موسكو – (رياليست عربي): في خضم التصعيد المتواصل بين أوكرانيا وروسيا، تبرز تساؤلات مصيرية حول إمكانية استئناف المفاوضات بين الطرفين بعد سلسلة من التطورات الأخيرة التي أُطلِق عليها وصف “أعلى مستويات التخريب” للجهود الدبلوماسية.
ووفقًا لتقرير نشرته وكالة “إزفيستيا” الروسية، فإن الموقف الأوكراني الأخير، الذي تضمن تحركات عسكرية واستفزازات دبلوماسية، قد أدخل عملية التفاوض في نفق مظلم، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي والأمني في المنطقة ويفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة، بما في ذلك احتمال توسع النزاع إلى حرب إقليمية شاملة.
تشير المعطيات الحالية إلى أن أوكرانيا، بدعم غربي واضح، قد اتخذت خطوات عدّة وصفتها موسكو بأنها “استفزازية ومتعمدة”، مما أدى إلى تدهور حاد في أجواء المحادثات، من جهتها، تتهم روسيا كييف بمحاولة كسب التعاطف الدولي عبر التصعيد الميداني، بينما تؤكد أوكرانيا أن جميع تحركاتها تأتي في إطار الدفاع عن سيادتها في مواجهة ما تعتبره “احتلالًا روسيًا”. هذا الجدل ليس جديدًا، لكنه يكتسب زخمًا أكبر في ظل التغيرات الجيوسياسية الأخيرة، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء وما يرافقه من تحديات لوجستية وعسكرية قد تغير موازين القوى على الأرض.
وفي خضم هذا التصعيد، يطفو سؤال جوهري على السطح: هل ما زال هناك مجال للعودة إلى طاولة المفاوضات؟ بعض المحللين يعتقدون أن الضغوط الدولية، خاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، قد تجبر الطرفين على استئناف الحوار، لكن مع اختلاف جذري في الأولويات والشروط المسبقة. فبينما تطالب أوكرانيا بضمانات أمنية دولية ودعم عسكري متواصل، تصر روسيا على ضرورة الاعتراف بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، بما في ذلك الوضع في إقليمي دونباس والقرم، وهو ما ترفضه كييف تمامًا.
دور الغرب في هذه المعادلة يبقى محوريًا، لكنه أيضًا عنصر إشكالي. فالدعم العسكري والسياسي المتواصل من واشنطن وبروكسل قد يعطي أوكرانيا دفعة معنوية لمواصلة المقاومة، لكنه في الوقت نفسه يزيد من تعقيد أي مسار تفاوضي محتمل. العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، رغم شدتها، لم تحقق الهدف المرجو منها حتى الآن، بل على العكس، قد تكون قد زادت من تشدد الموقف الروسي. في المقابل، هناك أصوات تدعو إلى وساطة أكثر حيادية، ربما من قبل قوى إقليمية مثل تركيا أو الصين، اللتين تمتلكان قنوات اتصال مع كلا الجانبين وقد أثبتتا في السابق قدرة على لعب أدوار وساطة فعالة، كما حدث خلال محادثات إسطنبول في المراحل الأولى من الأزمة.
لكن التحدي الأكبر أمام أي مفاوضات مستقبلية يبقى هو مسألة الضمانات الأمنية والحدود. فأوكرانيا تريد ضمانات دولية تمنع أي عدوان روسي مستقبلي، بينما ترفض موسكو أي شروط تمس بما تعتبره مناطق نفوذ حيوية لها، وإضافة إلى ذلك، فإن ملف دونباس يبقى العقدة الأصعب، حيث تصر كييف على استعادة السيطرة على كل أراضيها، بينما تعتبر موسكو أن هذه المناطق جزء من دائرة مصالحها الأمنية.
التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأوكرانيين، التي تشترط انسحاب القوات الروسية إلى مواقع ما قبل فبراير 2022 كشرط مسبق لأي مفاوضات، تزيد من تعقيد الموقف. فروسيا، من جانبها، ترفض هذا الطرح جملة وتفصيلًا، مما يجعل الفجوة بين الطرفين تبدو غير قابلة للجسر في المدى المنظور.
في هذا السياق، يبرز سؤال آخر: هل ما زال هناك أمل في حل دبلوماسي؟ الإجابة ليست بسيطة، لكن ما يمكن قوله هو أن الخيار العسكري، رغم كل شيء، يبقى الأكثر كلفة للجميع. فالحرب الطويلة ستستنزف الموارد البشرية والمادية لأوكرانيا، كما أنها ستزيد من العزلة الدولية لروسيا وتفاقم الأزمات الاقتصادية فيها. أما الغرب، فسيجد نفسه في موقف صعب بين استمرار الدعم المكلف لأوكرانيا والضغوط الداخلية الناتجة عن الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها دوله.
في النهاية، فإن مستقبل المفاوضات الأوكرانية الروسية سيعتمد على عدة عوامل، أهمها مدى استعداد كل طرف لتقديم تنازلات مؤلمة، ومدى قدرة المجتمع الدولي على ممارسة ضغوط فعالة لدفع الأطراف نحو التسوية. لكن ما هو مؤكد الآن هو أن الوقت ليس في صالح أي من الطرفين، فكل يوم يمر دون حل يعني مزيدًا من الخسائر البشرية والمادية، ومزيدًا من تعميق جراح المنطقة التي أنهكتها الحروب على مدى السنوات الماضية.