القاهرة – (رياليست عربي): يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، باتت الصورة أكثر وضوحًا، هناك من رآها منذ البداية، وهناك من غض البصر عنها، وهناك مَن لا يزال يتجاهلها ويتنصل منها، لكنها أضحت اليوم واضحة كسطوع الشمس في كبد السماء.
إن حرب غزة لم تعد حربًا بين إسرائيل وحركة حماس، ولم يعد المراد منها الرد على هجوم السابع من أكتوبر أو إطلاق سراح رهائن إسرائيليين وأسرى فلسطينيين أو تحرير أرض مغتصبة قرابة قرن من الزمن. هذه الحرب هي مخاض أخير تنهض منه إسرائيل كلبؤة ترتع في ربوع الشرق الأوسط الجديد.
“الأسد الصاعد” هو الاسم الذي عمد رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو ” Benjamin Netanyahu أن يطلقه على عمليته العسكرية واسعة النطاق على إيران التي شنها فجر الجمعة 13 يونيو 2025.
هذا الاسم قد يحمل في ظاهره مفاهيم الفخر والمباهاة، لكنه يطمر في باطنه دلالة دينية كبيرة لدى اليهود، وأبعاد سياسية خطيرة تنذر بما سيكون عليه مستقبل إسرائيل في المنطقة.
في الإصحاح التاسع الأربعين من “سفر التكوين” بالكتاب المقدس، يجتمع النبي “يعقوب” بأبنائه ليُنبِئهم بما سيحدث لهم في نهاية الزمان، حيث يخبر ابنه “يهوذا” قائلًا: يهوذا، إياكَ يَحمد إخوتكَ (أي يُبجِلوكَ)، يدكَ على قفا أعدائكَ (أي منتصر عليهم)، يَسجد لكَ بنو أبيكَ (أي تصبح زعيم كل اليهود). يهوذا جرو (أي شبل) أسد… جَثا وربض كأسدٍ وكلبوةٍ (جلس واسترح). مَن يُنهِضُهُ؟ (من يقوى على الإطاحة به)، لا يَزوُلُ قضيب (أي صولجان المُلك) مِن يهوذا… وله يكون خضوعُ شعوبٍ،،،،، (الآيات 8: 10).
تُفسِر هذه الآيات المغزى الحقيقي وراء تسمية الهجوم الإسرائيلي الآني على إيران، وكأن إسرائيل تريد أن تخبر العالم أجمع بأن مُلك الدنيا قد دان لها في نهاية المآل مثلما تنبأ يعقوب النبي من قديم الزمان.
لقد بدأ العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة كردٍ مغرضٍ على هجوم مفاجئ شنته حركة حماس الفلسطينية على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023م، أسروا خلاله ما يقرب من 250 إسرائيليًا، واقتادوهم إلى القطاع.
بعيدًا عن دوافع الهجوم الحماسي ونتائجه، لقد أكدت إسرائيل أن هذا العدوان كان قدمًا عاجلًا أم آجلًا، لأن ما نراه اليوم قد تجاوز حدود الرد المعقول واللامعقول، وأصبح عملية ممنهجة تهدف إلى تغول إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، وتناميها كقوة جامحة لا رادع لها، تحظى بدعم غربي لامتناهي أمام خنوع عربي مخز يَندى له الجبين.
بحجة تحرير الرهائن الإسرائيليين، شنت حكومة اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو منذ ذلك الوقت هجمات وحشية متتابعة على قطاع غزة، ارتكبت خلالها جرائم حرب، وانتهكت الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية بشكل سافر، وتجاوزت كل الخطوط الحمراء على مرأى ومسمع الجميع، نجم عنها استشهاد وإصابة وفقدان أكثر من 200 ألف فلسطيني، بالإضافة إلى نزوح الآلاف داخليًا.
على الرغم من الجهود التي بذلتها مصر لوقف آلية الحرب الجنونية، تمادت إسرائيل في هجماتها وخرقت اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بينها وبين حماس في 15 يناير 2025م بوساطة مصرية قطرية أمريكية عدة مرات، مما أدى إلى انهياره تمامًا.
غدت تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني من أراضيه إلى شبه جزيرة سيناء هو الطرح المقدم من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، يسعيان بشتى الوسائل والسبل إلى تنفيذه على أرض الواقع، لكن مصر استطاعت أن تجهض هذا الضَّغث الشيطاني رغم ما واجهته من ضغوط عديدة على الأصعدة كافة من دول شقيقة وغير شقيقة.
في غمار هذه الحرب الشعواء، راحت إسرائيل تتخلص من أعدائها واحدًا تلو الآخر الممثلين فيما يُعرف باسم “محور المقاومة” بزعامة إيران، فقامت بحملة اغتيالات واسعة، شملت قادة الصف الأول والثاني من حركة حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، وحركة أنصار الله اليمنية (الحوثيين)، والجماعات المسلحة العراقية، ثم كانت المفاجأة بسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وصعود السيد “أحمد الشرع”، المعروف في الفترة الداعشية باسم “الجولاني”، العضو السابق في تنظيم القاعدة الإرهابي.
حرب إسرائيل مع محور المقاومة تناغمت مع عزف بعض الأنظمة الخليجية لأنها قوضت جماعات الإسلام السياسي “المتطرفة” بالمنطقة، رغم أن هذه الجماعات نمت وترعرعت وضرعت من ثُدِيّ دول الخليج، وسعت إلى زعزعة استقرار مصر وتحويل سيناء إلى قاعدة تنطلق منها الهجمات الإرهابية.
استطاعت مصر بقوة جيشها الباسل وإدارة شعبها العظيم ووعيه أن تحبط هذه المخططات الخبيثة في الداخل والخارج الرامية إلى انزلاق المنطقة في مستنقع الإسلامي الراديكالي بعد الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013م، ولا تزال تقف حائطًا صدًا أمام مخططات أخرى تسعى إلى زعزعة استقرار دول الشرق الأوسط من خلال تقسيمها على أسس عرقية ومذهبية مثلما يحدث الآن.
تمثل إيران عدو إسرائيل الأخير في محور المقاومة ومحطة نتنياهو النهائية في حرب غزة واسعة النطاق أو بالأحرى صراعه الإقليمي مع دول المنطقة من أجل فرض الهيمنة والنفوذ وصعود “إسرائيل اللبؤة” كما يقول الكتاب المقدس.
استطاعت إسرائيل خلال ضربتها الخاطفة الأولى فجر الجمعة 13 يونيو أن تصيب أهدافًا دقيقة في المحافظات الإيرانية ومدنها، بالإضافة إلى اغتيال ما يقرب من 20 شخصيةً عسكريةً رفيعة المستوى بالحرس الثوري والقوات المسلحة، و14 عالمًا نوويًا باروًا، كان أبرزهم، اللواء “محمد باقري” القائد العام للقوات المسلحة، واللواء “حسين سلامي” القائد العام للحرس الثوري، والعميد “أمير عليّ حاجي زاده”، قائد القوات الجو فضائية بالحرس الثوري، وعالم الفيزياء النووية “محمد مهدي طهرانجي”، والعالم النووي “فريدون عباسي دفاني” الرئيس الأسبق لهيئة الطاقة الذرية الإيرانية. وكانت المفاجأة غير المتوقعة قصف منزل السيد “عليّ شمخاني”، مستشار المرشد الأعلى (عليّ خامنئي) وممثله في المجلس الأعلى للأمن القومي بالمسيرات الإسرائيلية.
أصابت هذه الضربة النظام الإيراني بحالة من الربكة بعض الوقت، خاصة مع وجود شبكة متشعبة من الطابور من “عملاء الموساد الإسرائيلي” داخل وزارة الاستخبارات الإيرانية وعدد من الأجهزة الأمنية الحساسة بالدولة، وذلك باعتراف بعض السياسيين الإيرانيين من بينهم الرئيس الأسبق “محمود أحمدي نجاد”، مهدت ونفذت عمليات الاغتيال من الداخل.
عقب تدارك الموقف وتعيين قيادات عسكرية جديدة، جاء الرد الإيراني مساء يوم الجمعة بهجمة صاروخية مكثفة، أحدثت أضرارًا محدودة لا تقارن ما حدث في إيران، لكن من استمرار حالة التصعيد، واستهداف وزارة الدفاع الإيرانية والمطارات الرئيسية، ومنشآت “نطنز وفوردو” النووية، مَجمع “الباستور”، محل إقامة المرشد الأعلى “علي خامنئي” ورئيس الجمهورية “مسعود بزشكيان” من قبل إسرائيل، تمكنت إيران فجر يوم الأحد 15 يونيو من توجيه ضربات قوية في العمق الإسرائيلي بعد استخدام الصواريخ باليستية والفرط صوتية بالغة التطور، طالت البنية والتحتية وقواعد عسكرية ومطارات رئيسية ومؤسسات حساسة كجهاز الأمن العام (شاباك)، وميناء ومصفاة حيفا، ومعهد “وايزمان” للعلوم، واستهدفت محيط منزل نتنياهو في بلدية “قيسارية” المحتلة، فضلًا عن تدمير مناطق شاسعة من تل أبيب ومدينة “يام بات” الساحلية، وانهيار مباني عديدة بمختلف أنحاء إسرائيل، في مشهد صار يشبه مشاهد تدمير قطاع غزة، وأصاب الحكومة الإسرائيلية بحالة من الذهول، وجعل العالم يغير نظرته إلى إيران من دولة القول إلى دولة الفعل.
