القاهرة – (رياليست عربي): بالتزامن مع تصاعد حدة الصراع العسكري بين حركة حماس الفلسطينية وإسرائيل في قطاع غزة بعد انقضاء الهدنة الإنسانية بين الجانبين، وما يشهده الشعب الفلسطيني الأعزل من ممارسات وحشية وإبادة جماعية على أيدي قوى الاحتلال الغاشم، أدلى الزعيم الإيراني “عليّ خامنئي” بتصريح حول وضع اليهود المستقبلي في فلسطين يتنافى تمامًا مع توجهات الجمهورية الإسلامية المناوئة لإسرائيل إقليميًا ودوليًا، وموقف هذا النظام الداعم لحماس والقضية الفلسطينية منذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023.
قال “خامنئي” صباح يوم الأربعاء الماضي 29 نوفمبر خلال لقائه بجمع غفير من قوات التعبئة الشعبية “سازمان بَسیج مستضعفین”، التابعة للحرس الثوري الإيراني بمناسبة الاحتفال بذكرى تأسيسها: “إن بعض المتحدثين باسم العالم عندما يتحدثون عن آراء الجمهورية الإسلامية حيال المنطقة، يقول كذبًا: إن إيران تقول يجب إلقاء اليهود والصهاينة في البحر، كلا؛ هذا الكلام قاله آخرون أو شخصيات من العرب سابقًا، لكننا لم نقله مطلقًا، ولن نلقي بأحد في البحر. نحن نقول إن الرأيَ رأيُ الشعب، والحكومة المشكلة بأصوات الشعب الفلسطيني ستتخذ قرارها بخصوص الأشخاص الموجودين هناك، ومَن قدموا من بُلدان أخرى، وربما يقولون للجميع اِبقوا في فلسطين”.
كما عَبَّر “خامنئي” في اليوم نفسه عن مجمل ما قاله في هذا اللقاء خلال رسالةٍ له في حسابه الرسمي باللغة العربية على منصة “إكس” –تويتر سابقًا– جاء فيها: “يكذب بعض الأشخاص في العالم حين يدعون أن إيران تقول: يجب رمي اليهود والصهاينة في البحر. كلا؛ لم نقل ذلك أبدًا. نحن نقول إن أصوات الناس هي ما يحدد المصير. والحكومة التي ستتشكل بأصوات الشعب الفلسطيني، ستقرر هل الذين جاؤوا من دول أخرى سيبقون أو يرحلون”.
أثارت هذه التصريحات جدلًا واسعًا داخل إيران وخارجها باعتبارها تمثل تحولًا كبيرًا في رؤية النظام الإيراني لإسرائيل من قبل أرفع مسؤوليه “المرشد الأعلى”، وتناقضًا صارخًا مع تصريحات أخرى أدلى بها الزعيم الإيراني منذ سنوات. فقد أكد “خامنئي” مرارًا وتكرارًا أن إسرائيل “كيان مُغتصِب” و”ظاهرة شيطانية” يجب القضاء عليها، وذلك عن طريق تسليح جميع الفلسطينيين بمن فيهم أهالي الضفة الشرقية. كما تنبأ في عام 2015 بأن الكيان الصهيوني لن يكون موجودًا بعد 25 عامًا، وعُلقت في الشوارع الإيرانية وميادينها العامة آنذاك لوحات إعلانية تعرض تاريخ زوال إسرائيل بالعد التنازلي.
إن كان “خامنئي” قد تنصل من دعوى إلقاء اليهود في البحر أو محو إسرائيل من على وجه الأرض، فقد صرح عدد من المسؤولين العسكريين في إيران بهذا الأمر عدة مرات. ففي سبتمبر 2018 أوصى القائد العام للحرس الثوري اللواء “حسين سلامي” قادة إسرائيل بأن يتعلموا السباحة في البحر المتوسط، لأن لن يكون هناك طريق أمامهم سوى القفز في البحر. وفي مارس 2019 هدد قائد القوات البرية بالجيش الإيراني العميد “کیومرث حیدري” إسرائيل قائلًا: “لقد عُلق تاريخ زوال إسرائيل أعلى ثُكُنات القوات البرية كافة”.
