالتزام بسيادة الدول الأعضاء.
ختاماً، فإن ملف خور عبد الله لم يعد قضية حدودية بحتة، بل تحوّل إلى أزمة سيادة وهوية وطنية وشرعية دستورية، تتقاطع فيها المصالح البحرية بالاعتبارات السياسية والتاريخية. العراق اليوم يقف أمام مفترق طرق حساس: إما المضي في تنفيذ الاتفاقات الدولية لضمان الاستقرار والانفتاح الاقتصادي، أو التمسك بموقفه السيادي وفتح الباب أمام نزاع دبلوماسي قد يجر تبعات إقليمية ودولية لا تُحمد عقباها. والكل يترقب ما ستقرره المحكمة الاتحادية بعد أيام، وهو قرار قد يحدد مستقبل الجغرافيا السياسية للبلدين لعقود مقبلة.
خاص وكالة رياليست – عبدالله الصالح – كاتب، باحث ومحلل سياسي – العراق.