الحقيقة أن الهجوم الإسرائيلي على إيران هو أمر محسوم منذ فترة طويلة، سواء تمكنت طهران من إبرام اتفاق نووي مع واشنطن أو لا، فالتصريحات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” Donald Trump عقب الضربة الأولى من الهجوم الإسرائيلي كشفت عن علمه بالهجوم مسبقًا.
إن الحرب الدائرة رحاها حاليًا بين إيران وإسرائيل ستنتهي في جميع الأحوال، لكنها نهاية لها سرديتين. السردية الأولى هي وقف الحرب بوساطة غربية قد تقوم بها “روسيا” أو عربية قد تقوم بها “مصر” بعد التقارب الأخير مع إيران.
في هذه السردية ستجلس إيران إلى طاولة المفاوضات الأمريكية على كرسي الدولة القادرة وليست الخانعة بعد رد اعتبارها دوليًا جراء الهجوم الإسرائيلي السافر على أراضيها، وضرب إسرائيل في عقر دارها بقوة غير معهودة. ستتمكن إيران من إبرام اتفاق نووي يصل ببرنامجها النووي “السلمي” إلى بر الأمان، ومنه تنهض كقوةٍ إقليميةٍ لديها القدرة على تصنيع القنبلة الذرية في الخفاء كما تريد كسلاح رادع أمام الجموح الإسرائيلي – الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.
هذه السردية لها مكاسب عديدة:
أولًا: ترسيخ دعائم النظام الإيراني المخلخل منذ سنوات جراء موجات الاحتجاجات الشعبية المتتابعة على النظام الثيوقراطي، واستحضار روح الزخم الثوري في قلوب الشعب الإيراني كما حدث في عام 1979 بعد تحقيق هدف الثورة الأصيل؛ محاربة قوى الاستكبار “إسرائيل وأمريكا”.
ثانيًا: تقارب مصري إيراني محتوم باعتبارهما الدولتين الكبيرتين اللتين خرجتا من “فوضى الشرق الأوسط الخلاقة” دون المساس بسيادتهما وأمنهما القومي وجيشهما النظامي. ستعيد مصر وإيران ترتيب أروقة المنطقة بشكل يتوافق مع مصالح الشعوب لا المصالح الأمريكية. هذا الأمر لن يكون يسيرًا، وستحول بعض الأطراف الإقليمية والعالمية دون تحقيقه.
ثالثًا: تداعي الصورة الوهمية التي راحت ترسمها إسرائيل لنفسها أمام العرب كونها دولةً لا تُقهر كما حدث في نصر أكتوبر المجيد 1973م. المشاهد التي نراها اليوم عبر وسائل الإعلام المختلفة في تل أبيب والمدن الإسرائيلية لم يرها الجيل الجديد من اليهود سوى في كتب التاريخ أيام حرب 48 أو 73، وكانت بالنسبة لهم درب من الخيال.
السردية الثانية هي استمرار الحرب إلى زمان سرمدي يستنزف قدرات إيران المالية والعسكرية، ويُزِيد من وطأة الأزمة الاقتصادية في البلاد، ويؤدي إلى إضعاف مؤسسات الدولة ودخولها في دائرة مفرغة من صراع عسكري غير مجد مثلما حدث مع العراق في الثمانينيات.
في هذه الحالة، ستخرج إيران من الحرب دولة متفسخة، ضعيفة، متداعية، وهو الهدف الذي أعلنه نتنياهو صراحةً من الحرب؛ تقويض قوة إيران وتحجيم دورها في المنطقة حتى تبقى إسرائيل صاحبة يد طولى لا رادع لها سوى مصر حائط الصد الأخير لما يحدث من عبثٍ لا يستطيع أحد توقع نهايته. وإن عرجنا بالحديث عن تركيا سريعًا، فلها مشروعها الخاص في منطقة الشرق الأوسط، ويأتي الكلام عنه في حينه.
في جميع الأحوال هذه الحرب سيترتب عليها عواقب وخيمة، تلقي بظلالها على كل دول المنطقة. إيران بلد له ثقله في منطقة الشرق الأوسط، وانهياره أو تقويضه سيحدث خللًا كبيرًا في ميزان القوى بالشرق الأوسط مثلما حدث مع العراق عقب الغزو الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين.
إيران لديها القدرة على التحكم في الاقتصاد العالمي من خلال السيادة على مضيق هرمز، والاستحواذ على المركز الثالث في تصدير النفط والغاز الطبيعي، وقد بدت مؤشرات هذا الأمر واضحة عقب ارتفاع أسعار البترول بشكل غير مسبوق منذ بداية الحرب.
خاص وكالة رياليست – د. محمد سيف الدين – دكتوراه في الأدب الشعبي الفارسي، وخبير في التاريخ والأدب الإيراني – مصر