هذا التحول الواضح فی تصریحات “خامنئي” إزاء إسرائيل ليس مفاجئًا أو مثيرًا للدهشة، لأنه يتماشى مع توجهات النظام الإيراني منذ بداية عملية طوفان الأقصى المتمثلة في تجنب الصدام المباشر مع إسرائيل، والاكتفاء بالإدلاء بتصريحات “عنترية” من حين لآخر من قبل المسؤولين الإيرانيين أو أطراف “محور المقاومة” كما رأينا ونرى وسنرى.
ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب ذكرتُها آنفًا إبان حديثي عن نتائج عملية “طوفان الأقصى” على الصراع الإيراني والإسرائيلي في المنطقة؛ وهي أسباب برهنتها مجريات الحرب الدائرة بين حركة حماس وإسرائيل في قطاع غزة وتطوراتها.
بُعد المسافة الجغرافية بين إيران وإسرائيل، والدعم الأمريكي غير المشروط وغير المحدود لإسرائيل، والوضع الاقتصادي المتردي في إيران من جراء العقوبات الدولية، وما تمخض عنه من ارتفاع معدلات التضخم، وخفض قيمة العملة المحلية، وارتفاع نسب البطالة والفقر، وهجرة النُخب الإيرانية إلى الخارج، كلها أسباب جعلت المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل شبه مستحيلة، وخطوة محفوفة بالمخاطر ليست على إيران وحدها بل وإسرائيل أيضًا، وذلك في ظل استمرار الحرب كل هذا الوقت، وفشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة والخفية.
المصالح الإيرانية ومعاداة إسرائيل وأمريكا
بعيدًا عن الحرب الدائرة في غزة، فإن خطاب “معاداة إسرائيل وأمريكا” يعد جزءًا أصيلًا من أيديولوجيات النظام الإيراني، طالما تشدق به مسؤولو الجمهورية الإسلامية منذ نشأتها، لكن حينما تلوح في الأفق تهديدات خارجية، تصبح حماية النظام أهم من هذه الخطب الرنانة. فبعد عملية طوفان الأقصى، نفى “خامنئي” تورط إيران فيها، وقال: “إنها من تخطيط الشباب الفلسطيني وتنفيذهم”، وذلك على الرغم من الدعم المالي والعسكري اللامحدود الذي تقدمه إيران لحماس، ويتحدث عنه الطرفان علنًا.
وفي هذا السياق، صرح وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” في نوفمبر الماضي خلال حواره مع صحيفة “نيويورك تايمز” The New York Times الأمريكية في رده على سؤال يقول: متى سيتدخل “محور المقاومة” في حرب غزة، وعلى أي نحو سيكون ذلك؟، قائلًا: “هذا أمر يقرره المحور بنفسه، ولیس لنا دخل به. إن إيران لا تصدر أوامر إلى فصائل المقاومة؛ فهم يتخذون القرارات وفقًا لما تقتضيه مصالحهم وتطورات الأحداث”.
كما التزمت إيران الصمت حيال الضربة الجوية التي شنتها طائرتان أمريكیتان من طراز (إف–15 إيجل) F-15 Eagle مساء الأحد 12 نوفمبر الماضي، واستهدفت منشأة تدريب ومنزلًا آمنًا تابعين للحرس الثوري بالقرب من مدينتي البوكمال والميادين الواقعتين شرقي سوريا.
وكان وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” Lloyd Austin قد ذكر وقتها أن هذه الضربة تمت بتوجيه من الرئيس “جو بايدن” Joe Biden، وجاءت ردًا على هجمات الحرس الثوري المستمرة بالصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، نافيًا علاقة هذه الضربة بالحرب الدائر رحاها في غزة. ومع ذلك كان “بايدن” قد حذر طهران منذ بداية حرب غزة بأن تكف عن شن هجمات على القوات الأمريكية المتمركزة في الشرق الأوسط عن طريق وكلائها في المنطقة، وإلا ستواجه عواقب هذا الأمر.
إن إيران تدرك جيدًا أن حرب غزة تمثل لها ورقة رابحة على طاولة المفاوضات الدولية تستطيع التلويح بها في سبيل إحياء الاتفاق النووي، أو تحرير أرصدتها المجمدة في البنوك الأجنبية، أو رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها، أو تحسين علاقاتها مع الغرب، معولةً على علاقتها الوطيدة بحركة حماس ونفوذها الكبير على زعمائها، مما قد يترتب عليه تغيير مسار الحرب ومجرياتها، لذا لن تقدم إيران على الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وتخسر ورقة مضمونة الربح تحقيق لها مكاسب عديدة إقليمية ودولية.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر