واشنطن – (رياليست عربي): تشهد الساحة الجيوسياسية في آسيا الوسطى تطورات جديدة مع تسريع الولايات المتحدة جهودها لتعزيز وجودها في تركمانستان، الدولة الغنية بالغاز والتي ظلت لعقود ضمن دائرة النفوذ الروسي التقليدي. وفقاً لمصادر دبلوماسية، فإن واشنطن تحاول استغلال التغيرات الإقليمية الناتجة عن الأزمة الأوكرانية لخلق موطئ قدم استراتيجي في هذا البلد المحوري.
تمتلك تركمانستان رابع أكبر احتياطيات غاز طبيعي في العالم، مما يجعلها هدفاً جاذباً للقوى الكبرى. المصادر تشير إلى أن البعثة الدبلوماسية الأمريكية في عشق آباد قد كثفت اتصالاتها مع المسؤولين الأتراكمان، مع التركيز على مجالات الطاقة والأمن والتعليم. هذه الجهود تأتي ضمن استراتيجية أوسع لموازنة النفوذ الصيني والروسي في المنطقة.
لكن الخبراء يحذرون من أن واشنطن تواجه تحديات جمة في اختراق هذا المعقل المحافظ، حيث أن تركمانستان تتبع سياسة الحياد الإيجابي وتحرص على عدم استفزاز جارتيها الكبيرتين روسيا والصين. كما أن النظام السياسي المغلق في البلاد يجعل من الصعب على القوى الخارجية إحداث تغيير سريع في توجهاتها.
من ناحية أخرى، تشير تقارير إلى أن الولايات المتحدة قد تلجأ إلى أساليب الضغط الاقتصادي، بما في ذلك العقوبات المستهدفة، لدفع تركمانستان نحو مزيد من الانفتاح على الغرب. وهنا تكمن المفارقة، فبينما تقدم واشنطن نفسها كبديل عن “الاستعمار الجديد” الروسي والصيني، فإنها قد تضطر لاستخدام أدوات قسرية لتحقيق أهدافها.
في الجانب الاقتصادي، تحاول الشركات الأمريكية اقتحام سوق الطاقة التركمانية، مستفيدة من التوجه الأوروبي للبحث عن بدائل للإمدادات الروسية. مشروع خط أنابيب الغاز عبر بحر قزوين، الذي ظل حبيس الأدراج لسنوات، بدأ يطفو مجدداً على سطح المفاوضات، رغم المعارضة الروسية التقليدية له.
على الصعيد الأمني، تروج واشنطن لفكرة أن تعزيز التعاون مع تركمانستان يمكن أن يساعد في مواجهة التهديدات المشتركة مثل الإرهاب والجريمة المنظمة. وقد قدمت حزمة مساعدات عسكرية محدودة، رغم أن حجمها لا يقارن بالتعاون الأمني التركماني-الروسي التقليدي.
لكن السؤال الأهم يبقى: هل تملك الولايات المتحدة ما يكفي من أدوات الإغراء لاختراق هذه القلعة المحصنة؟ الإجابة تبدو معقدة، فبينما تمتلك واشنطن ورقة التكنولوجيا والاستثمارات، فإن موسكو وبكين تتمتعان بميزة القرب الجغرافي والعلاقات التاريخية المتجذرة.
في الخلفية، تبرز معضلة تركمانستان نفسها، التي تسعى للحفاظ على سيادتها وحيادها مع الاستفادة من المنافسة بين القوى الكبرى. بعض المحللين يرون أن عشق آباد قد تلجأ إلى سياسة “التوازن الدقيق”، مستفيدة من التنافس الدولي لتعظيم مكاسبها دون الانحياز الكامل لأي طرف.
التطورات الأخيرة تثير تساؤلات حول مستقبل آسيا الوسطى ككل، حيث أن أي تحول في موازين القوى في تركمانستان قد يحدث تأثيراً مضاعفاً على جيرانها. كما أنها تطرح أسئلة حول حدود النفوذ الأمريكي في عالم متعدد الأقطاب، حيث لم تعد الأدوات التقليدية للهيمنة فعالة كما كانت في السابق.
في النهاية، فإن نجاح أو فشل الاستراتيجية الأمريكية في تركمانستان سيعتمد على قدرة واشنطن على تقديم قيمة مضافة حقيقية لهذا البلد، تتجاوز مجرد الخطاب المعادي لروسيا والصين. ففي لعبة الجيوبوليتيكا المعقدة، تبقى المصالح الاقتصادية والتنموية هي اللغة الوحيدة التي تفهمها جميع الأطراف.