دمشق – (رياليست عربي): نمطية الصراع الجيو – استراتيجي، في دول الاتحاد السوفيتي السابق، تحكمها محددات طاقوية، وبصرف النظر عن التهويل الأمريكي، لمجريات الأحداث والعبث بسياقها، إلا أن الإدراك الأوروبي لطبيعة الصراعات مع روسيا، تحكمها في العمق معادلات أكثر أهمية، من التهويل الأمريكي المرتكز على أبجديات الصراع مع روسيا.
وعليه، فإن القوى الغربية وعلى تصادمها مع روسيا، إلا أنها تعي تماماً، بأن أي عمل عسكري روسي في أوكرانيا، ستكون له نتائج كارثية، تضرب قطاع الطاقة، وتدخله في أزمة أكثر حدة من الأزمة التي تضرب أوروبا حالياً، وبذات الإطار، فإن الرد الغربي بعقوبات اقتصادية على خلفية السياسات الروسية، قد تدفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى اتخاذ خطوات قاسية تجاه أوروبا، تتمحور حول قطع صادرات الغاز الطبيعي، الأمر الذي سيصيب مفاصل القارة الأوربية بالشلل.
لكن، ومن ضمن الردود الروسية القاسية، ثمة سلاح آخر من الأسلحة الروسية، لم يتم الحديث عنه كثيراً، يتمحور حول قدرة روسيا على تعطيل أسواق النفط العالمية، فروسيا لديها القدرة الحقيقية، لتعطيل تلك الأسواق، الأمر الذي من شأنه، إلحاق الضرر بالمستهلكين الأمريكيين بشكل مباشر. ضمن ذلك، ورغم الحديث الأمريكي، لجهة إيجاد بدائل طاقوية، لإمداد أوروبا بالغاز والنفط، إلا أن الحديث الأمريكي، لا يعدو عن كونه محاولة سياسية لزيادة تصلب الموقف الأوروبي تجاه روسيا، إذ لا يوجد ما يكفي من الغاز الطبيعي غير المتعاقد عليه في النظام العالمي، الذي يمكن إعادة توجيهه إلى أوروبا بسعر معقول، كما أنه لا يمكن أن يتدفق الغاز الطبيعي سوى عبر الأنابيب فقط، حيث تستقبله البنية التحتية القائمة فعلاً في أوروبا.
في ذات الإطار، فإن روسيا تدرك أيضاً، بأن مسألة قطع إمدادات الغاز عن أوروبا، له جوانب سلبية عديدة، أولها، الضرر الكبير الذي سيصيب العلاقات الروسية – الأوربية، الأمر الذي ستتلقفه الإدارة الأمريكية، وتوظفه ضمن طموحاتها الرامية إلى إيقاف تعاملات الأوربيين مع روسيا، دليل ذلك، الحديث الأمريكي عن عدم الرضى بشأن الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، وفي هدف أبعد، فإن واشنطن تعمل على تنفيذ معادلة ايقاف التعاملات مع “غازبروم”، الشركة الروسية العملاقة، والتي كانت لعقود مورداً للغاز إلى أوروبا. وكما قال مفوض المناخ في الاتحاد الأوروبي، فرانس تيمرمانز، لوزراء الطاقة والبيئة في الاتحاد الأوروبي في وقت سابق، “إذا كنا نريد حقاً التوقف عن جعل بوتين ثرياً للغاية على المدى الطويل، فعلينا الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، ونحتاج إلى القيام بذلك بسرعة”.
بالإضافة إلى ما سبق، يعتبر استهلاك أوروبا من الغاز الروسي، أمراً رئيسياً للاقتصاد الروسي، ففي عام 2021، شكل الغاز الطبيعي الروسي ما يقرب من 13% من إجمالي صادرات روسيا، إذ أودع ما يقرب من 62 مليار دولار في خزائن الكرملين. وبينما كانت روسيا تتطلع إلى تحويل غازها الطبيعي إلى أسواق أُخرى، يتم نقل الغالبية العظمى منه عبر خطوط أنابيب تتدفق من الشرق إلى الغرب، لذا فإن إعادة توجيهه إلى الأسواق الأكثر تعطشاً مثل الهند أو الصين سيكون مكلفاً للغاية، علاوة على ذلك، فإنه في الوقت الذي قد تتسبب فيه تصرفات روسيا بارتفاع كبير في أسعار الغاز الطبيعي، فإن الخزينة الروسية لن تستفيد بشكل كبير. فعدم القدرة على إعادة توجيه معظم الغاز إلى أسواق أُخرى، يعني أن بإمكان روسيا من خلال الأسعار المرتفعة تعويض جزء متواضع فقط من الإيرادات المفقودة بسبب انخفاض المبيعات.
وعطفاً على جملة المخاطر السابقة، فإن روسيا تجد في أسواق النفط، المكان المثالي للرد على الغرب، في حال نُفذت التهديدات حيال فرض عقوبات إضافية على روسيا، فالسوق العالمي للنفط ضيق للغاية في الوقت الحالي، ويتضح ذلك من خلال ارتفاع أسعار النفط حتى خلال شعور الاقتصاد بثقل متحور “أوميكرون”. وهنا يُمكن ملاحظة أن صندوق النقد الدولي قد عدّل توقعاته للنمو الاقتصادي العالمي في عام 2022 وخفضها بمقدار 0.5%، وبالتالي يمكن لروسيا أن ترفع الأسعار العالمية من جانب واحد، إذا خفضت إنتاجها النفطي الحالي البالغ 10 ملايين برميل يومياً، حتى ولو كان ذلك بكمية صغيرة نسبياً.
بالتالي، فإن ارتفاع أسعار النفط، سيؤثر بشكل مباشر على الولايات المتحدة، وما من شك ضمن ذلك، بأن إدارة بايدن ستُمارس المزيد من الضغوط على الرياض وأبو ظبي، لإنتاج المزيد من النفط على الفور، وحتى لو تمت الاستجابة للضغوط الأمريكية، فإن هذه الخطوات ستتسبب في استنزاف الفائض النفطي الموجود حالياً، لدى الرياض وأبو ظبي، الأمر الذي تؤطره مخاطر جمة، قد تنعكس سلباً على الداخل في كل من السعودية والإمارات.
وبين هذا وذاك، بات واضحاً أن قطع الغاز الطبيعي عن أوروبا، وكذا العبث بأسواق النفط، لن يكونا دون ثمن تدفعه روسيا، وهنا يحضر قوياً ما قاله “دان يرغين”، مؤلف كتاب “الجائزة: ملحمة البحث عن النفط والمال والسلطة”، عندما قال “على المرء أن يتذكر أن روسيا تجني أموالاً من صادراتها النفطية أكثر بكثير مما تجني من الغاز، لكن الارتفاع الحاد في أسعار النفط من شأنه أن يثير استياء الصين حليف روسيا الاستراتيجي، والتي بدورها ستُعيد كتابة قواعد النظام الدولي، بدءاً من الهيكل الأمني الأوروبي”.
خاص وكالة رياليست – أمجد إسماعيل الآغا – كاتب وإعلامي سوري.
