منذ أن أصبح سد النهضة قضية خلافية بين كل من السودان ومصر وإثيوبيا إنخرطت الأطراف في مارثون تفاوضي طويل ومُضني، وتأرجحت المواقف بين التشنج والمرونة وطرح الخيار العسكري كحل وأحيانا المفاوضات كوسيلة ناجحة لحل الازمة على أساس التشارك في المصالح وتقليل المضار وتوزيعها بين أطراف الملف حتى تتجنب المنطقة سيناريو الحرب المضر بأمنها وإستقرارها.
تحاصر المواطن السوداني بعض الظنون والشكوك وينتابه القلق حول قدرة الوفد والخبراء المنخرطين في المفاوضات في إدارتها بطريقة تحقق لبلده أقصى المكاسب، وهذه القناعات السلبية هي نتيجة طبيعية وذلك لإخترال ميزان الثقة بين المواطن والنخب السودانية بكل صنوفها، وبالتالي يتعين علينا كمتابعين أن نقدم تقييم يتيح للمواطن السوداني العادي فهم أساليب إدارة الوفد السوداني للمفاوضات، وبطبيعة الحال هذا التقييم سيكون بعيداً عن التعظيم والحماسة بل يشبع بالمعطيات الواقعية، وعليه برأينا إتبع السودان نماذج عديدة لإدارة المفاوضات وهي كالاتي:
–نموذج الطرح العقلاني: اعتمد الوفد السوداني على الطرح العقلاني في الاساس على سياسته التفاوضية، أي أنه تصرف بعقلانية وحسب الخسائر والمكاسب ورد على المخاوف والتعامل مع الفرص، وفي هذا السياق أطلق رئيس الوفد المفاوض البروفسير ياسر عباس وزير الري السوداني تصريحاً فحواه بأن المضار التي ستقع على السودان قليلة بالنظر الى المكاسب التي سيتحصل عليها من السد وهذا بطبيعة الحال هي قمة في الواقعية في إدارة المفاوضات حول الملفات الخلافية. وبالتالي يمكن القول بأن الوفد السوداني تعامل بعقلانية واضحة وبنى قراراته على أساس تحقيق القيمة العظمى أي المردود الأعظم من وراء الهدف الأساسي من المفاوضات.
– نموذج السلوك المؤسساتي: العديد من الخبراء يحصون المكاسب السودانية من سد النهضة ويعظمون منها دون الحديث على الخسائر او المضار التي يمكن ان تقع على السودان وهذه الأراء فنية بالأساس، وحصر المكاسب الفنية يشير الى قصور في نظر الوفد المفاوض حيث يعتبر قضية سد النهضة مسألة فنية كهروهيدروليكية ويعتبرون أن سد النهضة يمنح أثيوبيا كهرباء فقط، مع ان هذا السد بقدر ما سيمنح أديس ابابا الكهرباء سيكون بمثابة اداة سياسية قوية للتأثير على القرار السياسي السوداني ويمكن ان تؤثر على الأمن القومي السوداني بصورة أو بأخرى.
وبالتالي برأينا كان من المفترض ان يطبق الوفد السوداني نموذج السلوك المؤسساتي بحيث يشرك مؤسسات الدولة وأركانها المختلفة حتى يبحثوا عن المضار والمنافع بصورة متكاملة، وهذا ما تفطن اليه السيد رئيس الوزراء السوداني/ الدكتور عبدالله حمدوك مؤخراً، حيث أصدر قرار بتكوين لجنة عليا لمتابعة ملف سد النهضة الاثيوبي، برئاسته وعضوية كل من وزير شؤون مجلس الوزراء ، ووزير العدل، وزير الري والموارد المائية (عضواً ومقرراً)، وزير الخارجية المكلف، ومدير جهاز المخابرات العامة، ومدير هيئة الإستخبارات العسكرية. وهذه خطوة نحو الطريق الصحيح في إدارة ملف سد النهضة الاثيوبي.
– نموذج السياسات الحكومية: الفكرة الأساسية من هذا النموذج التفاوضي هي أن يتابع روؤساء الحكومات المفاوضات من أعلى الهرم، ويكونوا لاعبين أساسيين فيها متى ما تطلب الأمر ولكن دون تحيد دور الوزاراء والأجهزة الحكومية الأخرى، ويستخدم القادة في الغالب الكاريزما السياسية والمهارات الشخصية لهم من اجل تحقيق الأهداف المرجوة من المفاوضات، وهذا يتبعه السودان من خلال إنخراط السيد حمدوك في المفاوضات بين الحين والاخر، ولكن تشكك بعض الأوساط في القدارات والمهارات التي يمتلكها السيد حمدوك في أن يحقق أعلى المكاسب للسودان من سد النهضة، ناهيك عن الشكوك التي تحيط به بأنه يميل الى أثيوبيا بالمواقف، وهذا ما سيفقد السودان ورقة الحياد التي مارسها طوال المارثون المفاوضات.
وعلى ضوء ما تقدم يمكن القول بان هناك نقاط إيجابية كثيرة تحسب لصالح الوفد السوداني المنخرط في مفاوضات سد النهضة، حيث اعترض عندما أخل أي طرف من الاطراف بالمواثيق والمعاهدات، ورفض سياسة الأمر الواقع “على استحياء”، ومازال يحافظ على ورقة الحياد، ولكن ينبغي عليه أن يشرك المواطن السوداني من خلال إعلامه بمحاسن ومساوئ السد دون التأثر بأي موقف او رأي خارجي.
إبراهيم ناصر- باحث بمركز أنقرة لدراسة الأزمات والسياسيات (أنكاسام)، خاص لــ”رياليست”