موسكو – (رياليست عربي): تشهد منطقة بحر البلطيق تحولاً جذرياً في ديناميكيات القوة الإقليمية، حيث تتحول هذه المساحة المائية الضيقة إلى واحدة من أخطر نقاط الاحتكاك بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، هذا التصاعد في التوترات ليس ظاهرة عابرة، بل يعكس تحولاً استراتيجياً عميقاً في موازين القوى الأوروبية في أعقاب الأزمة الأوكرانية والتوسع المستمر لحلف الناتو نحو الشرق.
على الجانب الغربي، تشهد دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) تحولاً جذرياً في بنيتها الأمنية، فبعد أن كانت هذه الدول تعتمد على قوات دفاع محدودة، أصبحت الآن تستضيف قوات متقدمة من الحلف الأطلسي، بما في ذلك وحدات عسكرية أمريكية وبريطانية وألمانية متواجدة بشكل دائم. وتشير البيانات إلى أن حجم القوات الأطلسية في المنطقة قد تضاعف ثلاث مرات منذ عام 2022، مع نشر أنظمة دفاع جوي متطورة مثل “باتريوت” و”نايسام”. كما تشهد المنطقة تكثيفاً غير مسبوق في المناورات العسكرية، حيث تجري التدريبات الكبرى بشكل شبه متواصل، بمشاركة عشرات الآلاف من الجنود ومئات الوحدات العسكرية.
في المقابل، تتصاعد الردود الروسية بشكل مطرد. فمنطقة كالينينغراد، الجيب الروسي المعزول جغرافياً، تشهد تعزيزات عسكرية غير مسبوقة. وفقاً لتحليلات الاستخبارات الغربية، قامت روسيا بنشر صواريخ “إسكندر-إم” الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، بالإضافة إلى أنظمة “إس-400” للدفاع الجوي. كما تم تسجيل زيادة ملحوظة في تحركات الغواصات الروسية في مياه البلطيق، مع تكثيف رحلات الاستطلاع الجوي بالقرب من المجال الجوي للدول المجاورة.
الوضع في البحر نفسه أصبح مصدر قلق متزايد. فخطوط الملاحة البحرية الحيوية، التي تعتبر شريان الحياة الاقتصادي لدول المنطقة، أصبحت ساحة للمناورات العسكرية المتبادلة. وتشير تقارير بحرية إلى ازدياد حالات الاشتباك بين السفن الحربية الروسية والأطلسية، مع تزايد مخاطر الحوادث غير المقصودة. كما أن مشاريع خطوط أنابيب الطاقة تحت البحر، مثل “نورد ستريم”، أصبحت أهدافاً محتملة في أي تصعيد عسكري محتمل.
على الصعيد السياسي، يشهد الخطاب بين موسكو ودول البلطيق تصلباً غير مسبوق. فبينما تتهم روسيا هذه الدول بـ “التحول إلى منصات عدوانية” و”تشويه التاريخ المشترك”، ترد تالين وريغا وفيلنيوس باتهامات بـ “الاستفزازات المتعمدة” و”انتهاك المجال الجوي”. هذا العداء المتبادل تجلى بوضوح في سلسلة من الأزمات الدبلوماسية الأخيرة، بما في ذلك طرد الدبلوماسيين وفرض القيود على حركة المواطنين.
في العمق الاستراتيجي، تعكس أزمة البلطيق التحول الأوسع في الهندسة الأمنية الأوروبية. فبعد أن كانت المنطقة تعتبر “منطقة رمادية” في التسعينيات، ثم “منطقة تعاون” في العقد الأول من القرن الحالي، أصبحت الآن “خط تماس” بين القوى الكبرى. هذا التحول يرتبط بشكل وثيق بالتغيرات الديموغرافية في دول البلطيق، حيث ازدادت النزعات المعادية لروسيا بين الأجيال الشابة، بينما تشهد الجاليات الناطقة بالروسية عزلة متزايدة.
الجانب الاقتصادي يقدم منظوراً آخر للأزمة، فبينما تعمل دول البلطيق على تقليل اعتمادها على الطاقة الروسية عبر الاستثمار في محطات الغاز الطبيعي المسال والطاقات المتجددة، تواجه روسيا تحديات في الحفاظ على نفوذها الاقتصادي التقليدي. ومع ذلك، تبقى الروابط الاقتصادية قوية في بعض القطاعات، خاصة في مجال النقل والخدمات اللوجستية، حيث لا تزال الموانئ الروسية في البلطيق تلعب دوراً حيوياً في تجارتها مع أوروبا.
من وجهة نظر استراتيجية، تطرح أزمة البلطيق عدة تساؤلات جوهرية حول مستقبل الأمن الأوروبي، فمن ناحية، يجادل المؤيدون لسياسة الردع بأن التوسع العسكري الأطلسي ضروري لمواجهة “العدوانية الروسية”. ومن ناحية أخرى، يحذر المعارضون من أن هذه السياسة قد تؤدي إلى حلقة مفرغة من التصعيد، تزيد من خطر المواجهة العسكرية المباشرة.
المعضلة الأكبر تكمن في غياب آليات فعالة لإدارة الأزمات بين روسيا والناتو في المنطقة. فبعد تعليق معظم قنوات الحوار الثنائي، أصبحت احتمالات سوء الفهم والتقدير الخاطئ في ازدياد مستمر، هذا الوضع يثير قلقاً خاصاً بين الخبراء العسكريين، الذين يحذرون من أن أي حادث عسكري صغير قد يتطور بسرعة إلى مواجهة أوسع في ظل هذا الجو المشحون.
على المدى البعيد، يبدو أن منطقة البلطيق مقبلة على فترة ممتدة من عدم الاستقرار. فبينما تستعد دول الحلف الأطلسي لسيناريوهات الدفاع عن “كل شبر” من أراضي الحلف، تعزز روسيا قدراتها العسكرية في المنطقة استعداداً لما تراه “تهديداً وجودياً”، هذا السباق العسكري يتزامن مع تغيرات ديموغرافية واجتماعية عميقة قد تعيد تشكيل هوية المنطقة على المدى الطويل.
ختاماً، تبرز أزمة البلطيق كدراسة حالة للتحولات الجيوسياسية الكبرى التي تشهدها أوروبا في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، فما كان يعتبر ذات يوم “بحيرة سلمية” على أطراف الاتحاد الأوروبي، أصبح الآن بؤرة لأخطر المواجهات بين القوى النووية الكبرى، وفي حين أن كلا الجانبين يتبنى خطاباً دفاعياً، إلا أن السياسات المتبعة تدفع المنطقة بشكل متسارع نحو مزيد من العسكرة والاستقطاب، مما يزيد من مخاطر انفجار العنف في أي لحظة.